الحصان الخاسر في تل أبيب
الآن، وقد بلغت القلوب الحناجر، وكشفت معركة طوفان الأقصى كل ما حاول المنافقون والدجّالون التستر به وعليه، لم يعد ينفع استعمال الاستعارات والكنايات واللغة المواربة، حمّالة الأوجه، ولا التحلّي بأدب مزعوم، داسه الآخرون بنعالهم، كما داسوا دماء أطفالنا وأشلاءهم في كل بقعة وكل ذرّة تراب في غزّة، يجب أن تسمّى الأمور بأسمائها. أما أنتم، يا أهل غزّة، فعُذرا، أرجوكم توقّفوا عن الاستغاثة بمن خذلكم قبل أن يقتلكم العدوّ الصريح ممن يحملون العلم الأزرق، فقد خذلكم من قبلهم من يحفرون هذا العلم تحت جلودهم، ويتسلّلون بعد مشاركتكم صلاة العشاء إلى محافلهم ليتآمروا عليكم، ويضعوا الخُطط مع الأسياد لتنفيذها، بل ربما فقط لتلقّي التعليمات لتنفيذها، لأنهم أهوَنُ عند أسيادهم من أن يشركوهم في التخطيط، لأن عليهم التنفيذ والطاعة فقط، وإلا... لا كراسي ولا مساعدات ولا حماية من الشعوب المقهورة المسحوقة تحت بساطير الجلادين!
لسنوات خلت، كتبت عشرات المقالات والدراسات عن انهيار النظام العربي الرسمي، وإفلاسه، وجاء الوقت كي يسفر هذا النظام عن وجهه الحقيقي جهارا نهارا وبلا أي خجل، وبموقف غير قابل للتبرير أو التجميل (لا أعمم فالتعميم خطيئة، فثمة في هذا النظام من يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكن الموجة عاتية عالية، وتكاد تجرفهم كلما وقفوا في وجهها).
لسان حال هذا النظام في معظمه يقول للمقاومة، مستعيرا ما قال بنو إسرائيل لموسى: إذهب أنت وربّك فقاتلا إنا هنا قاعدون، متآمرون ومادّون يد المساعدة لمن يلغ في دمكم!.
الحقيقة التي يعرفها سواد العقلاء في بلاد العرب أن النظام العربي الرسمي هو الذي احتضن "إسرائيل" ورعاها وقوّاها حتى استوت على سوقها، وتمكّنت من ابتلاع كل فلسطين
لم نعد نقرأ بيانات كثيرين منهم، حتى وإن شحّت أخيرا، فلا فلسطين تهمهم ولا شعبُها، ولم تكن يوما قضيتهم الأولى، ولم يعملوا يوما على قيام دولة فلسطينية لطالما "طالبوا" بها كلاما وحاربوا قيامها بضراوةٍ في الغرف المغلقة. أما المقاومة، فتلك كانت منذ كانت جريمة الفلسطيني والعربي الكبرى، والهدف الذي صوّبت إلى قلبه البنادق والمدافع، فهي مفتاح عزة الشعوب، وبوّابة خلاصهم من الاستبداد والقهر ومصادرة الحرّيات والحاضر والمستقبل. لهذا وجبت شيطنتها، ووسمها بالإرهاب، وإدانة من "يتخابر معها" (!) ومحاكمته، وإلصاق تهم "المسّ بالسلم الأهلي" و"تهديد الأمن القومي" بكل من يحلم بمدّ يد العون لها، أو حتى من يتعاطف معها ولو بكلمة أو صورة أو قصيدة أو أغنية أو نشيد، فما بالك بمن ينخرط فيها، أو يمدّها بالسلاح والقوة؟
لم نكن بحاجة لنقرأ ما كتبه السياسي الأميركي دنيس روس إن من قابلهم من "سادة" العرب كانوا يحرّضون على حركة المقاومة أكثر من الصهاينة الأصليين. ولم نكن بحاجةٍ لسماع ما قاله كيسنجر مرّات إن أحدا من زعامات العرب لم يحدّثه عن ضرورة قيام الدولة الفلسطينية، فنحن نعرف، أو من يمتلك منّا الحد الأدنى من ملكة فكّ الحرف وقراءة الحدث، إن "إسرائيل" ما كانت لتقوم بقرار من الأمم المتحدة فقط، ولا بوعد عجوزٍ مأفون، ولا بعبقرية صحافي مهووس يسمّى هرتسل ألف كتابا فولد دولة (!). هذا كلام فارغ، وهراء يمكن أن يحفظه طلاب المراحل الابتدائية. الحقيقة التي يعرفها سواد العقلاء في بلاد العرب أن النظام العربي الرسمي هو الذي احتضن "إسرائيل" ورعاها وقوّاها حتى استوت على سوقها، وتمكّنت من ابتلاع كل فلسطين، وما جاورها، وغدت تل أبيب مهوى أفئدة "فرسان" الكلام والفصاحة العربية الذين لطالما أرغوا وأزبدوا منادين بتحرير فلسطين. أما حكاية التطبيع والاتفاقات الثنائية والتعاون الاستخباري والتنسيق الأمني، فتلك مرحلة العمل في العلن وفي ضوء الشمس، بعد عهود من التآمر والتعاون تحت الأرض.
بدأت خيوط فجر السابع من أكتوبر بالتسلّل إلى قلوب العطشى للنور
غزّة وطوفانها هي الكاشفة، فبعدها لم يعد ثمّة مستور في المشهد، فحين أصاب شرفاء الأمة وأحرارها عصابة تل أبيب الإرهابية في مقتل، هبّ الحلفاء وعبيدهم لنجدتها، بالسلاح والأرواح، فهي معقد آمالهم، ومناط بقائهم، وسوطهم المسلّط على رقاب شعوبهم، ومشروعهم الاستثماري الذي استثمروا فيه ملياراتهم و"أرواحنا!" وحرّياتنا واقتصاداتنا وخبزنا اليومي. ولسان حالهم يقول: إن سقطت سقطنا وداستنا الشعوب بنعالها، وتنسّم "الرعاع" رائحة الحرية، وحينها لا مقام لنا، ولا مصالح، ولا سيادة، ولا صولجان، ولهذا أيضا، لا بد أن تعطى عصابة تل أبيب كامل الوقت والجهد في الإجهاز على حلم التحرير والانعتاق من أثقال قرنٍ من الهزيمة والاستعباد.
ولكن.. يأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون، فالمُناجزة ما زالت في بدايتها، وإن سال الدم لشهر طويل، وكثر الضحايا، وفجَّر العدو ومسح كل ما سمّيت بالخطوط الحمراء، فقد بدأت خيوط فجر السابع من أكتوبر بالتسلّل إلى قلوب العطشى للنور، وزالت غشاوة الرؤية عن النائمين، والمغيبين، فحين يشقّ شعاع الشمس سجف الليل البهيم، لا تقف في وجهه لا غيوم ولا عواصفُ ولا سترُ مفتعلة. بدأ النور يغزو قلوب التوّاقين للخلاص، وستنهار السدود والقيود والحدود، عاجلا أم آجلا، وليبحث من راهن على الحصان الخاسر في تل أبيب عن ملاذٍ قبل أن تدوسه النعال، إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد، أليس الصبح بقريب؟
حاصر الإسبان طليطلة سبع سنوات، وعندما استسلمت قال لهم الإسبان: لماذا هذا الصبر على الحصار الطويل؟ قالوا كنا ننتظر المدد من ملوك الطوائف، عندها قال لهم الإسبان: ملوك الطوائف كانوا معنا في حصاركم... وبعد سقوط طليطلة أغار الإسبان على ملوك الطوائف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق