حديث “البرتقالة”
لله درك يا “ربيع”! لقد ألهبْتَ مشاعرَنا وأجَّجْتَ أشواقَنا، وأطلقت في جو الكآبة الذي يحيط بنا بسمةَ أملٍ وضَّاءة، كأنّ كل برتقالة طارت من يديك إلى العُلا شمسٌ تشرق وسحابةٌ تُغْدِق، كيف تَسَنَّى لك في لحظة خاطفة -وبدون ترتيب ولا تدبير- أن تَنْسِجَ من خيوط برتقالية رقيقة صبحًا مُتَوَّجًا بالشفق، لِتَنْسَخَ به ظلمةَ ليلٍ داجٍ غارقٍ في الغسق، كيف -وأنت رجل بسيط كبساطة البرتقالة- أُلْهِمْتَ هذه الحركة التلقائية الرشيقة، فأَلْهَمْتَ الجماهير وأشعلت مواقع ارتيادها وتواصلها؟! هل نقول إنّها عبقرية البساطة وإبداع التلقائية؟ وهل نحن الآن نصغي ونتملّى حديث البرتقالة؟!
عندما يقوم الضمير الجمعيّ شاهدًا
قالت البرتقالة: إياكم أن تظنّوا أنّني طرت في الهواء بقوة ساعديه ولا بدفع عضديه، ما طرت هكذا إلا بقوة القلب ودفع المشاعر، فإن كنتم في ريب مما أقول فاسألوا الشهود، فإنّ الجماهير لا تستلهم من الصور إلا ما كان منها ملهِمًا، ولا يملك الإلهام إلا ما صدر عن قلبٍ حيٍّ غذَّتْهُ مشاعر فيّاضة، وكل ما شهدَتْ به الجماهير بعفوية وتلقائية دون أن يسوقها إعلام مُوَجَّه فهو حق وصدق؛ ألم تروا إلى الطغاة لا يستقر لهم أمر إلا بتغييب وعي الجماهير؟ فهي -إِذَنْ- وعاء الوعي الموافق للفطرة.
لذلك وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مرتْ به جنازة فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، قَالَ: «وَجَبَتْ»، ثُمَّ مُرَّت به ِأُخْرَى، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا؛ فَقَالَ: «وَجَبَتْ»، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ لِهَذَه ولهذه وَجَبَتْ، فقَالَ: «المُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ»، ورُوي: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح»، ورُوي أيضًا: “لا تجتمع أمتي على ضلالة”؛ فأيُّما تصرُّف عفوي تلقائي لم يقع تحت تأثير ولم يَتَلَقّ توجيهًا، صدر من مسلم -بل ربما إنسان- فتلقاه الضمير الجمعيّ بالقبول، واستحسنة الذوق العام، ووافق الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولم يخالف منهج الله -وهو غالبًا لا يخالف منهج الله- فتفاعَلَتْ معه الجماهير فهو بالقدر الذي تفاعلت معه.
سبقت برتقالات عشرات الشاحنات
وقالت البرتقالة: على الرغم من تقديري لما تُقِلُّه الشاحنات من خيرات، وتعظيمي لشأن الذين أوقروها وأثقلوها وأترعوها، فإنَّني لست تجاه ذلك كله في موضع حطيط، فبرغم القلة والبعثرة والانكشاف في العراء؛ فقد سبَقْتُ كلّ ما هو تحتي مما استقرّ معلبًا أو مغلفًا أو مصفوفًا أو مرصوفًا، سبقتُه على كثرته وحسن ترتيبه وتبويبه، ولِمَ لا؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِئَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ»؟؛ قَالُوا: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: «كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ، فَتَصَدَّقَ بأَجوَدِهُمَا، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِئَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَتَصَدَّقَ بِهَا»، ألم يظفر صاحب الصاع من بين فحول المنفقين وأَجِلَّة المتصدقين بأن ذكره القرآن؟ فحين تصدق بصاع من تمر لمزه المنافقون وسخروا منه، فأنزل الله قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}، بل إنّ القرآن الكريم لينزل لأجل دمعةٍ سُكبتْ من فقير لا يملك ما ينفقه: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}.
لا تستهينوا بالشعوب
وصاحت وهي تحلق في الهواء: لا تَسْتَطِيبوا وصفهم بالدهماء، ولا تَسْتَلِذّوا وصمهم بالغوغاء، ولا تسترسلوا مع اتهامات مرسلة، يطلقها مثقفون مترفون يقبعون في أبراج عاجية، يصوغون الثقافة مفاهيمَ لولبية، أو يزجيها متفيهقون منبعجون، متخمون بأفكار تحتاج إلى مئة عام لتنقيتها مما أصابها من العنجهية، ولو فهم الأوائل لعرفوا أنّ كبار المفكرين الغربيين الذين فُتنوا هم بهم قد عظموا من شأن الشعوب إلى الحدّ الذي جعل مصطلح الشعب عندهم هو النسخة المحدثة من مصطلح الأمة لدى إضافته إلى الوظيفة السياسية، ولو فَقِهَ الأواخر لميَّزوا بين الحالات التي تقع فيها الشعوب تحت تأثير الطغاة والعابثين فتوصف بالغوغاء والدهماء، والحالات التي تسلم فيها من هذه المؤثرات فتقع الموقع الصحيح، فلا تنعقد الإمامة إلا ببيعتها بعد بيعة الكبار، ولا تمضي الأمور الكبرى المصيرية إلا باستشارتها؛ فخففوا الوطء أيها المثقفون، فما أنتم إلا مُزعة منتَزَعةً من هذا النسيج العام الذي نسميه الشعب.
أخوة إيمانية ومشاعر إنسانية
ولم تلبث البرتقالةُ أن استقرت مع أخواتها فوق ظهر الشاحنة، وما هي إلا لحظات مرت لفرط جمالها وجلالها كوميض البرق حتى رأى الناس القافلة تسير نحو غايتها، لكنّ قلوبهم معلقة ببرتقالات عمّ ربيع، ولا ريب أنّ حديث الخواطر والمشاعر دار كله حول الأخوة الإيمانية والمشاعر الإنسانية، فأمّا الأخوة فهذه رابطة ووَشِيجة لا تبلى على مرّ الأيام وكرّ الأعوام؛ إنّها رابطة الإسلام ووَشِيجة الإيمان، وإنّها لمنغرسة في عمق التاريخ من لدن هذا الأصل العريق: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}، هذه الأخوة لا يحدها مكان، ولا يحدها زمان، ألم تر إلى حَمَلَةِ العرش فوق السماوات يستغفرون لمن في الأرض، ثم يسهبون: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ}، ألم تعجب من شأن الأواخر حين يستغفرون للأوائل على هذا النحو: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ}.
وأمّا المشاعر الإنسانية فما أجلَّها وأكرمَها حين تستقل عن الأنظمة وأغراضها وأهوائها وتلبيسها، فانظر إلى حال الشعوب في الأرض كلها، على اختلاف مللها ونحلها وقومياتها وإثنيّاتها، كيف تنتفض كل يوم من أجل شعب غزة؟ ألَا إنّنا بحاجة إلى أنْ ندرك عمق هذه الرابطة ومتانتها؛ لنبني عليها خطة الدعوة إلى الله وقيادة الخلق إلى باريهم، لقد كان جميلًا ورائعًا أن يُذْكَرَ الإنسانُ مرتين في أول ما نزل من القرآن، في سياق التكريم والإكرام، ولا يُذكر العرب ولا قريش ولا ربيعة ولا مضر، على الرغم من نزول القرآن في بيئة تعظم من شأن الأنساب الخاصة ولا تعرف غير شعوبها وقبائلها وبطونها وعشائرها، ألا إنّه درسٌ كبير، فلا يمنعنك ارتفاع منزلتك من استلهامه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق