ملامح الثلث الأخير من خير القرون
أحمد الظرافي
ما كاد ينتهي القرن الأول الهجري حتى هدأت الفتن في الدولة الإسلامية وصبغت تلك المرحلة من تاريخ الدولة الإسلامية الناشئة بملامح وسمات ظلت على آثارها على سياج المجد قرونًا. فقد توحدت الدولة وهدأت الفتن وتحركت حركة الجهاد .. إلخ.
إن فترة الثلث الأخير من خير القرون وهو القرن الأول الهجري، تشبه في بعض جوانبها، تلك الفترة التي تلت نهاية حروب الردة واستقرار خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الثلث الأخير من القرن الأول الهجري، استقر أمر بني أمية (الفرع المرواني) في الشام، ودانت الأمصار الثائرة لهم بالطاعة، فانتهت ثورة ابن الزبير، في الحجاز (64- 73هـ)، وكُسرت شوكة الخوارج في فارس وكِرْمان، وسكنت العاصفة الهوجاء، التي أثارها، ابن الأشعث في العراق (81 -82هـ)، وعم فيها السلام، والاستقرار السياسي، جميع بلاد الإسلام، وسكّت النقود العربية الإسلامية، وتم دمغها بشهادة التوحيد، وشعارات الرسالة المحمدية (74-77هـ)، وإبعادها عن الدوران في فلك النقد البيزنطي، أو الارتباط بأسعاره أو أوزانه أو عياره، وكذلك عرّبت فيه الدواوين، هذه الأخيرة التي كانت قبل ذلك بالفارسية في العراق، وبالرومية في الشام، وبالقبطية في مصر، وصبغت الإدارة بالصبغة العربية، مع تمكين العرب المسلمين، من الإشراف على الإدارة المالية إشرافًا تامًا، وذلك في إطار سياسة[1] رسمها الخليفة الأموي، عبد الملك بن مروان (65-86هـ)، المؤسس الثاني، للدولة الأموية، والموصوف بالدهاء والرزانة والحكمة، والفصاحة والفقه، فضلا عن قوة العزيمة، وثبات النفس، وشدة البأس، والذي انتقل العرب، في عهده من غضاضة البداوة، إلى رونق الحضارة، ومن سذاجة الأمية، إلى حذق الكتابة، ومن التنازع والفرقة، إلى التآلف والوحدة، ناهيك عن: التحول الذي انتقل ببنية السلطة، من هيكل القبيلة، إلى هيكل الدولة، وما صحب ذلك، وتبعه من تغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية. وهي تغيرات انتقلت بالتراتب الاجتماعي البسيط، إلى تراتب اجتماع أكثر تعقيدا وتركيبا، خصوصا في البعد المقترن، بالتقاليد الجديدة، التي استوعبت ميراث الإمبراطوريات القديمة وتصاعدت بها، في سلم السلطة، واللباقة، والأساليب، والأعراف[2]. وكان ما قام به هذا الخليفة الإصلاحي العتيد "عبد الملك بن مروان"، من أعمال إصلاحية، ومن إخماد للفتن والثورات، وإجهاض لنيران العصبيات، من أهم العوامل في إعادة الوحدة لصفوف الأمة، ومن ثم استئناف الفتوحات، في الشرق والغرب، وكذا على الجبهة البيزنطية.
وهي الفتوحات، التي كانت قد توقفت لعدة سنوات، كانت الخلافة منصرفة خلالها إلى مواجهة أزماتها الداخلية، وبالتالي عودة حركة الجهاد، شبيهة بأيام الخليفة الراشد، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك في أواخر عهد عبد الملك، واستمرار هذه الحركة الجهادية الرائعة بزخمها القوي، طوال عهدي خلافة ولديه الوليد وسليمان، وهي الفترة، التي تم خلالها إضافة مساحات واسعة للدولة الإسلامية في البر والبحر شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، واعتنق الإسلام خلالها، العديد من الشعوب والسلالات والألسن، وتألق فيها عدد من القواد الكبار، من صانعي الانتصارات المجيدة، الذين كرّسوا حياتهم للجهاد، وعرفتهم الجبهات، كأعظم القادة الفاتحين، في تاريخ الأمة الإسلامية، بعد قادة العهد الراشدي، واخترقت شهرتهم الآفاق، من أمثال حسّان بن النعمان الغساني، وموسى بن نصير اللخمي، وطارق بن زياد البربري، في جبهة المغرب، والمهلب بن أبي صفرة، وقتيبة بن مسلم الباهلي، ومحمد بن القاسم الثقفي، في جبهة المشرق، ومسلمة بن عبد الملك بن مروان، على الجبهة البيزنطية، في آسيا الصغرى، وغيرهم من القادة الأبطال الذين اضطلعوا بمهمة حمل رسالة الإسلام، وأرسوا دعائم المجتمع الجديد، وتنظيم أمور الدولة، في شتى المفاصل الحيوية، وكانوا أساتذة ونماذج تحتذي للأمراء والقادة الفاتحين، الذين جاءوا بعدهم، واستلموا الراية منهم، لمواصلة مسيرة الفتوحات، ومن ثم وصول الدولة الأموية، ومعها الأمة الإسلامية، إلى أوج المنعة والحيوية، والقوة، وإلى قمة المجد والعز والرفاهية، حين كان العالم بأجمعه لا يزال يغط في سبات الجهل العميق، والخرافات القاتلة، والظلم القاسي، والاستبداد والاستعباد البغيضين.
نعم سبق هذه الفترة، تحول أسلوب الحكم من خلافة تقوم على الشورى إلى ملك وراثي، وتخللتها أحداث دموية رهيبة، انتهكت فيها بعض المحرمات، ولكنها كانت انتهاكات طارئة، كحصار الكعبة، مثلا، ومع ذلك يبقى الاجتهاد، في انتهاك هذه المحرمات بعيدا عن المناقشة، وأمره إلى الله، ولكن من حيث النتائج الوضعية، فقد تم القضاء على فرقة المسلمين، وتمزقهم، في الولاء لأكثر من خليفة مسلم، الأمر الذي أسهم، في توجيه هذا الجهد، نحو مراكز القوى المضادة، وتدعيم مكانة الدولة العربية الإسلامية، وكان ذلك يقينا، في مصلحة المسلمين، ولعزة الإسلام، ومنعته. مصلحة المسلمين، في بناء دولتهم القوية الأركان، المنيعة الجانب، والتي تُقام فيها الحدود، وتطبّق الشرائع، وفقا لما جاء به، كتاب الله، ووفقا لما حددته سنة رسوله[3] صلى الله عليه وسلم.
وبعبارة أخرى فإن تلك الانتهاكات، وإن كان لها أثرها في المدى البعيد، لم تغير من مجرى الإسلام الأصيل، ولذلك، فإن الفتوحات استمرت ورقعة الإسلام اتسعت، وذلك بسبب القوة الكامنة في طبيعة هذا الدين، والفيض العارم في طاقته الروحية. هذا: ويلاحظ أن أكثر الفقهاء في ذلك العصر تقبلوا خلافة بني أمية، وأفتوا بأنها خلافة شرعية، ويظهر أنهم فعلوا ذلك لثلاثة أسباب: الأول أنه يجوز أن يكون بعض الخلفاء من أمية، لأن شرط النسب والقرشية تحقق فيهم. والثاني أنه لا يصح الخروج عليهم، لأن الأمة بايعت لهم. والثالث أنه يجب الأخذ برأي الجماعة، لأنه أقرب إلى الصواب والحق، وأبعد عن الضلال والباطل، ولأنه أدعى للسلامة والعافية، وأنفى للاختلاف والفرقة[4].
وبعد، فهذه كانت أهم ملامح الثلث الأخير من القرن الأول الهجري وهو عصر، تجلت فيه مظاهر القوة والتمكين والاستقرار للإسلام، ولدولته، وأهله، في سائر الولايات المفتوحة، مع الزخم الجهادي، في الأطراف، كما تجلت فيه مظاهر الحضارة والثقافة، على كل صعيد، إلى جانب زيادة مساهمة التابعين، في الحياة العامة، كدعاة ومعلمين، وفي بلاط الخلفاء، كمستشارين، وكان لوجودهم في بلاط الخلفاء دور هام في تصحيح سياسات الخلفاء الأمويين: ومصدر ذلك أن المبادئ الإسلامية قويت في نفوس الناس كافة، وجعلت تحدُّ من تأثير التقاليد العربية، وتحلُّ محلها في كثير من جوانب الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية، ومصدره كذلك أن عبد الملك بن مروان نشأ نشأة إسلامية خالصة، حتى كان من أكبر فقهاء الأمة في زمانه[5].
[1] حول إصلاحات الخليفة عبد الملك بن مروان وأسباب ضربه للنقود انظر، هناء رضوان: النقود الإسلامية القديمة، مجلة الإجتهاد المتخصصة، العدد المزدوج 34، 35، شتاء وربيع 1417هـ/1997، دار الاجتهاد -بيروت، ص132-148. إبراهيم محمود: السلطة الثرية التفاعلات الجدلية بين التجارة والنقد والسلطة في الدولة العربية الإسلامية، نفس المرجع، ص303، 305. عبد الغني محمد عبد الله: تعريب الدينار بين القراطيس والروايات الحقيقية، مجلة العربي- العدد 363- فبراير 1989، ص153-158.
[2] جابر عصفور: تحول النموذج الأصلي للشاعر (مقال) مجلة العربي – العدد- 431- أكتوبر1994.
[3] انظر، بسام العسلي: عبد الملك القائد، سلسلة مشاهير الخلفاء والأمراء، دار النفائس- بيروت، ط1، 1406هـ/ 1986، ص114، 127.
[4] حسين عطوان: ملامح الشورى في العصر الأموي، ص35.
[5] المرجع السابق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق