«فكربْتُ كربًا ما كربتُ مثلَه قطُّ»
هكذا وصف النبيُّ حاله حين أخبر قريشا بنبأ الإسراء والمعراج، وإذا بهم يقلبون الأمر تحقيقا، كما هي نوعيات التحقيق في الأجهزة الأمنية، صاروا يسألونه عن تفاصيل في المسجد الأقصى لم يكن -صلى الله عليه وسلَّم- مشغولا بها ولا مهتما بتثبتها..
لقد خرج في ليلة على البراق إلى المسجد الأقصى ثم إلى السماء ثم نزل إلى الأقصى وصلى بالأنبياء.. تلك المشاهد الكبرى الخارقة تصرف النظر والقلب عن التفتيش في تفاصيل المكان!
ثم أتمّ الله عليه المعجزة، فرفع إليه صورة الأقصى، فصار يراه، وصاروا لا يسألونه عن شيء إلا أجابهم عنه.
هنا يتكرر المشهد الدائم، القديم الجديد المستمر، مشهد الداعية صاحب الرسالة وهو مكروب..
مكروب يريد لقومه الهداية..
ومكروب يريد أن يخبرهم بالمعجزة الشاهدة والدليل العظيم..
ومكروب حين لا يصدقونه فيقلبون اللحظة إلى تحقيق سخيف وسؤال عن التفاصيل الصغيرة التافهة.. (وهم الذين لَقَّبوه بالصادق الأمين من قبل)!
ثم ينفكّ الكربُ، ويثبت الصدق، ويظهر الدليل..
ثم لا يؤمنون..
أحاول أن أتخيل أحيانا، كم ضابطا في أجهزة الأمن رأى من الدلائل ما يحمله على الإيمان والتوبة.. ولم يفعل!
كم مرة رأى بريئا، وثبتت لديه براءته، ثم استمر في تعذيبه وسجنه واضطهاده؟!
ولكن.. كيف يبلغ الكرب بذلك المُعَذَّب المُضَّطَهد الذي لا يستطيع أن يثبت ما ينجيه من العذاب؟! إن التحقيقات الأمنية تسأل عن تفاصيل التفاصيل التي لا يهتم أحدٌ في العادة بالتفكير فيها أو الالتفات إليها!
فتأمّل كيف يجتمع الكرب الشديد، مع الجحود الشديد في الموقف الواحد؟!
لكن.. هل هذا الأمر خاصٌّ بأجهزة الأمن والمجرمون فيها؟!
لا، أبدا.. إنه يمتد إلى الموظف الصغير الذي يستطيع عرقلة مصالح الناس وإيقاف أرزاقهم وقلب حياتهم جحيما، مهما وقر في ضميره أن الواقف أمامه محتاج إليه!
بل يمتد إلى عالم النقاشات الفكرية.. حتى هذا الفيسبوك وغيره، يكشف عن بعض أولئك.. عن هذا الذي يتمحك في تفاصيل التفاصيل، ويطلب تلال الأدلة والبراهين، حتى إذا جاءت إليه لم يتغير موقفه أيضا!!
لئن كنتَ قد مررتَ في حياتك بشيء من هذا، فستعلم كم هو الكرب الذي لقيه حبيبك رسول الله ﷺ
فتأمل في رجل شهد الملكوت واحتفت به الملائكة وفتحت له السموات وصلى إماما بالأنبياء.. ثم إذا هو بعد ساعة أمام مجلس التحقيق القرشي الذي يسأله عن البناء والجدار، ويستقبله بالسخرية والاستهزاء.. بل إن بعض من أسلموا لما سمعوا بهذا ارتدوا عن الدين!!
وتأمل في الرجل الذي أقام دولة ووحَّد أمة وخاض المعارك والمشاهد واضطر إلى الهجرة وعانى من النفاق.. تأمل فيه كيف يتذكر مشهد هذا التحقيق القرشي ليقول فيه «كربت كربا ما كربت مثله قطّ»!
كل كربٍ دون كربك هيِّن يا رسول الله!
فداك أبي وأمي ونفسي ومالي..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق