النذل.. والأنذل!
تسابقَ ثلاثةُ رجالٍ يومًا في مسابقةٍ غريبةٍ، مسابقةٍ لاكتشاف أكثرهم نذالةً، فقالَ الأوّل: أنا أنذلكم! قالوا: أثبت لنا ذلك؛ فنزل الى الشّارع وأمسكَ عجوزًا تتهادى وحدها، بالكاد تقدر على المسير، وبدأ يضربُها بوحشيّةٍ حتّى أغمي عليها.
ورجعَ الى صاحبيه تاركًا ضحيّته غارقةً في دمائها؛ قائلًا بفخر: هل رأيتُم من هوَ أنذلُ منّي؟! فقال الثّاني: نعم أنا أنذلُ منك؛ فأجابوا بتعجّبٍ واستنكارٍ: وكيفَ ذلك؟! فما كان منه إلَّا أن تقدّم إلى العجوز نفسها؛ ونضحَ في وجههَا الماء فأفاقت من إغمائها؛ ليعاود ضربها بوحشّةٍ أكثر من سابقه، ثّم عرَّاها من ثيابها، وعاد إلى رفيقيه مزهوًّا بنذالته.
وصل ليجدَ الثّالثَ واقفًا يصفِّق ضاحكًا وهو يقول: لقد فزتُ أنا، أنا أنذلكم!! فاستنكرَ المُجرمَينِ: كيف تكون أنذَلنا وأنتَ لم تفعل شيئًا سوى الاكتفاءِ بالتَّصفيقِ والضَّحك لما نفعله بهذه العجوز؟؟! فقال لهما: هذه العجوزُ أمّي!!
إنَّ الكيانَ الصّهيونيّ غارقٌ في النّذالةِ لأنَّه يضربُ أمّنا فلسطين، وهو عنوانُ الإجرام الذي لا تخطئ نذالته عين؛ ولكن أنذلُ منه بكثير “ابن فلسطينَ” الذي يطاردُ المقاومين ويعتقلهم ويقتلهم كرمى عيون مغتصب أمّه، ويتغاضى عن تهويد القدس وتدنيس المسجد الأقصى.
وأنذلُ من الكيان الصّهيونيّ “ابن الأمّة” الذي يسعى جاهدًا للتّطبيع وطيّ صفحة العار؛ بل يسعى إلى تثبيت أوصال الضّحيّة التي هي الأمّ فلسطين ليتيح للعدوّ اغتصابها المستمرّ بكلّ يسرٍ وسهولةٍ، وقد صارت النّذالة بأبشع صورها وجهةَ نظرٍ يجبُ أن تُحتَرَمَ وتُتَقبَّل وما مؤتمرُ وارسو عنّا ببعيد.
إنَّ الطّغاة ليسوا أبناء الأرض مهما انتسبوا إليها وتكلّموا لغتها، إنّهم غرباء عن ملحها وعن مائها، غرباء عن تاريخها وحاضرها ومستقبلها، فلذلك هم قادرون على حرق كلّ شيءٍ وكلّ أحدٍ من أجل الاستقرار على الكرسيّ الزّائل لا محالة.
وهم عندما يضربون الأوطان التي يحكمونها يمارسون شيئًا من طباعهم التي أورثها لهم شذوذ الفرعنة وتجبّر الغربة عن هذه الأوطان؛ فهم يمارسون نذالةً لا تُستَغرَب من أمثالهم، ولكن أنذل منهم أولئك الذين يصفقون لهم مع كلّ مجزرة وكلّ إعدام، ويهلّلون لهم مع كلّ صاروخٍ أو قذيفةٍ أو برميل يشطر أجساد إخوانهم المفترضين.
فنظامُ بشّار الأسد الذي يضربُ أمّنا سورية نذلٌ مجرمٌ، لكن أنذل منه “ابن سورية” الذي طبّل لإجرامه وزيّن للسّفاح صنيعه في الإعلام تارةً وفي المؤسّسات الدّينيّة والأكاديميّة تارةً أخرى.
وكذلك نظام السّيسي الذي يضربُ أمّنا مصر بكلّ وحشيّةٍ نذلٌ، ولكن أنذل منه “ابن مصر” الذي يضع عمامةً ويبرّر القتل ويوقّع على الإعدامات.
وأنذل من السّيسي كلّ الذين يرقصون ويدبكون على وقع المجازر والإعدامات حاملين صورة المجرم مغنّين له “تسلم الأيادي”
وأنذل من السّيسي كلّ الذين ساندوا انقلابه على أوّل تجربةٍ ديمقراطيّة في تاريخ مصر كلّها لأنّهم يكرهون الإسلاميين ويخاصمون “الإسلام السّياسي”.
لا أحد يشكّ أنَّ أمريكا التي تضرب أمّنا “الأمّة الإسلامية” المنهكة تمارس أبشع صور النّذالة؛ فهي لم تترك رأسًا في بقعةٍ من بقاع الأمّة الإسلاميّة إلّا ومدّت يدها إليه لطمًا وصفعًا وشجًّا ولكمًا.
ولكن أنذل من أمريكا أولئك الحكام الذين جعلوا منها إلهًا لا يُقهَر، وأداروا الظّهور لشعوبهم وولّوا وجوههم شطر واشنطن وراحوا يحجّون إلى البيت الأبيض كلّما منّ عليهم سيّدهم هناك بفرصةٍ للقاء المقدَّس.
وأنذل من أمريكا أولئك الذين أفقروا شعوبهم، وسرقوا الخيرات التي تخرجها الأوطان من باطنها ويجود بها ظاهرها وقدّموا “جزيةً” لسدنة البيت الأبيض مقابل “الحماية” حماية الكرسيّ وحماية القمع وحماية القتل الممنهج.
من الضّرورة بمكان أن يتمّ تحريرُ هذا المعنى فيمن هو النّذل ومن هو الأنذل، ومن هو المجرم ومن هو الأشدّ إجرامًا، ومن هو العدوّ والأشدّ عداوة.
فإنَّ أخطر ما يمارسه الطّغاة هو تلبيسُ مفهوم العدوّ، وحصره في العدوّ الخارجي هو ممّا ساهم في انقسام المجتمعات على أنفسها عندما تواجه عدوًّا خطيرًا يفتك بها ويمسح وجودها حقيقةً ومعنى.
وإنّ فهم ماهية العدوّ وحقيقة عداوته لا تعني بالضرورة المواجهة المباشرة بقدر ما تعني اتخاذ التدابير اللازمة في التعامل مع العدو من الحيطة والحذر والتيقّظ وانتظار الفرصة المواتية وعدم الرّكون إلى معسول القول ولطيف الحديث.
إنّ هؤلاء الذين هم أنذل من اعدائنا الصريحين هم أعداءٌ أيضًا؛ ووضوح ذلك مهمٌّ للغاية عند التّعامل معهم في الأطر المختلفة وعلى المستويات المتنوعّة.
وقد وضع القرآن الكريم منهجًا واضحًا في تسمية هؤلاء بالعدوّ وطبيعة التعامل معهم ممّا يوجب على النّاس السير على هذا المنهج في التقييم وآليّة التعامل؛ قال تعالى: “وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُون” المنافقون: 4
25/2/2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق