الخميس، 29 فبراير 2024

حتمية الانتصار في معركة طوفان الأقصى


حتمية الانتصار في معركة طوفان الأقصى


إن نصوص الكتاب والسنة قد تضافرت على إثبات النصر في نهاية المطاف لأهل الإيمان وحملة العقيدة الصحيحة، وأن النصر ليس بالضرورة أن يكون في ساحات المعارك، فبقاء الإيمان رغم موت أصحابه نصر، وانتشار الدين نصر، والصبر على البلاء نصر، فأصحاب الأخدود انتصروا، والنبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي انتصر هو وأصحابه على قريش لما ثبتوا على عقيدتهم ودينهم.

الصبر وأهميته في حياة الأفراد والجماعات

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وسلم، أما بعد، فإني أكتب مقالي هذا بعد مرور أكثر من مائة يوم من عملية طوفان الأقصى التي قامت غضباً لله تعالى، وانتصاراً للمسجد الأقصى المبارك، الذي عانى من انتهاك المستوطنين اليهود له، مع دعم السلطات الإسرائيلية لهم بالحماية والتأييد.

وقديماً قيل: «النصر صبر ساعة»، بمعنى أن النصر ينزل على أكثر الفريقين صبراً وتحملاً، أما من يفقد صبره فإنه لا محالة ينسحب وتحل به الهزيمة.

وقد تكرر ذكر الصبر في القرآن الكريم أكثر من مئة مرة؛ فيها أثنى الله تعالى على الصابرين، وذكر بمواقف صبرهم وتحملهم ونوه لثوابهم، نحو قوله تعالى: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون: ١١١]. وفي الحديث عند البخاري، قال صلى الله عليه وسلم: «ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر»١.

وكل هذا يؤكد عظيم مكانة الصبر وأهميته في حياة الأفراد والجماعات.

وأعظم الصبر ما يكون في الجهاد والرباط وتحت ظلال السيوف وقصف المدافع، وعند البحث عن الوالد والولد تحت الأنقاض والركام في جنح الظلام ورائحة الموت في كل مكان. لسان حالهم: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ) [يوسف: ۱۸].

فلولا هذا الصبر لانهارت النفوس أمام هذه الخطوب والكروب، قال صلى الله عليه وسلم: «والصبر ضياء»٢.

رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الصابرين

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الصابرين في القيام بالفرائض واجتناب النواهي والصبر على الشدائد، وكان من أصبر الناس عند نزول البلاء، وضرب أروع الأمثلة في صنوف الصبر وأحواله؛ فصبر على أذى قومه حين جهر بالدعوة وصبر على حصارهم له بالشعب وصبر على هجرته وتركه بلده وقومه وماله في سبيل الله، وصبر على مشقة الجهاد، وصبر على الزهد والتقلل من ملذات الدنيا، وصبر على الوقيعة في عرض أهله، وصبر على أذى المنافقين.

وورد في الصحيحين، قال عبد الله: قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسمة كبعض ما كان يقسم؛ فقال رجل من الأنصار والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله ! قلت أما أنا لأقولن للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأتيته وهو في أصحابه فساررته فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وتغير وجهه وغضب حتى وددت أني لم أكن أخبرته، ثم قال: «قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر»٣.

وكان صلى الله عليه وسلم في ذلك محتسباً الأجر من الله مفوضاً أمره لله ، لم يشك حاله لمخلوق ممتثلاً قوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف: ٣٥]، فصلوات الله وسلامه عليه.

وقد أوصى أئمة السلف الصالح بالصبر وحثوا عليه؛ قال عمر رضي الله عنه: «وجدنا خير عيشنا بالصبر». وقال علي رضي الله عنه: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان». وقال الحسن: «وجدت الخير في صبر ساعة». وقال عمر بن عبد العزيز: «ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاض مكانها الصبر، إلا كان ما عوضه خيراً مما انتزعه». فلا خيار للمجاهدين في الأرض المقدسة إلا أن يصبروا ويصابروا ويجاهدوا، حتى يتنزل عليهم نصر الله تعالى.

الإعداد للجولات القادمة

ومما يجب الاهتمام به الإعداد للجولات القادمة، فطريق الإسلام لا يعرف فترة زمنية محددة من البذل والعطاء، ثم بعدها يلجأ الإنسان إلى الراحة والاسترخاء، مواسياً نفسه بأنه قد قام بالواجب والمطلوب، وعلى الآخرين أن يكملوا عنه المسير والطريق، كما يحلو ذلك للبعض، إنما هو بذل وعطاء، وجهاد، من المهد إلى اللحد!

والمسلم لا يعرف الراحة الحقيقية إلا في جنان الخلد، وهذا هو المستفاد من البيع والشراء الذي تكلم عنه ربنا عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: ١١١]

فالبيع قد تم، والشراء قد تم، والعقد قد مضى، ولا رجوع فيه ولا انتكاس، والله قد وفى وأجزل الوفاء، ولا بد للعبد من الوفاء!

والإعداد له شقان، معنوي ومادي، والأول أعظم من الثاني، لأنه أساسه وبه يقاتل المجاهد حقيقة. قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: ٦٠]. فقوله تعالى: (وأعدوا) أمر يفيد الوجوب.

وفي الحديث عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي»٤. وقال صلى الله عليه وسلم: «من علم الرمي ثم تركه فليس منا» أو: «قد عصى»٥. وهذا وعيد يفيد الوجوب.

ومما يدخل في الرمي المراد من الحديث: الرمي على المسدس والبندقية والمدفع والدبابة، ومنه الرمي على الصواريخ، فكل فنون الرماية هذه تدخل في المراد من كلمة «الرمي» الواردة في الحديث والتي يجب على المسلم أن يأتي منها ما يستطيع ويقدر عليه!

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير، واحرص على ما ينفعك»٦. والقوة هنا يُراد منها جانبا القوة والإعداد: المادي منها والمعنوي.

وهذا الخطاب للأمة الإسلامية كلها وخاصة من احتلت أرضهم، وهاجمهم العدو الكافر، وإن كان قد تقرر عند علمائنا من سائر المذاهب أنه إذا وطئ العدو أرض المسلمين فقد تعين عليهم الجهاد جميعاً، فكل من استطاع حمل السلاح وجب عليه ذلك، فإن لم يستطيعوا دفع العدو توسع الوجوب على من يليهم حتى يعم المسلمين جميعاً.

في «مختصر» خليل بن إسحاق الجندي: «وتعين بفجئ العدو وإن على امرأة وعلى من بقربهم إن عجزوا». وقال الخرشي: «ذكر هنا أنه قد يتعين على كل أحد، وإن لم يكن من أهل الجهاد؛ كالمرأة والعبد ونحوهما، كما إذا فجأ العدو مدينة قوم، فإن عجزوا عن الدفع عنهم فإنه يتعين على من بقربهم أن يقاتلوا معهم العدو ما لم يخف من بقربهم معرة العدو، فإن خاف ذلك بأمارة ظاهرة فليلزموا مكانهم”٧.

وقال المواق: « (وتعين بفجئ العدو) … قال أبو عمر (بن عبد البر النمري): يتعين على كل أحد إن حل العدو بدار الإسلام محارباً لهم فيخرج إليه أهل تلك الدار خفافاً وثقالاً، شباناً وشيوخاً، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكتر، وإن عجز أهل تلك البلاد عن القيام بعدوهم كان على من جاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة. وكذلك من علم أيضاً بضعفهم وأمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم. (وعلى قربهم إن عجزوا ) قال ابن بشير: إذا نزل قوم من العدو بأحد من المسلمين وكانت فيهم قوة على مدافعتهم فإنه يتعين عليهم المدافعة، فإن عجزوا تعين على من قرب منهم نصرتهم، وتقدم نص المازري: إذا عصى الأقرب وجب على الأبعد»٨.

وهذا الذي قاله أصحابنا من أهل المدينة، هو ما اتفق عليه علماء المسلمين بجميع طوائفهم، سنيهم وبدعيهم.

قال ابن تيمية: «فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجباً على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين لإعانتهم… وسواء أكان الرجل من المرتزقة للقتال أو لم يكن، وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله . مع القلة والكثرة، والمشي والركوب، كما كان المسلمون، لما قصدهم العدو عام الخندق ولم يأذن الله في تركه أحداً كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو، الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج… فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار، وذلك قتال اختيار؛ للزيادة في الدين وإعلانه ولإرهاب العدو»٩.

وقال كذلك: «إذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب؛ إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم، ونصوص أحمد صريحة بهذا وهو خير مما في المختصرات، لكن هل يجب على جميع أهل المكان النفير إذا نفر إليه الكفاية؟ كلام أحمد فيه مختلف»١٠.

وهكذا الأمر عند جميع الفقهاء دون استثناء.

هذا وقد يقول قائل: أنتم تأمرون الناس بالجهاد وتمنونهم بالنصر، وتعدونهم به. فعن أي نصر تتحدثون والناس قد قتل منهم آلاف ودمرت غزة عن بكرة أبيها وتشرد الناس فعادوا دون بيوت ولا أعمال ولا أموال؟

فالجواب هو أن نصوص الكتاب والسنة قد تضافرت على إثبات النصر في نهاية المطاف لأهل الإيمان وحملة العقيدة الصحيحة، وأن النصر ليس بالضرورة أن يكون في ساحات المعارك، فبقاء الإيمان رغم موت أصحابه نصر، وانتشار الدين نصر، والصبر على البلاء نصر، فأصحاب الأخدود انتصروا، والنبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي انتصر هو وأصحابه على قريش لما ثبتوا على عقيدتهم ودينهم.

أنواع النصر 

.. فالنصر أنواع:

١- قد يكون بالغلبة المباشرة والقهر للأعداء على أيدي الأنبياء أو الدعاة أو الجماعات أو الحركات؛ كما حصل لداود وسليمان عليهما السلام : قال تعالى: (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: ٢٥١].

وقد نصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم نصراً مؤزراً وخذل أعداءه يوم بدر وما بعدها، حتى ظهر الدين وقامت دولة الإسلام، هذا هو النصر الظاهر وهو أول ما يتبادر إلى الأذهان عند إطلاق كلمة النصر.

٢- وقد يكون بإهلاك الأعداء ونجاة الدعاة والجماعات والحركات؛ كما حدث لنوح عليه السلام حيث نجاه الله وأهلك قومه، قال تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر: ٩-١٢]. وهكذا قوم هود عليه السلام، قال الله تعالى: (فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [الأعراف: ۷۲].

لقد وردت في السنة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام أحاديث في النصر، من ذلك حديث عن حباب قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردةً في ظلّ الكعبة فشكونا إليه. فقلنا: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو الله لنا؟! فجلس محمراً وجهه، فقال: «قد كان من قبلكم يؤخد الرجل، فيُحْفَرُ له في الأرض، ثم يؤتى بالمنشار، فيجعل على رأسه، فيجعلُ فِرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحيم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه! والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله تعالى، والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلُونَ»١١.

وذكر الله تعالى شروط النصر في سورة العصر فقال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: ١-٣]. فالإيمان وعمل الصالحات والتواصي بالحق وبالصبر من شروط النصر الأساسية.

٣- وقد يكون الانتصار بانتقام الله من أعدائه بعد وفاة الأنبياء والرسل والدعاة والجماعات؛ كما حدث مع من قتل يحيى وحاول قتل عيسى عليهما السلام.

٤- وثبات الداعية على مبدئه نوع من أنواع النصر حيث يعلو على الشهوات والشبهات ويجتاز العقبات بشجاعة وثبات.

٥- وقد يكون النصر بقوة الحجة وصحة البرهان، قال الطبري عند قوله تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: ۱۷٣-۱۷٠]: «هو النصرة والغلبة بالحجج.. وهكذا قال السدي».

٦- وقد يكون ما يتصوره الناس هزيمة قد يكون هو النصر الحقيقي؛ كالقتل والسجن والطرد، أليس قتل الداعية شهادة؟ قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوْتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ رزَقُونَ) [آل عمران: ١٦٩]. وقال سبحانه: ﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ) [التوبة: ٥٢].

وأخيراً فقد قيل: «إن القوي إذا لم يقض على الضعيف فقد انهزم، وإن الضعيف إذا بقي ثابتاً لا يتزحزح، صامداً في مواقعه، فقد انتصر». وهذه المعاني بفضل الله تعالى كلها تحققت لأهل غزة وفلسطين.

حكم الابتلاء

هذا وإن كثيراً من الناس يتساءل عن حكمة ابتلاء أهل الأرض المقدسة بكل هذه البلايا العظيمة، ولا شك أن لله حكماً عظيمة في ذلك، فمن ذلك ابتلاء الله تعالى عباده المؤمنين الصادقين بالجهاد في سبيله، وفيه صنوف من الأذى والابتلاء بالقول والفعل، وأذى في الأموال بنقصها وهلاكها، وفي الأنفس بالجراحات والأسقام والأوجاع والقتل؛ قال تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران: ١٨٦].

ومن ذلك أن الله تعالى لا يقبل من العباد أن يكون إيمانهم مجرد دعوى فارغة من الدليل والبرهان؛ فلا بد لكل ادعاء من بينة على صحته؛ قال تعالى: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: ١٥٤].

وقال تعالى: ﴿ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران: ١٧٩].

ومن حكمة إنزال البلاء تكفير الخطايا ومحو السيئات؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة، في جسده، وفي ماله، وفي ولده، حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة”١٢.

قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (٣٠) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [الشورى: ٢٠-٢١].

فالله تعالى من رحمته يعفو عن كثير من الذنوب، ويعاقب العبد على بعضها ليرتدع وينزجر عن غيه، ويكون في ذلك تكفير لسيئاته؛ فالحكم قد تتعدد فيكون البلاء عقوبة للمؤمن ويكون كفارة في الوقت نفسه، كذلك ما دام العبد يتلقى المصاب بنفس راضية مؤمنة؛ فعن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يُصيب المسلم، مِن نَصب ولا وَصَبٍ، ولا هم ولا حزن ولا أذًى ولا هم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه”١٣.

وهذا فيه رفع درجات وتمحيص كبير، حتى يتنزل النصر على المسلمين وهم يستحقونه بما وصلوا إليه من إيمان وتحيص.

أما ما ينال الأطفال الأبرياء من البلاء؛ ففي كلام الإمام ابن القيم رحمه الله جواب عن ذلك، قال ابن قيم الجوزية: «ثم تأمل حكمة الله تعالى في كثرة بكاء الأطفال وما لهم فيه من المنفعة؛ فإن الأطباء والطبائعيين شهدوا منفعة ذلك وحكمته، وقالوا: في أدمغة الأطفال رطوبة لو بقيت في أدمغتهم لأحدثت أحداثاً عظيمة، فالبكاء يسيل ذلك ويحدّره من أدمغتهم فتقوى أدمغتهم وتصح، وأيضاً: فإن البكاء والعياط – أي: الصراخ – يوسع عليه مجاري النفس، ويفتح العروق، ويصلبها، ويقوي الأعصاب. وكم للطفل من منفعة ومصلحة فيما تسمعه من بكائه وصراخه، فإذا كانت هذه الحكمة في البكاء الذي سببه ورود الألم المؤذي وأنت لا تعرفها ولا تكاد تخطر ببالك: فهكذا إيلام الأطفال فيه وفي أسبابه وعواقبه الحميدة من الحكم ما قد خفي على أكثر الناس، واضطرب عليهم الكلام في حكمته اضطراب الأرشية -أي: الخصوم-“١٤.

وقال أيضاً: «هذه الآلام هي من لوازم النشأة الإنسانية التي لا ينفك عنها الإنسان ولا الحيوان، فلو تجرد عنها لم يكن إنساناً بل كان ملكاً أو خلقاً آخر. وليست آلام الأطفال بأصعب من آلام البالغين، لكن لما صارت لهم عادة سهل موقعها عندهم، وكم بين ما يقاسيه الطفل ويعانيه البالغ العاقل، وكل ذلك من مقتضى الإنسانية وموجب الخلقة، فلو لم يُخلق كذلك لكان خلقاً آخر، أقترى أن الطفل إذا جاع أو عطش أو برد أو تعب قد خُصَّ من ذلك بما لم يمتحن به الكبير؟ فإيلامه بغير ذلك من الأوجاع والأسقام كمايلامه بالجوع والعطش والبرد والحر دون ذلك أو فوقه، وما خلق الإنسان بل الحيوان إلا على هذه النشأة. قالوا: فإن سأل سائل وقال: فلم خُلق كذلك؟ وهلا خُلق خلقة غير قابلة للألم؟ فهذا سؤال فاسد؛ فإن الله تعالى خلقه في عالم الابتلاء والامتحان من مادة ضعيفة، فهي عرضة للآفات، وركبه تركيباً معرضا للأنواع من الآلام… فوجود هذه الآلام واللذات الممتزجة المختلطة من الأدلة على المعاد، وأن الحكمة التي اقتضت ذلك هي أولى باقتضاء دارين: دار خالصة للذات لا يشوبها ألم ما، ودار خالصة للآلام لا يشوبها لذة ما، والدار الأولى: الجنة، والدار الثانية: النار”١٥.

دعم المجاهدين وفضح المعتدين

وعلينا ألا تثنينا هذه المجازر والكوارث والمصائب عن دعم المجاهدين وفضح الأعداء المعتدين، فقد تيين، بفضل الله تعالى، أن تأثير ذلك كبير جداً في العالم، ولا أعلم يوماً تضامن فيه الناس مع قضية فلسطين كما حدث اليوم، حتى تعالت أصوات الشباب في أمريكا وأوروبا بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وهذا شيء لم نره من قبل في أوروبا وأمريكا، بل لأول مرة نرى الناس تتعاطف بشدة مع مظاهر صبر المسلمين في غزة، حتى إنهم أحبوا القرآن والإسلام، لما رأوه فيهما من عامل صبر ورباطة جأش لمن ابتلي من أهل غزة وفلسطين كلها.

وبفضل الله تعالى فإن وسائل الانتصار لأهل غزة أضحت كثيرة، ومنها الجهاد على مواقع التواصل الاجتماعي، بالكلمة الهادفة المقوية لعزائم أهل غزة وفلسطين، والأنشودة الرصينة، والدعم القوي، مع فضح ممارسات العدو وجبنه وخوره.

وواجب النصرة هذا لا يخلي أحداً من المسؤولية، لأنه ضرب من الجهاد، كما تقدم، فإن العدو إذا وطئ أرض المسلمين فإن الجهاد يصبح واجباً على الجميع تدريجياً، فيعم كل مسلم في العالم. والجهاد اليوم وقبل اليوم، لا يقتصر على العمل المسلح فقط، بل إن هناك من روافد العمل المسلح أعمالاً كثيرة تسانده وتؤيده، ومنه الجهاد الإعلامي، والحقوقي وغيره.

أما من لا زال موالياً لأعداء الله تعالى فإنه سيبوء بالخزي والعار دنيا وأخرى، فإن موالاة أعداء الله تعالى ذنب عظيم، قد يصل للردة والخروج من الدين. وقال الله سبحانه: (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) [آل عمران: ۲۸] .

قال الحافظ ابن جرير رحمه الله: «معنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكُفَّارَ ظُهورًا وأنصارا، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دونِ المؤمنين، وتدلُّونَهم على عوراتهم؛ فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني بذلك: فقد برىء من الله، وبرىء الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكُفر»١٦.

كما قال الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة: ٥١]. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [التوبة: ٢٣].

الهوامش

(١) متفق عليه: أخرجه البخاري (١٤٦٩)، ومسلم (١٠٥٣).

(٢) رواه مسلم (۲۲۴).

(٣) أخرجه البخاري (٦١٠٠)، ومسلم (١٠٦٢).

(٤) رواه مسلم (۱۹۱۷).

(٥) رواه مسلم (۱۹۱۹).

(٦) رواه مسلم (٢٦٦٤).

(٧) شرح الخرشي على خليل (۱۱۱/٣).

(٨) التاج والإكليل (٥٣٩/٤).

(٩) في السياسة الشرعية لابن تيمية (ص ١٧١).

(١٠) في الفتاوى الكبرى لابن تيمية (١٣٩/٥).

(١١) رواه البخاري (٦٩٤٣).

(١٢) مسند أحمد، ط. الرسالة، تحقيق: الأرناؤوط وقال محققه: إسناده حسن، (١٣/ ٢٤٨).

(١٣) أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٥٦٤٠، ومسلم في صحيحه، رقم ٢٥٧٢.

(١٤) مفتاح دار السعادة (٢/ ٢٢٨).

(١٥) مفتاح دار السعادة (۲/ ۲۲۰، ۲٢۱).

(١٦) تفسير ابن جرير (٥/ ٢١٥).

المصدر

د. الحسن بن علي الكتاني عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي صلى الله عليه وسلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق