حارس مرمى الإلحاد يترك مرماه أمام حجج الإيمان
إن معرفة الخالق، والإقرار بوجوده تبارك وتعالى وربوبيته، أمر بديهي مغروس في نفوس الناس وفِطَرهم، إذ لو تُرِك الإنسان في مكان خالٍ لا يوجد فيه أحد، بعيدا عن كل المؤثرات الخارجية، وعن كل الشوائب العقدية، لاستطاع بفطرته أن يعرف أن لهـذا الكون خالقا مدبّرا ومتصرّفا، ثم بفطرته يتوجه لمحبة خالقه. ومن هنا نعلم أن من أنكروا وجود الخالق جل جلاله من الملحدين، إنما جاءهم ذلك من انحراف فطرهم، ومن تأثير الشياطين عليهم، وتلاعبهم بهم.
ولا بد لصاحب العقل النيّر والفطرة السليمة إذا ما بحث بصدق، وتعمق في حقائق الأمور وطبائع الخلق أن يقر بوجود الخالق، وحقيقة الخلق؛ فهناك الكثير من أعتى العقول الملحدة التي أقرت بهذه الحقيقة في النهاية، فتركت الإلحاد عندما تخلت عن المكابرة وتواضعت للحقيقة التي يقرها المنطق وتثبتها المعطيات العلمية ويدل عليها نظام الكون الدقيق المحكم، وقد برهنت التجارب البشرية في الانتقال من الإلحاد إلى الإيمان أن الزيادة في العلم تزيد الإيمان، وليس العكس كما يروج لذلك الملحدون، فنجد أن من ألحد بقليل من العلم قد آمن عندما اكتسب المزيد منه.
فهذا رأس الإلحاد ومنظره الأكبر في القرن العشرين، الفيلسوف البريطاني “أنتوني جبرا رد نيوتن فلو”، المعروف اختصارا بـ: أنتوني فلو، والمشهور سابقا بـ (حارس مرمى الإلحاد)، الذي عاش في الفترة من 1933 إلى 2010، قد حرص على تسجيل شهادته الأخيرة بخروجه من حظيرة الإلحاد إلى نور الإيمان، قبل ست سنوات من رحيله، في كتابه المهم جدًا الذي يحمل عنوان: “هناك إله”، دَوّن فيه دلائل وحيثيات، تدفع للتحول من إنكار وجود الإله إلى الإيمان بأنه يستحيل ألا يكون لهذا الكون رب حكيم قدير يدبّر أمره.
يقول أنتوني فلو: “خلال أكثر من خمسين سنة لم أنكر وجود إله فحسب، بل أنكرت أيضا وجود حياة بعد الموت، ومحاضراتي التي سجلها كتاب (منطق الفناء)، والتي تمثل خلاصة رحلتي مع الفلسفة التحليلية، شاهدة على ذلك”.
ثم يقول: “قلت في بعض كتاباتي الإلحادية المتأخرة: إنني وصلت إلى نتيجة بشأن عدم وجود إله بصورة متعجلة جداً، وبشكل مبسط جدا، ولكن تبين لي فيما بعد أنها كانت أسبابا خاطئة جدا، لقد كررت استخدام هذه النتيجة الخاطئة – على نحو متكرر ومفصل- في مناقشاتي وكتاباتي، ولا شك في أن المقدمات الخاطئة تقود إلى نتائج فاسدة وخاطئة”.
لكن من المفارقات العجيبة أن كثيرين من أولئك الذين كانوا يحتذون بإلحاده، ويؤمنون بكل كتاباته، اتهموه بالتخريف والتجديف، وزعموا إصابته بـالزهايمر؛ بعد تراجعه عن الإلحاد، وإصدار كتابه الذي أشرنا إليه، بعدما كانوا مؤمنين بكتبه الثلاثين، التي تنكر الألوهية، لكن العبرة دائما وأبدا تبقى بالخواتيم، وليس غريبا أن نجد من هؤلاء القوم عدم انصياعهم للحق، رغم وضوحه كالشمس في رابعة النهار، فأي حجة صلبة تواجههم يعرضون عنها بصلف وكبر، لأنهم يعلمون أن بنيانهم الهش هو أوهن من بيت العنكبوت، ولا يصمد أمام أي حجاج عقلي أو منطقي، لأن ميزانهم له كفة واحدة دائما.
لقد صدمهم كبيرهم، الذي كانوا يستشهدون بكتبه الثلاثين عن الإلحاد، وبمحاضراته وندواته التي لا تعد ولا تحصى؛ إذ قال إن كل ما بناه من بنيان الإلحاد، كان أوهن من بيت العنكبوت، وأنّه أدرك هشاشة هذا البناء أمام حجج العلم والمنطق، فالاكتشافات العلمية الحديثة قادت عقله الباحث عن الحقيقة دائما إلى حتمية الإيمان بالله، والتخلي عن إلحاده القديم؛ وكان من الأمثلة على تلك الاكتشافات البنية المذهلة والآلية المعقدة التي يعمل بها الحمض النووي، واكتشاف المزيد من أسرار الخلية الحية، وآلاف الكشوف العلمية، التي تظهر مع مطلع شمس كل يوم، ولم يكتف بالاستشهادات العلمية فحسب، بل استشهد بكبار العلماء المعروفين، الذين تثق بهم البشرية جمعاء، والذين عبروا عن إيمانهم بهذا الأمر، من أمثال إسحاق نيوتن، و شرودنجز، العالم الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل، وماكس ويل، وأينشتاين، وغيرهم.
وإنه لا توجد في القرآن الكريم مناقشة صريحة لمنكري الخالق، فالخطاب القرآني يتعامل مع الإيمان بوجود خالق لهـذا الكون على أنه قضية ضرورية لا مساغ للعقل في إنكارها، فهي ليست قضيةً نظرية تحتاج إلى دليل وبرهان، ذلك لأن دلالة الأثر على المؤثِّر يدركها العقل بداهةً، والعقل لا يمكن أن يتصوّر أثرا من غير مؤثِّر، أيَّ أثر، ولو كان أثرا تافها، فكيف بهـذا الكون العظيم؟!
ولم يناقش القرآن الكريم هـذه القضية حتى حينما أورد إنكار فرعون لربّ العالمين، يوم أن قال: ﴿وما ربُّ العالمين﴾ [الشعراء:23]، ﴿ما علمتُ لكم من إلهٍ غيري﴾ [القصص:38]، ﴿يا هامان ابْنِ لي صرحًا لَعلِّي أبلغ الأسباب* أسباب السَّماوات فأطَّلع إلى إله موسى وإنِّي لأظنُّه كاذبًا﴾ [القصص :36 ـ 37]..
فكان موسى عليه السلام لا يعير اهتماما لهـذه الإنكارات، وتعامل مع فرعون على أساس أنه مؤمن بوجود الخالق، فتراه يقول له مثلاً: ﴿قال لقد علمْتَ ما أنزل هؤلاء إلاَّ ربُّ السَّماوات والأرض بصائر وإنِّي لأظنُّك يا فرعون مثبورًا﴾ [الإسراء: 102].
وقد عزا القرآن الكريم هـذا الإنكار والتكبّر والعناد، فقال: ﴿ثمَّ أرسلْنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطانٍ مُبِينٍ* إلى فرعون ومَلَئه فاستكبروا وكانوا قومًا عالِين* فقالوا أنؤمن لبشرَيْن مثلنا وقومُهما لنا عابدون﴾ [المؤمنون:45 ـ 47]. وأوضح ذلك أكثر فقال: ﴿وجحدوا بها واسْتيْقنَتْها أنفسهم ظلمًا وعُلُوًّا﴾ [النمل:14].
إن البيئة التي أُنزل فيها القرآن الكريم كانت وثنيّةً في الغالب، وكتابيّةً في بعض القرى، أو بعض الأشخاص، والكتابيون لا ينكرون الخالق، وأما الوثنيون، فمع عبادتهم للأوثان، فإنهم كانوا يؤمنون بالخالق سبحانه، وسجّل القرآن هـذا لهم في أكثر من موضع، قال تعالى: ﴿ولئن سألتَهم من خلق السَّماوات والأرض ليقولُنَّ اللَّه﴾ [لقمان:25]، وقال تعالى: ﴿وإذا غَشِيهم مَوجٌ كالظُّلل دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصين له الدِّين﴾ [لقمان:32]، ولهـذا لم يَحْتَج القرآن الكريم أن يفتح الموضوع مع هؤلاء الناس.
بل حتى خارج هـذه البيئة لم يُعرف هناك منكر للخالق، يقول الشهرستاني: أمّا تعطيل العالم عن الصانع العليم القادر الحكيم فلستُ أراها مقالة لأحد، ولا أعرف عليها صاحب مقالة، إلا ما نُقِل عن شرذمة قليلة من الدهريّة، ولستُ أرى صاحب هـذه المقالة ممّن ينكر الصانع، بل هو معترِفٌ بالصانع، فما عُدَّتْ هـذه المسألةُ من النظريات التي قام عليها دليل.
ومع خلوِّ القرآن الكريم من مناقشةٍ صريحة لمنكري الخالق، فإنه تضمّن أدلةً كثيرة لإثبات وجوده، غير أنها جاءت في الغالب لإثبات مسائلَ أخرى: كالوحدانية، والنبوة، والبعث.
وخلاصة القول: إن هشاشة الإلحاد، وافتراءات وأكاذيب أدعيائه، لم تصمد أمام صلابة وقوة مطرقة الإيمان، ففي ختام كتابه، يصل أنتوني فلو إلى هذه النتيجة الحاسمة، وهي أن إله الكون يجب أن يكون خارج إطار الزمان والمكان، بل وخارج تصور المخلوقات التي تفكر بحدود فكرها الضيق الذي لا يسمح لها بأن تدرك ذات وكُنه الصفات الإلهية، وكأنه يعبر دون قصد عن قوله تعالى: ﴿ليس كمثله شيءٌ وهو السَّميع البصير﴾ [الشورى: 11]، وقوله تعالى: ﴿لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ۖ وهو اللَّطيف الخبير﴾ [الأنعام: 103].
المراجع:-
- الشهرستاني، نهاية الإقدام، ص 123- 124.
- علي محيي الدين القره داغي، عدالة الله تعالى وكوارث الكون، ص 50 – 52.
- علي محمد الصلابي، الإيمان بالله عز وجل، دار ابن كثير، دمشق، ص 44-45.
- محمد الكبيسي، المحكم في العقيدة، ص 65 – 66.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق