رمضان “متر في متر”
يوسف الدموكي
جالساً في مكانه الذي لم يراوحه منذ عشر سنوات، يعد الأيام على يديه لأنه لا شمس ولا قمر يراهما ليُعلماه بآية الله في الليل والنهار ومرور الأيام، يستبشر قلبه الذي يعاني من ضعفٍ في عضلته بالشهر الجديد، رغم أنه يكاد ينسى مظاهر استقباله وطقوس الاحتفال بقدومه، لأنه منذ عشر سنوات، في مكانٍ واحد لم يراوحه أبداً، إلا لاستبداله بمكان أقذر كل عدة أعوام.
قد يبدو هذا مطلع رواية كئيبة، لكنه توطئة لحاضرٍ موجود وحقيقيّ، فإن أردت تكملة قراءته فاعلم فقط أنك لستَ أمام نَص خياليّ.
لم يبلغه أحدٌ هذا العام أيضاً "كل عام وأنت بخير"، لم يجرِ الأولاد إليه، ولم يطف الأحفاد به، ولم يهبط الجميع ليقبل يديه مباركةً برمضان الكريم، وممارسةً لعبادة بر الوالدين فيه، لم يجهّز له أحدٌ الخشاف الذي يحبه، ولا عصير التمر الهندي، ولم يشهد خناقة كل عام على "العرقسوس" الذي لا يفضّله أيٌّ من أبنائه، ولم يجهّز سجادة صلاته الجديدة التي كان يحب أن يعطرها بالمسك، حتى يسجد لله، فلا يدفعه من الرفع منه قسوة الأرض.
يبكي -وهو الشيخ الكبير الذي كان مكانه إمامة الناس في مسجد منطقته- لأنه لن ينال ثواب الجماعة، ولن يصدح صوته في مكبر الصوت، ولن يصلي خلف شابٍّ صغير السنّ داووديّ الصوت يهز أركانه ويجدد إيمانه، ولن يصحب في يديه أحفاده الصغار ليسببوا جلبةً في المسجد، تفتعل شجاراً صغيراً فكاهيّاً بعد التراويح، ينتهي بأن يقبّل كل مشتكٍ رأس الشيخ المحترم، ويقبل هو رؤوسهم.
لن يسنده أحدٌ هذا العام، ولن يخبره أحدٌ بأن شيبة رأسه غدت وقاراً، ولن تهيئ له زوجته حمامه واغتساله، ولن يجلس ليصنع مزيج التمر والحليب، ويوزعه في أكواب متساوية على الصواني، وأخرى قصيرة للأطفال، ولن يضع في أيدي الناس صدقةً تخفف عنهم قليلاً من مرارة هذه الأيام.. لأن يديه محدودتي الحركة في مكانٍ آخر، ليس مقبرةً، وإنما أضيق من مقبرة، "متر في متر"، ليس غرضها تكريم الموتى، وإنما إهانة الأحياء؛ ذلك الشيخ في السجن.
في الزنزانة المجاورة، التي لا يسمع المجاور لها الصوتَ البادي منها، لأنها مقرورة الجدران، مصقولة الأبواب، مغلقة المنافذ، معدومة النوافذ، يجلس الشاب الذي غدا ثلاثينيّاً بعدما أُدخل هذا الكابوس منذ كان في عشرينيات عمره، يتذكّر الطقوس والأجواء، والمفرقعات وكرات السلك المشتعلة، والزينة وتجميع حقها من بيوت الشارع، والصعود على السلالم الخشبية لتعليقها طوال اليوم قبل حلول الشهر الكريم، ويتذكّر أصحابه والاجتماع في الإفطارات، والعزومات، وتوزيع العصائر على الصائمين المارّة في وقت الأذان، ويتذكّر من يحبهم ويدعو لهم، هارباً من ذلك الوجه، الذي حين تجلّت صورته أمامه فجأةً انفجر بالبكاء دون المضيّ في مراحله التدريجية، يبكي أمّه، الجنّة التي خُطف منها وألقي به في قعر جهنّم الدنيا، المسوّرة بأسوار عالية، تعلوها أسلاك شائكة، وسجّانة وقنّاصة، ولافتة عليها اسم السجن الحقير.
وهنا، في سجنٍ آخر، تجلس السيدة، المرأة الفاضلة، الحرّة المهذّبة، الأم والأخت والزوجة، تستحضر وجوه أطفالها في رمضان الرابع، الذي يمرّ عليهم من دونها، ويعمّق الجرحَ أنه يمضي كذلك من دون والدهم، ويعمّقه أكثر أنه من دون خالهم، ويعمّقه أكثر وأكثر أنه من دون جدّهم، ويعمّقه أكثر وأكثر وأكثر أن الغائبين تعددوا وتوحدت الأسباب في مكان واحد، هو سجنٌ ضيق الزنازين الانفرادية التي لن تسع اثنين من أفراد العائلة ليجتمعوا، فيفطر كلٌّ منهم بمفرده، إن جاز تسمية ما يعيشونه صياماً وإفطاراً، لأن أجسامهم الهزيلة توحي بصيامٍ اضطراريٍّ دائم.
تجلس الأمّ، تفكّر في فلذات أكبادها، وفي قرة عينيها، وفي الرجل الذي سيفطر وحده على بُعد مئات الكيلومترات في زنزانة ضيقة أخرى، وتفكّر في الأولاد الذين لن يذوقوا صينية البشاميل المفضلة من يديها، ولن يدعوا أصحابهم لعزومة رمضان المقدسة، ولن يوقظهم الصوتُ الحنون عليهم، الذي يحبونه رغم إتعابه في محاولات الإيقاظ المطوّلة، يستجديهم أن يفيقوا حتى لا يبرد الفول، ويستجدونه أن يكملوا نومهم حتى لا ينقطع خيط أحلامهم الدافئ.
وفي الجوار أمٌّ أخرى، لم تكن ستعدّ الإفطار هذا العام؛ لأنها غدت ستينيّة ويرفض بناتها أن ترهق نفسها في حرارة المطبخ، لكنها تصرّ، ويقبلون بسرعة، أن تحقق الرغبة الجماعية المشتركة، في إعداد الملوخيّة التي لا يستطيع أحدٌ في الدنيا أن يصنعها مثلها، ويؤذن المغرب على شهقةٍ تخزّن في الطبق نفسَها الدافئ، فيشربون الحب والحساء معاً.
أما في تلك الزنزانة الجماعية فرجالٌ آخرون كثر، تتعدد مشاربهم وتتوحد تهَمهم، يحاولون صنع أجواء في سجنهم الجديد الذي نُقلوا إليه مع حملة دعايةٍ ضخمة بأنه يراعي حقوق سكّانه، لكنهم يرون بالأعلى في ركن الزنزانة كاميرا مثبّتة، تراقب كل حركاتهم وتكاد تعدّ عليهم أنفاسهم، ويحاولون النوم فلا يستطيعون لأن الأضواء مفتوحةٌ عليهم 24 ساعة، ويحاولون الاستعداد للشهر الكريم، فلا يجدون إلا أجساماً خاوية، وعزائم فاترة، وأفواهاً متشققة، وعيوناً ذابلة، وأرواحاً أرهقها طول الأمد في ذلك الكبَد، والبعد عن الأنس والرفقة والأهل، في سجنٍ ظلمات فوق ظلمات، يطلقون عليه على سبيل التناقض الساخر "سجن بدر"، ربما لأنهم يجمعون فيه الأقمار!
أمّا على بُعد مئاتٍ أخرى من الكيلومترات، فيجلس الرجل في ردهة قصره، يدعو العائلة للإفطار الجماعيّ أول يوم، يمدّ إلى ابنه وزوجة ابنه طبقَ الحمام المحشيّ، وإلى ابنته وزوجها وركي بطة لم يعد يعرفها ثلاثة أرباع شعبه، وإلى ابنه الآخر وزوجة ابنه أصابع محشي ورق العنب، وإلى امرأته بجملة غزلية ملفوف فيها قطعة من اللحم الملبّس، وأمامهم جميعاً ينتظر طباخ القصر رأيهم في المذاق المذهل، ويجلس الرجل في "لمّة" لا يحب أحدٌ أن يقضي رمضان من دونها، بينما يسجن وحده عشرات الآلاف جميعاً ويحرم أسرهم من اللحظة الدافئة التي يعيشها، تاركاً إياهم يختلط البكاء بالحساء في أطباق السُّفَر، يدعون عليه من أعماق أكبادهم المتقطعة، وينظرون إلى رمضان المقبل، الذي قد يكون العام القادم أو الذي بعده أو لا يكون، الذي يجتمعون فيه بأرواحهم التي تصوم وحدها وتفطر وحدها، لأن مجرماً قرر حرمانهم من الحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق