لا مستقبل للاحتلال
وائل قنديل"باقون ما بقي الزعتر والزيتون" يقولها الطفل الفلسطيني، كما يقولها الشيخ، وتنطق بها الجدّات والفتيات الصغيرات، كلّهم ينطقونها باليقين ذاته:
لا مستقبل للاحتلال على هذه الأرض وإن علا وتغطرَس، وهو اليقين الذي يُدركه المحتلّون ورعاتهم وداعموهم والمؤلفة قلوبهم حولهم من أنظمةٍ تربط وجودها بوجود الاحتلال، وتبذُل ما في الوسع لفرضه أمراً واقعاً على شعوبٍ تحكم بالنار والحديد.
ولتحقيق هذا الهدف الثابت والدائم، يبقى العداء لفكرة المقاومة ومحاربة كل فصائلها خياراً استراتيجيًا للولايات المتحدة وتابعيها، مدفوعين جميعاً بهاجس أن الاحتلال، وبالضرورة أنظمة الاستبداد العربي، في خطر وجودي، ما بقيت المقاومة والمقاومون، الذين يتلقّون الطعنات ممن يفترض أنهم إخوة الدم والمصير والهوية، مثل دأب وزير الخارجية المصري، سامح شكري، الذي يكرّر في منتدى الأمن بمدينة ميونخ الألمانية مقولته البائسة عن المقاومة الفلسطينية، معتبرًا إياها من خارج المشروع الوطني الفلسطيني، إذ يقول، في جلسة نقاشية مذاعة في المؤتمر، إن حركة حماس من خارج الإجماع الفلسطيني والاعتراف الإسرائيلي، وإنه يجب محاسبة من عمل على تعزيز قوّة الحركة في غزّة وتمويلها.
سامح شكري نموذج حقيقي لمن يمكن تسميتهم "أبناء العملية وصنائعها وحرّاسها الأوفياء" من جنود عملية السلام التي باتت ديناً وعقيدةً مقدّسة عند هؤلاء الذين يؤكّد بلينكن أنهم يريدون دمج إسرائيل في المنطقة، وهذا يتطلّب بالطبع إزاحة وإقصاء كل ما له علاقة بمقاومة الكيان الصهيوني وتغلغله في نسيج الجغرافيا والتاريخ العربيين، سواء داخل فلسطين (حركتا حماس والجهاد وكل فصيل مقاوم) أو خارجها في لبنان واليمن، وهو ما صاغته وزير خارجية الاحتلال السابقة، تسيبي ليفني، في حوار مع مجلة نيوزويك وصحيفة واشنطن بوست بعد عدوان 2009 قالت فيه "لا أريد أن أحرج أيا كان، ولكني أعلم أنني أمثل مصالحهم أيضاً. لم يعد الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني أو الصراع اليهودي - العربي، ولكنه صراعٌ بين المعتدلين والمتطرّفين. هذه هي الطريقة التي تنقسم بها المنطقة حاليا".
على أن تلك المعادلة الصهيونية محكوم عليها بالموت، ولا مستقبل لها في المنطقة، ونحن على بعد نصف قرن أو أقل من ذلك الوهم الذي ردّده أنور السادات، مؤسس كل هذا الهوان العربي، حين أعلن بعد صلحه المنفرد مع العدو أن حرب أكتوبر 1973 آخر الحروب، وهو الوهم الذي حاول تكريسَه فيما بعد حكّامٌ عربٌ آخرون، وفشلوا، لتصبح حكومات المنطقة كلها رهينة للرؤية الأميركية، ولنفوذ إسرائيل وإجرامها، من دون أن ينجح ذلك في إخضاع الشارع العربي لتيار التطبيع الذي اجتاح خُمس الأنظمة العربية وفي طريقه لالتهام البقية.
مرّت خمسون عاماً على تدشين المشروع الأميركي الصهيوني، من دون أن يحقق أهدافه، ولن ينجح مستقبلاً، فهذا ما يقوله التاريخ ومنطق الأشياء، ويصيب الصهاينة بالرعب فلا يتوقفون عن شنّ حروب الإبادة في محاولة اقتلاع الوجود الفلسطيني، تحت مظلّة "عملية السلام" التي صارت مثل بقرة مقدّسة عند أنظمة عربية تدرك أن بقاءها مرتبط ببقاء إسرائيل.
في ظل السلام الإسرائيلي الزائف، كانت الانتفاضة الأولى 1987 ثم الانتفاضة الثانية في في 28 سبتمبر/ أيلول 2000 التي بدأت بعد اقتحام شارون المسجد الأقصى، ثم كانت حروب 2008 -2009 و2012 و2014 وصولاً إلى معركة البوابات الإلكترونية التي اندلعت في 14 يوليو/ تموز 2017، والتي استبسل فيها المقدسيون دفاعاً عن الأقصى، وبعدها جاءت ما عُرفت بـ "هبّة الكرامة" في مايو/ أيار 2021، هبّة 2000 المواجهة الأكبر بعد عقود من مواجهة "يوم الأرض" عام 1976، حيث اتّحدت ساحات فلسطين التاريخية نصرة للقدس والمسجد الأقصى، بالتزامن مع عدوان إسرائيلي شرس على قطاع غزّة.
وها نحن في اليوم الخامس والثلاثين بعد المائة في المعركة الأكبر في تاريخ النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، وهي المعركة التي أحدثت زلزالاً في الوعي العالمي بالقضية، لتصبح فلسطين قضية الشعوب الحرّة في أوروبا والأميركتين، التي تعلن كل يوم أن المقاومة حقٌّ مشروع للفلسطينيين، وأن تحرير بلادهم من قبضة عصابات الاحتلال اللقيط حلمٌ مستحقّ، ولا يمكن أن تكون المقاومة إرهاباً، أو كما يؤكّد منسّق الإغاثة في الأمم المتحدة، مارتن غريفيث "حماس ليست منظمّة إرهابية بل حركة سياسية".
يعلم الصهيوني، كما يعلم بلينكن، ويعرف سامح شكري وزملاؤه من "عبدة عملية السلام" أن كل هذا النضال من أجل دمج إسرائيل وإجبار الشعوب العربية على قبولها هو حرث في البحر، ووهم تذروه الرياح، وليس أكثر من عملية ترقيعٍ لمشروع الاحتلال، لا مستقبل له، هذا ما يدركه الجنين الفلسطيني في بطن أمه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق