أثر أحداث غزة على المشروع الإسلامي
د. عطية عدلان
كيف نستفيد من أحداث غزة في الدفع بالمشروع الإسلاميّ إلى الظهور والتميز، وما هي آثار طوفان الأقصى وما تلاه على هذا المشروع؟ إن المقاومة من جنس جهاد الدفع، وهو من أهم مراحل استعادة المشروع الإسلامي، عن هذا الموضوع يتحدث المقال.
هل لدينا مشروعٌ لأمتنا؟ هل لدى علماء الإسلام مشروعٌ حضاريٌّ إسلاميٌّ يحقق موعود الله تعالى لهذه الأمة بالتمكين والاستخلاف؟ وما هي ملامح هذا المشروع؟ ما هي منطلقاته وغاياته؟ وما القيم الحاكمة له؟ كيف ستكون مراحله؟ وبماذا نواجه تحديات كل مرحلة؟ وكيف نستفيد من الروافع الممنوحة والفرص المتاحة؟ وكيف نتخطى العقبات والعقابيل؟ ما هي جوانب هذا المشروع وميادينه وخططه واستراتيجياته؟ أسئلة تُعَدُّ الإجابةُ عليها أحدَ أهمّ الواجبات الكبرى في هذا التوقيت الذي يشهد تحولاً كبيرًا، يمهد -إن شاء الله- لنهضة المسلمين وإمساكهم بزمام الحضارة، وتوجيههم لدفتها لتكون حضارةً إنسانيةً إسلاميةً راقية، لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه الآن ويلحف في طلب الإجابة هو: كيف نستفيد من أحداث غزة الأخيرة في الدفع بالمشروع الإسلاميّ إلى الظهور والتميز، وما هي آثار طوفان الأقصى وما تلاه على هذا المشروع؟ يجب إن كنّا نحمل هذا الهمّ أنْ نحسن الإجابة وأن نحسن التعاطي العمليّ معها.
طوفان الأقصى وجهاد الدفع:
إذا كان جهاد الدفع واجبًا على الأعيان فينبغي ألا ننسى أنّ المقاومة الفلسطينية تُعَدُّ من جنس جهاد الدفع، الذي لا يُشترط له ما يُشترط لجهاد الطلب والفتح من الاستطاعة التي تبلغ مستوى تَوَقُّعِ الظفر، وإنّما يشترط لها الإعداد بقدر الاستطاعة، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال: 60]، فالواجب هو الإعداد قدر المستطاع، ولا يصح الانتظار حتى توقع الظَّفَر، لأنّه دفاع عن بيضة الإسلام؛ لذلك لا يُنتظَر -في جهاد الدفع عمومًا كما هو مفصل في كتب أهل العلم- إذنُ الإمام ولا إذنُ الوالدين ولا إذنُ الدائن، وتخرج المرأة بغير إذن زوجها والعبد بغير إذن سيده.
وإذا كان العدوّ قد استمكن من بلاد الإسلام فإنّ ردّ عدوانه يستغرق زمنًا ومراحل متتابعة؛ فلا بدّ من تواصل المقاومة وتتابع حلقاتها، إذْ إنّ النتيجة النهائية لها تكون تراكميةً، فإذا تراخت وتباعدت حلقاتُها فإنّ هذا يعطِي العدوّ الفرصةَ لالتقاط أنفاسه واستعادة قواه، بما يترتّب عليه أن تضطرّ المقاومة في كلّ مرحلة لأنْ تبدأ من حيث بدأت سابقًا لا من حيث انتهت، وهذا بالتأكيد ضرر ومفسدة أربى من كلّ ضرر نتوقعه، صحيح أنّ ردّة الفعل كانت عنيفة على أهل غزّة، وقد يترتب عليها تدمير القطاع واستئصال المقاومة، وبرغم هذا التوقّع لم يكن للمقاومة أن تمتنع عن اتخاذ قرارها بالحرب، بذريعة الحفاظ على المكتسبات، فما من مقاومة على مدى التاريخ إلا وطاردتها هواجس وتوقعاتٌ كثيرة وخطيرة؛ فما توقفت ولا توانت، ولو كان الصواب هو التوقّف إلى أن يتحقّق تكافؤ القوى لألقينا في مزبلة التاريخ أمثالَ المختار والمهدي والخطابي وغيرَهم من العظماء الذين خلَّدَ التاريخ ذكراهم.
قد نتفق أو نختلف معهم في حسابات تتعلّق بالخطة والتوقيت ومستوى التوسّع في الهجوم بالحجم الذي جعل العدوّ يتجاوز مرحلة حسابات المكاسب والخسائر إلى مرحلة الصراع الوجودي الذي لم نتجهّز له، لكنَّ التجربة التاريخية للوقائع العسكرية تؤكّد أنّ المعارك قد تَطْرأ عليها ظروف تخرجها عن مسارها المرسوم إلى مسار غير متوقّع، وقد يكون فيه الخير الذي لا نعلمه، كما وقع للمؤمنين عندما خرجوا للقاء العير فإذا هم في مواجهة النفير، ونزل القرآن: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: 42]، فهل الأمر الذي قضاه الله تعالى ليكون اليوم مفعولاً -شاء من شاء وأبى من أبى- هو التمهيد والتوطيد لزوال الكيان الصهيونيّ؟ بكل تأكيد: أجل؛ بدليل هذه الحالة من الذعر التي أصابت الكيان وأعوانه وأولياءه من الأنظمة الغربية والأنظمة العربية على السواء.
التجربة التاريخية للوقائع العسكرية تؤكّد أنّ المعارك قد تَطْرأ عليها ظروف تخرجها عن مسارها المرسوم إلى مسار غير متوقّع، وقد يكون فيه الخير الذي لا نعلمه، كما وقع للمؤمنين عندما خرجوا للقاء العير فإذا هم في مواجهة النفير
استلهام المقاومة:
وإذَنْ فنحن أمام أنموذج يُحتذى في هذا الجانب الذي يُعَدُّ جزءًا لا ينفصل عن المشروع الإسلاميّ الكبير. إنّ تأخر المقاومة لهذا الاحتلال الغاشم الذي نجح في تحقيق المشروع الصهيوني والصليبيّ بصورة أسرع وأبشع مما لو تولى العدو تحقيقه بنفسه، والذي أسرف في تجريف الموارد البشرية والطبيعية وفي تجفيف منابع الدين والأخلاق، والذي بالغ في قهر الدعاة والعلماء والتضييق عليهم، وفي إفساح المجال للفسّاق والفجرة ليعبثوا بعقول الأجيال وقلوبهم ومشاعرهم؛ إنّ تأخر المقاومة لهذا الاحتلال بذريعة الاستضعاف وعدم القدرة، أو بذلك الزعم الذي كانت تتعاطاه الأجيال كالمخدّر عندما يقال لها إنّنا نعيش في مرحلة تشبه المرحلة المكية؛ جعله يستمكن ويقوى ويصبح غولاً فظيعًا يهدّد الكلّ ويهلك الحرث والنسل.
صحيح أنّ الأمة بحاجة إلى التربية والتوعية والإحياء، وصحيح كذلك أنّها بغير التربية والدعوة والإحياء لا يتحقق لها النصر على هؤلاء الأعداء، ولكن ليس صحيحًا أنّ المقاومة والدفع يتوقفان ريثما تنتهي مرحلة الدعوة والتربية، وليس صحيحًا أنّنا نعيش مرحلة كالمرحلة المكية، فبرغم أنّها تشبه المرحلة المكية في الاستضعاف وغربة الإسلام، لكنّها تفترق عنها بفروق هائلة يكفي الواحد منها لمنع التشابه التام، فالأمة الإسلامية اليوم -برغم ما أصابها من ضعف وتمزّق- موجودة، ودار الإسلام -برغم ما طرأ عليها من تغييرٍ للأحكام- قائمة، والإسلام -برغم غربته- قد تمّت به النعمة، وشعائر الدين من أذان وصلاة وجمعة وجماعات وحج وعمرة ونسك وزكوات لا تزال كلّها ظاهرة متواترة؛ فكيف -إذن- نقول بملء أفواهنا إنّنا نعيش حالة تشبه الحالة المكية؟ هذا -لعمر الحق- قياس عليل كليل.
وهذا لا يعني أنّنا نقول بتناسخ المراحل وبقاء المرحلة الأخيرة فقط، فالراجح أنّ المراحل قائمة وغير منسوخة، وعلى الأمّة أن تعمل في كلّ مرحلة تمرّ بها بأحكام المرحلة المشابهة لها في “العهد المثال” عهد النبوة والخلافة الراشدة، لكنّ الاعتراض فقط على القياس غير الصحيح، الذي يُشَبِّه ما نعيشه اليوم بالمرحلة المكية؛ بما يترتب عليه من أحكام، فنكفّ عن المواجهة المسلحة ونؤجل كلَّ عملٍ مقاوِمٍ إلى أن نتهيأ لمرحلة ما بعد الهجرة! ولو أنّ الأمة الإسلامية بالفعل مرّت يومًا من الأيام بمثل المرحلة المكية لساغ لها أن تأخذ بكل أحكامها، لكنّ الواقع أنّ الأمة لم يحدث لها قطّ في الماضي ولا في الحاضر أن عادت سيرتها الأولى حيث كان الإسلام يولد وينمو في مكة، وربما -بل من المؤكّد- أنّ هذا لن يقع، ولا سيما مع وجود الطائفة المنصورة التي لا يخلو زمان من قيامها بأمر الله.
صحيحٌ أنّ الأمة بحاجة إلى التربية والتوعية والإحياء، وصحيح كذلك أنّها بغير التربية والدعوة والإحياء لا يتحقق لها النصر على هؤلاء الأعداء، ولكن ليس صحيحًا أنّ المقاومة والدفع يتوقفان ريثما تنتهي مرحلة الدعوة والتربية، وليس صحيحًا أنّنا نعيش مرحلة كالمرحلة المكية
الإنجازات الكبرى:
لا أرى الإنجازات الكبرى متمثّلة فيما حقّقته المقاومة من إثخان في العدو ونكاية في الكيان الغاصب، ولا في الأعداد غير المسبوقة من القتلى والجرحى والأسرى في الجانب الإسرائيليّ، ولا في الخسائر الفادحة التي تكبدها العدو في المعدات والآلات الحربية باهظة الثمن التي تحوّلت على أيدي الأبطال إلى كتل من الخردة، لا أرى الإنجازات الكبرى متمثلة في هذه الأمور على الرغم من عظمتها؛ لأنّ هناك إنجازات استحقّت أن تكون هي الأكبر على الإطلاق، فهذا الدويّ الهائل الذي أحدثه طوفان الأقصى وما تلاه من أحداث العدوان الغشوم على المدنيين في غزّة شغل الرأي العالميّ وأشعله بصورة غير مسبوقة كمًّا ونوعًا، والأمر لم يقف عند حدّ التعاطف مع الفلسطينيين المظلومين، بل تجاوزه إلى مستوى النظر إلى غزّة على أنّها مصدر إلهام للبشرية المعذّبة في سجن النظام الدوليّ الظالم، وإلى درجة العزم على إعادة النظر في كل شيء تطرحه الحضارة المعاصرة، كلّ شيء كان بالأمس من المسلّمات في الغرب صار اليوم تحت المجهر لإعادة النظر فيه، وكلّ ما كان يروّجه الغرب عن الإسلام والمسلمين صار اليوم محلّ شك.
إنّه تحوّل كبير ليس في الآراء والمواقف فحسب، ولكن في طريقة التفكير وأسلوب التلقّي، ومن محاسن القدر أنّ هذا جاء وقد أفلست الحضارة المعاصرة عن تقديم جديد للإنسان، وقد أيست البشرية وفقدت الثقة في كلّ ما يقال لها، وصارت في حالة انتظار لجديد يأتيها من جهة تأنس فيها صدق اللهجة وتماسك الخطاب، وهذه فرصتنا في الحقيقة لنخترق الجدار المصمت الكثيف الذي صنعه الإعلام الغربيّ والاستشراق ومراكز الأبحاث المشبوهة، هذه فرصتنا لنبلّغ كلمة الإسلام للناس، وسنجد الفطرة في انتظارنا على الطريق لتكون لنا سندًا وظهيرًا، وقد رأينا فعل الفطرة في الشعوب الغربية التي آثرت أن تقف بجانب الحق: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: 30].
مكاسب على مستوى معركة الوعي:
ومن الإنجازات الكبرى: هذه الطفرة التي حدثت في مستوى وعي الشعوب العربية والإسلامية للحقائق التي لا يصحّ أن تكون غائبة أو غائمة، الحقائق التي يعتمد المشروع الإسلاميّ على إبرازها ونشر الوعي بها، لم يعد خافيًا حال الأنظمة العربية غير القادر على مقاومة الاحتلال أو نصرة المستضعفين، عجزًا أو تواطؤًا، وأنهم ليسوا جزءًا من أي مشروع تحرري أو نهضوي قادم.
ومن الإنجازات كذلك استقرار اليقين لدى كافّة المسلمين وكثير من غير المسلمين أنّ النظام الدوليّ ليس سوى مؤسسة “بلطجة” تستخدمها الدول الكبرى لاستعباد الشعوب، ولا علاقة لها بالإنسانية ولا بالإنسان، ومنها كذلك انكشاف الكذب والدجل الذي تمارسه أمريكا وسائر حكومات الغرب، وممارستها للتزوير إضافة إلى ممارستها للإرهاب الحقيقيّ ضدّ بني الإنسان. وكلّ هذه الحقائق التي تتكشّف وتتضح للناس من أهم الروافع التي يعتمد عليها المشروع الإسلاميّ الكبير، وهذه كلّها إنجازات ضخمة، يضاف إليها إنجاز أكبر، وهو نفض الوهن عن الحالة الإسلامية، وتبديد اليأس والإحباط عن الجيل، وبعث روح الأمل في الشباب، بما يوفّر للعمل الإسلامي طاقات عظيمة للمضي قدمًا في المشروع الإسلامي، وهذه في ظنّي هي الإنجازات الكبرى والانتصارات الحقيقية على المستوى المعنويّ.
مِن المكاسب الكبرى على مستوى معركة الوعي: استقرار اليقين لدى كافّة المسلمين وكثير من غير المسلمين أنّ النظام الدوليّ ليس سوى مؤسسة “بلطجة” تستخدمها الدول الكبرى لاستعباد الشعوب، ولا علاقة لها بالإنسانية ولا بالإنسان
الاقتداء والتأسّي طاقة دافعة:
إننا نرجو أن يكون هؤلاء المجاهدون المرابطون ممن قال الله فيهم: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23]، وممن قال فيهم رسول الله ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة)([1]).
إننا ندعو شبابنا إلى أن يستلهموا من أمثال هؤلاء المجاهدين القدوة في العمل والصبر والسلوك، بمثل ذلك يُقام المشروع الإسلاميّ.
والله المستعان.
د. عطية عدلان
أكاديمي، رئيس مركز محكمات في إسطنبول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق