غزوة في البحر
قال ﷺ {غزوة في البحر خيرٌ من عشر غزوات في البر}
قي العام الخامس والثلاثين من الهجرة النبوية المشرفة، وفي عهد الخليفة الراشد أمير المؤمنين ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه خاض المسلمون أول معركة بحرية هي ذات الصواري، المعركة التي استمرت قريباً من يومين ولكنها كانت بمثابة مرحلة تحول كبرى في تاريخ الدولة الإسلامية وفي دورها الحضاري، المعركة التي فرض المسلمون من خلالها واقعاً جديداً في البحر الأبيض المتوسط، المعركة التي تولى الصحابي عبد الله بن سعد بن أبي السرح رضي الله عنه والي مصر قيادة الجيش المسلم، وقام الإمبراطور قسطنطين الثاني بن هرقل بنفسه بقيادة هذه المعركة والقتال فيها، ذات الصواري هي المعركة التي انتصر فيها المسلمون بعد ثباتهم وصبرهم على الرغم من قلتهم وضعف خبرتهم في القتال البحري.
نبذة تاريخية:
كان للروم منذ فترات تاريخية بعيدة في الزمان أسطول حربي دائم ومهيب وعدة قواعد بحرية ودور لصناعة السفن، وكان لهم عدد غير قليل من السفن التجارية التي تستخدم لنقل الجند والإمدادات بالإضافة إلى البضائع، لذا كان الروم يتحكمون في كل منافذ البحر الأبيض مما استحال معه دخول أية تجارة خارجية إلى هذا البحر دون موافقتهم، وشملت تجارتهم العالم كله آنذاك.
وبالمقابل لم يعهد المسلمون ركوب البحر أو القتال فيه، لكنهم وجدوا بعد فتوح الشام أن الأسطول الرومي مصدر تهديد خطير ومباشر لأمنهم ولأمن المناطق المفتوحة ولاستقرار الإسلام فيها، فأدركوا أن بناء أسطول لهم أمسى ضرورة إستراتيجية ملحة، هذا فضلاً عن عظيم الأجر والثواب عليه، قال صلى الله عليه وسلم {… وغزوة في البحر خير من عشر غزوات في البر، ومن جاز البحر فكأنما جاز الأودية كلها، والمائدُ فيه كالمتشحِّط في دمه} رواه الحاكم وصححه الذهبي، والمائد هو الذي يصيبه الدوار، والمتشحط في دمه هو الشهيد المتمرّغ في دمه، وجاز البحر أي قطعه والأجر عظيم لأن القتال في البحر أعظم خطراً، فالغازي بين العدو وخطر الغرق، ولا يمكنه الفرار إلا مع اصحابه.
وكان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه والي بلاد الشام أول من فكر في بناء أسطول إسلامي، فاقترحه على الخليفة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه، ولكن تم بناؤه في عهد الخليفة عثمان، فتحققت به بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم التي أخبرتنا بها أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها، قالت {… نام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك، قالت فقلتُ ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناسٌ من أمتي عُرِضُوا عليَّ غُزَاةً في سبيل الله يركبون ثَبَجَ هذا البحر ملوكاً على الأَسِرَّة… قالت فقلتُ يا رسول الله ادعُ الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك، فقلتُ ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عُرِضُوا عليَّ غُزَاةً في سبيل الله… قالت فقلتُ يا رسول الله ادعُ الله أن يجعلني منهم، قال أنتِ من الأولين. فركبتْ البحر في زمان معاوية بن أبي سفيان فصُرِعَتْ عن دابتها حين خرجتْ من البحر فهلكت} رواه البخاري، ومعنى ثبج البحر أي وسطه، ومعنى ملوكاً على الأسرّة يقصد بذلك مكانتهم في الجنة.
تكوّنت نواة الأسطول الإسلامي من السفن التي غنمها المسلمون عقب فتوح الشام ومصر ووجدوها في موانئهما، ثم توسع المسلمون بعد ذلك في صناعة السفن وفي إنشاء دور مختصة لصناعتها، وطوروا أسطولهم بسرعة مذهلة ثم أنزلوه إلى البحر فعلاً، ونفذوا من خلاله عدة عمليات بحرية حققت أمجاداً وانتصارات باهرة، لذا تخوَّف الروم من هذه القوة البحرية المتنامية أن تتعاظم وتهدد عاصمتهم القسطنطينية وتهدد سيادتهم البحرية في البحر الأبيض المتوسط الذي كانت السيادة عليه للرومان؛ حتى لقد كان يسمى بحر الروم، فأراد الروم تحطيم هذه القوة البحرية الفتيّة في مهدها، لذا فقد بدأ قسطنطين بجمع الجموع، وعزم على غزو المسلمين والانتقام منهم والثأر لما أصاب جيوش الروم على أيديهم من ضربات متوالية في إفريقيا وفي غيرها، وأراد على وجه الخصوص محاولة استرجاع الإسكندرية من المسلمين نظراً لأهميتها ومكانتها عند الروم، فجهز أسطوله الذي ضم ما يقرب من ألف سفينة.
وعندما علم أمير المؤمنين عثمان بنوايا قسطنطين المعادية هذه أمر معاوية بن أبي سفيان بإعداد أسطولٍ ضخمٍ من السفن وبحشد الجنود والعتاد من أهل الشام، وكتب إلى عبد الله والي مصر يأمره أن يركب بأهل مصر، وكتب إلى عمرو بن العاص يأمره بتزويد ابن أبي السرح والي مصر والمسلمين بجميع ما يقدر عليه من المال والسلاح.
بعد اكتمال الإعدادات أبحرت السفن الشامية من ميناء طرابلس بقيادة بُسر بن أبي أرطأة رضي الله عنه وانضمَّت إلى الأسطول القادم من مصر بقيادة ابن أبي السرح، واجتمع الأسطولان في ساحل عكَّا في مائتي سفينة وجمعٍ عظيمٍ من العُدَّة والعدد والسلاح والخيل في المراكب، وسار الجيش الإسلاميُّ وفيه أشجع المجاهدين ممَّن أبلوا بلاء حسناً في المواقع الجهادية السَّابقة، فقد سبق أن انتصر هؤلاء على الرُّوم من قبل في معارك برية عديدةٍ، خرج هؤلاء الجنود ومهابة عدوِّهم منزوعة من أنفسهم لا يخشونه ولا يهابونه، خرجوا وفي أذهانهم وقلوبهم إعزاز دين الله والتصدي لخطر الأعداء، فنصرهم الله تعالى على عدوهم لأن غايتهم من الجهاد كانت دوماً نشر دينه وإعلاء كلمته في الأرض.
ويرجع سبب تسمية المعركة بذات الصواري في رأي معظم المؤرخين إلى كثرة عدد صواري السفن التي اشتركت فيها من الجانبين والتي زادد عددها عن ألف سفينة، ويرى قليل منهم أنها سميت باسم المكان الذي دارت رحاها فيه وهو موقع ذات الصواري والذي كان منه يؤخذ الخشب لصناعة صواري (سواري) السفن.
أما عن أحداث المعركة ووقائعها فقد عرض المسلمون على الروم أن يكون القتال على الساحل إن شاءوا وإن شاؤوا فعلى الماء، فاختار الروم القتال في الماء لثقتهم بقدرتهم الفائقة فيه ولخبرتهم بركوب البحر ولإتقانهم فنون القتال فيه، ولأنهم تدربوا عليه كثيراً حتى أحكموا الدِّراية بثقافته، هذا من جانب، ومن جانب آخر فهم ينظرون إلى المسلمين على أنهم بدوٌ لا يُجيدون سوى ركوب الجمال والقتال في البر، لكل ذلك فقد كان أملهم بالنصر كبيراً، لكن المعركة والمواجهات في أثنائها قلبت الموازين وخالفت التوقعات.
وأمَّن الطرفان بعضهما أثناء الليل بحيث لا يكون بينهما قتال أو مناوشات، فلما حلَّ الليل جعل المسلمون يكثرون من قراءة القرآن ولا يَفْتُرُون عن الصلاة والدعاء والتوجه إلى الله عز وجل، والروم في مراكبهم جعلوا يضربون بالصنوج والطنابير ويشربون الخمر وينفخون في الصفارات، فكل فريق حاول إعداد نفسه روحياً بطريقته الخاصة.
ثم أصبح الصباح والطرفان متهيئان للقتال، أمَّ القائد عبد الله جنود جيشه في صلاة الصبح، ولما فرغ من الصلاة أنزل إلى البرّ سرية بقياة بُسْرٍ بن أبي أرطأة، ومهمتها القيام بواجبات الاستطلاع وقتال الروم الرابضين على البر في حال وجودهم، وكانت السرية تضم نصف الجيش.
ثم جاء رجل من رجال الاستخبارات إلى القائد عبد الله فقال له [ما كنتَ فاعلاً حين ينزلُ بك هرقل في ألف مركب فافعَلْه الساعة] أي أنه يخبره بالإسراع في تنفيذ خطة مواجهة العدو، فقام عبد الله خطيباً في الناس [قد بلغني أن هرقل قد أقبل إليكم في ألف مركب فأشيروا عليَّ] فسكتوا، فجلس قليلاً ثم قام للمرة الثانية فطلب منهم المشورة فسكتوا، فجلس، ثم قام للمرة الثالثة فقال [إنه لم يبقَ شيءٌ فأشيروا عليّ] أي أن الوقت يضبق واقترب طلوع النهار، فقال رجل من أهل المدينة كان متطوعاً مع عبد الله فقال له [أيها الأمير: إن الله جل ثناؤه يقول {كم من فئةٍ قليلةٍ غلبتْ فئةً كثيرةً بإذن اللهِ والله مع الصابرين}، فقال عبد الله لجنوده [اركبوا باسم الله] أي أنه قرر ملاقاة الأعداء.
وضع قسطنطين خطة ذكية تهدف إلى إنهاك المسلمين بأن ينقضّ الروم على سفن المسلمين أملاً بالنَّصر وبتوجيه ضربةٍ أولى حاسمةٍ يحطِّمون بها شوكة الأسطول الإسلاميِّ، وتقوم خطته على دفع المسلمين لرمي عدوهم بالسهام والقِسِيّ (الأقواس) حتى تنفد ذخيرتهم، وعلى عدم محاولة اقتراب سفنه من السفن الإسلامية، وبالفعل اضطر المسلمون لقذف الروم بالرماح والحجارة حتى نفدت، عندها اطمأنَّ قسطنطين على سلامة وضعه العسكري وظن أنَّ النتص من نصيبه وأنه سيحتاج فقط إلى هجمةٍ واحدةٍ لتحطيم الأسطول الإسلامي فردَّد قوله [غَلَبَتْ الروم] أي انتصرتْ
لكنَّ كانت المفاجأة المذهلة، فقد غير المسلمون خطتهم: فأولاً ربطوا سفنهم إلى بعضها واصْطَفُّوا على أطرافها متسلِّحين بالسيوف والخناجر، فبدأ القائد يعظهم بالصبر والثبات ويأمرهم بتلاوة القران الكريم وبالأخص سورة الأنفال، وثانياً سحبوا السفن الرومانية بالخطاطيف والكلاليب وربطوها إلى سفنهم، وبذلك تحول ظهر سفن الفريقين إلى ميدان قتال، وتحولت المعركة البحرية إلى معركة كأنها برية، وهنا قال قسطنطين [غُلِبَت الروم] أي هزمت،
ارتبك الروم وأيقن قسطنطين بهزيمة قوَّاته لعلمه بثبات المسلمين في القتال البري، فاستثمر المسلمون تضعضع الروم وفوضى صفوفهم فوثبوا إلى سفنهم وقاتلوهم فيها، كان القتال قاسياً على الطَّرفين حتَّى لقد وصف أحد المؤرخين الرومان المعركة بأنَّها يرموكاً ثانيةً، لم يكن في القتال رمية سهم ولا طعنة رمح بل ضرب بالسيوف والخناجر، فاحمرَّ ماء البحر من كثرة الدماء، واستشهد من المسلمين جند كُثْرٌ رحمهم الله، وقتل من الروم ما لا يحصون عدداً ولم ينجُ منهم إلا الشريد، ووقعت على الروم هزيمة كبرى، ثم هبت الريح عليهم فدمرت مراكبهم.
وأما عن قادة المعركة فقد حاول الرُّوم أن يغرقوا سفينة عبد الله ليبقى جند المسلمين دون قائد، فتقدَّمت من سفينته سفينةٌ رومانيَّة ألقت إلى سفينته السَّلاسل لتسحبها وتنفرد بها، ولكنَّ علقمة بن يزيد الغطيفي أنقذ السَّفينة والقائد بأن ألقى بنفسه على السَّلاسل وقطعها بسيفه.
أما قسطنطين ملك الروم فقد جرح جراحات كثيرة في رأسه وجسده وكاد ان يقع في الأسر، لكنه نجح بالفرار مدبراً منهزماً في مركبه الذي كان فيه بعد تغيير ملابسه وتبادل زيّه العسكري مع أحد جنوده المقربين،
وعادت مراكب المسلمين سالمة منتصرة إلى ساحل عكا، وكتب عبد الله ومعاوية إلى الخليفة عثمان يخبرانه بهزيمة الكفار، فسرَّه هذا الانتصار والظفر،
وتتلخص أهم آثار معركة ذات الصواري في نقطتين رئيسيتين: الأولى انتصار المسلمين على عدو متفوق عليهم في العدد والعتاد. والثانية انتهاء عصر السيادة الرومانية في البحر المتوسط بحيث أصبح بحيرةً ذات سيادة إسلاميَّة، وأصبح الأسطول الإسلاميُّ سيِّد مياهه، لكن ليس للتسلُّط والقرصنة لا بل لغاية سامية هي الدَّعوة إلى الله وكسر شوكة الأعداء ونشر الحضارة النابعة من كتاب الله سبحانه وتعالى وسنَّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
كانت معركة ذات الصواري مظهراً من مظاهر تفوُّق العقيدة الصَّحيحة الصُّلبة على التفوُّق في العدد والإمكانيات، فالإعداد الرُّوحي قبل المعركة له وزنه في تحقيق النَّصر، حيث تتَّجه القلوب إلى الله بصدقٍ، فيلقى الجندي أعداءه بروحٍ عاليةٍ لا يهاب الموت، فالله في قلبه أكبر من كلِّ شيءٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق