بيني وبينك.. ثأرُ غَزّة
كيفَ يُمكن أنْ يُفهَمَ هذا بالمنطق العقليّ؟
يبعثُ الرّسولُ صَلّى الله عليه وسلّم ثلاثة آلافٍ من خِيرةِ صحابته، فيهم حَفَظَةُ الكِتاب، وفيهم أقربُ الأحباب، وفيهم أبناءُ العمومة، يقطعون الصّحراء المُهلِكة والموامي المُضِلّة، إلى بلادٍ بعيدةٍ غريبةٍ فيُقاتِلون مئتَي ألفٍ من أعدائهم، منهم مئةُ ألفٍ تسري في عروقهم دماء العرب ذاتِها الّتي تسري في دمائهم على بُعدِ أكثر من ألف كيلو مترٍ، من أجل ماذا؟! لأيّ غاية؟! كيفَ يُواجه الرّجل الواحد من الصّحابة سبعين من عدوٍّ مُستعدٍّ مُدَجَّج؟! لوجه مَنْ يكون هذا؟!
سيقول قالةٌ كثيرون: إنّ محمّدًا يقتلُ أصحابَه، إنّه يُهلِكُهم. يرمي بهم إلى المحارق، أيّ قائدٍ عاقلٍ يرضى أنْ يُنازِل أحدُ أفرادِ جيشِه سبعين فارِسًا يحمل كلّ واحدٍ منهم من السّلاح أكثرَ مِمّا يحمل فارِسُه الوحيدُ هذا؟! هذا انتِحارٌ لا شَجاعة.
غيرَ أنّ الواقع قالَ غير ما قال القالَة. الواقعُ قال أكثرَ من ذلك بكثير. قال لمن يستضعفُ هذه المجموعة المُنزوية المنسيّة: إنّها لم تعدْ كذلك بعدَ اليوم، فقد صارتْ قُوّةً قادرةً على أنْ تواجِهَ أكبرَ إمبراطوريّة مع حلفائِها في المنطقة.
أرادتِ القُوّة الجديدة النّاشِئةُ أنْ تُميل إليها أسماعَ الكون وقلبَه.
قالتْ أبعدَ من ذلك، وهو ما أراده الرّسولُ صلّى الله عليه وسلّم: إنّ دمَ واحدٍ من أصحابي يساوي دماءَ الآخَرين القَتَلَة كُلّهم، وإنّ دمَ الحارث بن عُمير الأزديّ عندي بدمِ القيصر نفسِه لا بدمِ شرحبيل بن عمرو الغسّاني ولا بدماء العرب الّذين تواطَؤوا على قتله.
وإنّ دمَ صاحبي هذا لا يُصبِحُ ماءً. وإنّ الثّأر له لو كلّفني دماءَ كثيرين من أصحابي فسأُنفِذُه.
وقد كان. فإنّ كُتُبَ التّاريخ أكثرُها مُجمِعٌ على أنّ تجربة مؤتة بكلّ ما فيها من عجائب وآيات كانتْ ثأرًا لدمِ صحابيٍّ واحدٍ قُتِلَ صبرًا، فما جَفّ دمه حتّى قام له سيّد الخلقِ بالثّأر؛
واليوم مَنْ يثأر لعشرات الآلاف من أهل غَزّة يُقتَلون آمنين في بيوتهم؟!
مَنْ يثأر لأشلائهم الّتي نهَشَتْها الكلابُ والقِططُ في الطّرقات؟
مَنْ يثأرُ لنسائهم وشيوخهم الّذين إنْ لم يقضُوا بآلة الحرب المُدمّرة، قَضَوا بالجوع والبرد والمرض وقِلّة النّصير، وتَكالُب القريب والبعيد؟!
يا لَثأر غزّة! إنّه ثأرٌ طويل، أطولُ من ليلِها، وأنصعُ من دماءِ شُهدائِها، وأوجعُ من صرخات أيتامِها، وليسَ له كِفاءٌ إلاّ اقتِلاع الاحتِلال من جذوره فلا تقوم له بعدَ ذلك قائِمة، إنّه الثّأر الحقيقيّ ولو طال به الزّمن، إنّ هذه الأرواح كلّها الّتي أُزهِقَتْ بهذه الوحشيّة لا يُمكن أنْ تقبلَ ثأرًا أقلّ من ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق