الشيخ الغزالي في ذكراه.. مقومات التأثير والخلود
في التاسع من آذار (مارس) 1996م أسلم الداعية المصلح المجدد الشيخ محمد الغزالي (السبت 5 ذو الحجة 1335هـ /22 سبتمبر/أيلول 1917م-السبت 20 شوال 1416هـ /التاسع من مارس/آذار 1996م)، الروح إلى بارئها، وهو ينافح عن الإسلام ويرد على المتغربين والمستلبين حضاريا، في مؤتمر الجنادرية بالرياض، فكانت وفاته وهو في أرض المعركة، وميدان الدفاع عن الإسلام على هذا النحو الذي شاءه الله تعالى لتعبر هذه الخاتمة عن رحلة حافلة بالدعوة إلى الله، والدفاع عن عقيدته وشريعته، وليصدق فيه قولُ القائل:
حياةٌ كلُّ ما فيها كفاحٌ .. وعُمرٌ كلُّ ما فيهِ معالي
ورحلةُ دعوة وجهادُ فكرٍ .. وهَذِي سيرةُ الشيخِ الغزالي
ومن الملاحظ أن كل عام في ذكرى الغزالي أنها تفرض نفسها على المشهد الإعلامي، وتكتب وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي عن الغزالي وذكراه وجهاده وفكره وجهوده في بيان حقائق الإسلام ودحض أباطيل خصومه، ولا شك أن هذا التأثير، وهذا البقاء والخلود له مقومات وأسباب، وهو ما سنذكره في النقاط الخمس الآتية:
من خصائص فهمه للإسلام الدقة في هذا الفهم وليس مجرد الفهم، وهو المعنى الصحيح للفقه في لغة العرب، فيضع كل شيء في موضعه من منظومة الإسلام، فالكلي كلي، والجزئي جزئي، والفرض فرض، والنفل نفل، والأصلي أصلي، والفرعي فرعي
الفهم الشامل العميق والدقيق للإسلام
إن أول مقوم من مقومات التأثير الفكري والدعوي للغزالي، وبقاء مشروعه وامتداده عبر الأجيال هو فهمه الشامل للإسلام بوصفه رسالة صالحة لكل زمان ومكان، تدعو إلى معالي الأمور، وعظيم الأخلاق، وسامق القيم، وتحض على عمارة الكون والحياة، والقيام بمهمة الاستخلاف التي كلف الله بها هذا المخلوق المكرم وهو "الإنسان".
ومن خصائص فهمه للإسلام الدقة في هذا الفهم وليس مجرد الفهم، وهو المعنى الصحيح للفقه في لغة العرب، فيضع كل شيء في موضعه من منظومة الإسلام، فالكلي كلي، والجزئي جزئي، والفرض فرض، والنفل نفل، والأصلي أصلي، والفرعي فرعي؛ فلا يضع النفل مكان الفرض، ولا الفرع مكان الأصل، ولا العام مكان الخاص، وهكذا، وامتدادا لهذا الفهم الدقيق صك مصطلح: "فقه النسب بين الأعمال"، الذي طوره تلميذه الأكبر وشيخنا الإمام يوسف القرضاوي، وأسماه لاحقا بـ "فقه الأولويات".
ولقد أورثه هذا الفهم الدقيق أن يشغل نفسه بأصول الإسلام وقضاياه ومعاركه الحقيقية لا الوهمية، اتساقا مع فقه النسب بين الأعمال، فما اهتم به القرآن وشرحته السنة يهتم به، ولا يشغل نفسه كثيرا بالفرعيات والجزئيات في وقت تريد قوى الغرب وغزوته الاستعمارية أن تقتلع الإسلام من جذوره.
والإسلام بطبيعته يهتم بمعالي الأمور مع عدم نسيانه لفروعها وجزئياتها، ومن يخاطب الناس بخطاب الإسلام الحق، خطاب القرآن والسنة، لا شك أنه يجد صدى لديهم، ويجد تأثيرا في واقعهم، ويضمن لنفسه البقاء والخلود.
من إنصاف الشيخ الغزالي أنه يقر للغرب بالإنجازات التي أنجزها؛ حيث يقول في كتاب تراثنا الفكري: 27: "وشىء آخر ما نستحى من ذكره بعدما لفحنا دخانُه وشروره، فقد كان لتعمق الأوربيين فى العلوم الكونية أثره فى انفتاح أبواب الغنى عليهم..
القراءة الواسعة عن الغرب وثقافته ومنجزاته
من مقومات التأثير في خطاب الشيخ محمد الغزالي واتساع دوائر تأثيرها في الإسلاميين وغير الإسلاميين: ثقافته الموسوعية، فقد كان قارئا نَهِمًا لكل ما يراه أو يلقاه، وها هو يقول عن نفسه: "كنت أقرأ كل شيء ولم يكن هناك علم معين يغلب علي.. بل كنت أقرأ وأنا أتحرك، وأقرأ وأنا أتناول الطعام، وللقراءة أهمية خاصة لكل من يدعو إلى الله بل هى الخلفية القوية التى يجب أن تكون وراء تفكير الفقيه والداعية، وضحالةُ القراءة أو نضوب الثقافة تهمة خطيرة للمتحدثين فى شئون الدين وإذا صحت تزيل الثقة منهم. إن القراءة، أى الثقافة هى الشيء الوحيد الذى يعطى فكرة صحيحة عن العالم وأوضاعه وشئونه، وهى التى تضع حدودا صحيحة لشتى المفاهيم، وكثيرا ما يكون قصور الفقهاء والدعاة راجعا إلى فقرهم الثقافى، والفقر الثقافى للعالم الدينى أشد فى خطورته من فقر الدم عند المريض وضعاف الأجسام.. ولابد للداعية إلى الله أن يقرأ فى كل شيء يقرأ كتب الإيمان ويقرأ الإلحاد، يقرأ فى كتب السنة، كما يقرأ فى الفلسفة، وباختصار يقرأ كل منازع الفكر البشرى المتفاوتة ليعرف الحياة والمؤثرات فى جوانبها المتعددة" من مقالات الشيخ محمد الغزالي: 3/ 164-165.
ومن إنصاف الشيخ الغزالي أنه يقر للغرب بالإنجازات التي أنجزها؛ حيث يقول في كتاب تراثنا الفكري: 27: "وشىء آخر ما نستحى من ذكره بعدما لفحنا دخانُه وشروره، فقد كان لتعمق الأوربيين فى العلوم الكونية أثره فى انفتاح أبواب الغنى عليهم.. إن القوى والأسرار التى اكتشفوها كانت مفاتيح لخزائن السموات والأرض، فلا غرابة فى ارتفاع مستوى معيشتهم، ولا غرابة فى اتساع دائرة الرفاه والتنعم لديهم! إنهم استثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها غيرهم، فخدمهم الرطب واليابس، والسائل والجامد، والحديد والذهب، والتراب والهواء".
والشيخ له إلمام واسع بالعلوم الإنسانية التي تشرق شمسها اليوم للأسف من الغرب، وفي مساحات واسعة من كتبه يذكر أفكارا من هذه العلوم ويوردها عن الغرب، كما يقرأ في الفلسفة والتاريخ وعلوم الكون وعلوم الأرض وعلوم الحياة، وهذه الثقافة الموسوعية هي مما جعل لخطابه الخلود والتأثير، كما جعلته محل القبول والإذعان.
لم يكن وعيه مقصورا على واقع المسلمين فقط، بل واقع الملل الأخرى، والثقافات الأخرى، والمشروعات الأخرى، وهو ما يجعله يقف على التحديات التي تواجه الإسلام فيصف لها دواءها وعلاجها من صيدلية القرآن الكريم والسنة النبوية.
متابعة الواقع الحثيثة والوعي الدقيق بمجرياته
إذا كان الفهم الصحيح للإسلام هو الجناح الأول للحركة به والدعوة إليه، فإن فقه الواقع هو الجناح الآخر، وقد تميز الشيخ محمد الغزالي بالوعي الشديد بالواقع وما فيه من تيارات ومجريات، وها هو يتحدث عن طريقته في الدعوة مع الوعي بالواقع وما فيه فيقول: " كتبت فى فقه الدعوة عدة كتب بلغت نحو خمسة كتب، وأنا أريد أن يعلم الناس أن الدعوة علم، علم فى فهمها، وفى تبليغها، وفى تعهد من بلغناهم حتى نعرف إلى أين وصلوا، وعلى أى نحو استجابوا، وهناك الآن دعوات عالمية تأخذ فى السوق الإنسانية نشاطا ملحوظا، فأنا لست وحدى التاجر الذى يعرض ما عنده.. هناك تجار يعرضون كثيرا مما عندهم، لهذا فأنا مكلف بأن أعرف ما عندى وما عند غيري، وأن أعمل على كسب السوق بكل الطرق التى يكسب بها التاجر الماهر السوق. إن الدعوة الإسلامية إلى الآن مجروحة من ناحيتين: الناحية الأولى: تقصير القائمين على أمر هذه الدعوة، والناحية الأخرى: أن الذين جهلوا الإسلام، وهم كثيرون، تحركوا وقدموا للناس مناهج يسيرون عليها فى غياب المنهج الصحيح وهو منهجنا الإسلامي، ولعل هذا ما يعنيه جبران خليل جبران عندما قال: الناس رجلان: رجل نام فى النور ورجل استيقظ فى الظلام. إن الذين استيقظوا فى الظلام لهم حركة لكنها فى الظلام، فأهدافها غير واضحة، ونحن الذين نمنا فى النور، عندنا نور لكن لم يجد من يحمله إلى عيون الآخرين حتى يضيء لهم الطريق". من مقالات الشيخ محمد الغزالي: 3/ 157-158.
ولقد كان وكد الشيخ الغزالي هو الحديث عن الواقع، والوعي بالواقع، والانطلاق من الواقع، ولم يكن وعيه مقصورا على واقع المسلمين فقط، بل واقع الملل الأخرى، والثقافات الأخرى، والمشروعات الأخرى، وهو ما يجعله يقف على التحديات التي تواجه الإسلام فيصف لها دواءها وعلاجها من صيدلية القرآن الكريم والسنة النبوية.
إن المسلمين لديهم استعداد غريب للجدل والمنافرة، وهم يسوون بين الزكام والسرطان والشحم والورم، كما أن لديهم قدرة غريبة على تجاهل الأركان والتخفف منها ولا أدرى حتى متى تبقى هذه الحال؟
ممارسة الدعوة وخوض المعارك للدفاع عن الإسلام
إن وصف "الداعية" هو الوصف المعبر عن شخصية الشيخ الغزالي والمطابق لسيرته ومسيرته، ولكنه من الطبقة الأولى من الدعاة للإسلام الذين يدعون على بصيرة وعلم ووعي: وعي بالوحي ووعي بالواقع، فقد كانت الدعوة لحمته وسداه، ومصبحه وممساه، وليله ونهاره، كان يعيش في الإسلام وبالإسلام وللإسلام.
ومن حرصه الشديد على الإسلام عقيدة وشريعة كان لا يقف مكتوف الأيدي أمام أي خطر يتهدد الإسلام، ولا أمام أي منحرف يهرف بما لا يعرف، فكان يتصدى له كالأسد الهصور، يزأر في وجوههم، ويسلط عليهم من شُواظ فكره النقي ولفح عقله الذكي ما يجعلهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية.
هكذا كان الغزالي في معاركه، وكان في حرصه على الإسلام وحراسته لعقيدته وشريعته، رأينا هذا في معاركه ضد المستشرقين وما كتبه عنهم، ورأينا هذا -سواء بسواء- في معاركه ضد تيار الظاهرية الجدد الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها على مسألة فرعية ولا يكترثون بأرواح تزهق وأعراض تنتهك، ومقدسات تدنس، أو كما يحكي هو ويقول: " قرأت فتوى للإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر عن حكم الصلاة مع قبض اليدين أو سدلهما إن هذه القضية اختلفت فيها مذاهب أهل السنة كما اختلف فيها الشيعة مع السنيين. وقد أفتى الشيخ الأكبر بصحة الصلاة على الحالين وحمدت الله أن القضية لم تحول إلى محكمة العدل الدولية، وأن الشجار حولها وقف عند حد.. إن المسلمين لديهم استعداد غريب للجدل والمنافرة، وهم يسوون بين الزكام والسرطان والشحم والورم، كما أن لديهم قدرة غريبة على تجاهل الأركان والتخفف منها ولا أدرى حتى متى تبقى هذه الحال؟ ولكنى أدرى أن أعداءهم يتربصون بهم ويحكمون المؤامرات حولهم، ويهددون حاضرهم ومستقبلهم". الحق المر: 4/8.
ولا ننسى معاركه التي خاضها ضد المستلبين حضاريا وفكريا من أتباع الغرب وأزلامه ومن العلمانيين وصبيان الملاحدة في بلادنا، فقد كان له جهاد مبرور وسعي مشكور في فضحهم وبيان جهلهم والرد على شبهاتهم.
الإخلاص الظاهر والتجرد الواضح
إن ما نختم به هذه المقومات، وما هو بختام؛ لأنه يجب أن يأتي في الأول، ولكني آثرت أن يكون في النهاية ليدرك القارئ أن السر وراء هذا كله هو هذا المقوّم المهم، ألا وهو الإخلاص.. الإخلاص هو سر خلود الشيخ الغزالي بعد فهمه الدقيق للإسلام، فلقد كنت تسمع للشيخ الغزالي ولا تزال وأنت ترى الصدق يتجلى على قسمات وجهه، والإخلاص يغلف كلامه، والحرارة تكتنف الأفكار والعبارات، وهذا يدل على قلب موصول بالله، وكأن ابن عطاء الله عناه بقوله حين قال: "كل كلام يخرج وعليه كسوة القلب الذي منه خرج".
نذكر الفيديو الذي بكى فيه الشيخ وأبكى من حوله، حين قال: "أنا لا أدري ما نهايتي، كل ما أرجوه من الله أن يقبضني إليه وأنا أتصبب عرقا في خدمة دينه، لا أريد من أحد شيئا، وجه الله هو الذي يعنيني".
كيف لا؟ وهو الذي كتب: "الجانب العاطفي من الإسلام"، و"فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء"، و"فقه السيرة" الذي تتجلى فيه معالم حبه للنبي المصطفى، كما كان حبه للقرآن غامرا، وهذا من علامة حبه لله تعالى؛ حيث كتب خمسة مؤلفات عن القرآن، كان آخرها: "نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم".
سيبقى الشيخ الغزالي حاضرا وباقيا في حياتنا، وسيبقى فكره مؤثرا؛ لأنه فكر حي، ينطلق من الواقع، ويعيش في الميدان، ويكتب ما يكتب من رحم المعاناة، وبدمع العين ووجد القلب، مع صدق وإخلاص وتجرد لله تعالى، بلغة عالية وأسلوب رفيع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق