الجمعة، 1 مارس 2024

محورية البعد الديني في صراعنا مع اليه..ود

 محورية البعد الديني في صراعنا مع اليه..ود

الشيخ عبدالآخر حماد الغنيمي

ينكر علينا كثير من مدعي العقلانية والواقعية أشد النكير حين نتكلم عن صراعنا مع الي..هود باعتباره صراعاً دينياً عقدياً ، أو حين نصف ما يقوم به أبطال الأرض المباركة بأنه جه..اد في سبيل الله .
ويقول بعضهم إنه يجب التفرقة بين اليه/ ودية كديانة وبين الصه..يونية كحركة سياسية عنصرية ، وأن اليه..ود ليسوا جميعاً صه..اينة ، وأن منهم من ينتقد سياسات قادة إسر..ائيل ..
ونحن لا ننكر أن هناك يهو/داً ليسوا صه/اينة ، وأن منهم من لا يوافق على سياسات قادة العدو ، بل إن منهم من لا يوافق على قيام دولة إسرا/ئيل أصلاً.
لكن ذلك كله لا يجوز أن يُنسيَنا حقيقةً مهمةً لا يمكن إنكارها ، وهي أن قيام دولة إسرا..ئيل مبنيٌ على ما يرونه هم حقائق دينية توراتية ، بحسب ما صرح به آباؤها المؤسسون ولا يزال يردده قادتها حتى الآن .

صحيح أن فكرة إقامة وطن قومي لهم في فلس/طين لم تكن في بداية أمرها مبنية على أساس عقدي ؛ فقد كانت العقيدة اليه/ودية حتى القرن التاسع عشر كما يذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله في "موسوعة اليه..ود واليه..ودية والص..هيونية " ،تُحرَّم عليهم العودة إلى ما يسمونه (أرض الميعاد) قبل قدوم مسيحهم المنتظر ، ولذا فإن تيودور هي..رتزل- الذي ترأس المؤتمر الص..هيوني الأول عام 1897- لم يستطع أن يعقد ذلك المؤتمر في مدينة مينشن (ميونيخ) الألمانية ،كما كان مقرراً له ،وذلك نظراً للمعارضة الشديدة لذلك المؤتمر التي أبداها التجمع اليه..ودي والحاخامية اليه..ودية في تلك المدينة ،فاضطر إلى عقده في مدينة بازل بسويسرا.
لكن هير/تزل استطاع بعد ذلك بعد ذلك -وبمعونة الص..هاينة البروتستانت كما سيأتي – أن يُسوِّق مشروعه باللجوء إلى بعض أساطير العهد القديم وتفسيرها بأنها تعطي لليه..ود حقا تاريخياً في أرض فلس..طين ،وشيئاً فشيئاً تحولت عقيدة الأكثرين من اليه/ود إلى حتمية إقامة دولة لهم في فل/سطين وصاروا ينظرون إلى ذلك على أنه واجب ديني لا بد من الانصياع له .
يذكر روجيه جارودي في كتابه المسمى بالأساطير المؤسسة للسياسة الإسرا/ ئيلية - والذي بسببه حاكمته فرنسا – أن الأيديولوجية الصه/ يونية تقوم على موضوعية بسيطة جداً ،وهي ما جاء في سفر التكوين من أن الرب قد عقد مع إبرام ( إبراهيم ) عهداً قائلاً له : ( لِنَسْلِك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ) ، وقد صار القادة الصه..اينة –مهما كانت درجة تدينهم - يعلنون -استناداً إلى ذلك الوعد المزعوم- أن تلك البقعة هي أرض أعطاها الله لهم .
فها هي جو..لدا ما..ئير تقول بحسب مانقله جارودي في كتابه المشار إليه : ( إن هذا البلد موجود كإتمام أو إنجاز لوعد وعده الله نفسُه ،ومن المضحك أن نطلب منه حسابات أو شروحاً لشرعية هذا الوعد) ، وأما مو/شي د/يان فيقول : ( إذا كنا نملك التوراة وكنا نعتبر أنفسناكشعب التوراة ،فإنه يجب أيضاً أن نملك الأرض التوراتية : أرض القضاة والشيوخ والقدس والجليل وأريحا ،وأمكنة أخرى أيضاً ).
ومِن قبلهما قال بن /جو..ريون قولته المشهورة التي كان يرددها من بعده منا..حم بي/جن : ( لا قيمة لإسرا..ئيل بدون القدس ، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل ) .
ومهما كان هناك يه/ود يعادون الصه/يونية ،فإن ذلك لا يغير شيئاً من حقيقة أن قيام تلك الدولة واستمرارها ،مبني على تلك العقيدة الدينية الباطلة التي أشرنا إليها .
كما أننا لا يمكننا استبعاد البُعد الأصولي المسيحي في هذه المسألة ،وهو الخاص بالأصوليين البروتستانت ،ممن اصطلح على تسميتهم بالصه..يونيين المسيحيين ، الذين يعتقدون بحتمية وقوع معركة (هرمجدون) في وادي مجيدو بفلسطين ،وأنه ببداية هذه المعركة فإن المسيح سيرفع المسيحيين المخلصين إلى السحاب ،حتى لا يضاروا من تلك الحرب .فإذا انتهت الحرب المدمرة عاد بهم إلى مقر مملكته بالقدس ليَقتلَ ثلثي اليه..ود ،ويدخل الثلث الباقي في المسيحية ،ولكن لا بد قبل موقعة (هرمجدون ) من تجمع اليه..ود في فلس/طين وإقامة دولتهم الكبرى بها ،وبناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى .
ولعل هذا ما يفسر نشأة الصهيونية المسيحية – أو ما يُفضَّل الدكتور المسيري تسميته بالصه/يونية ذات الديباجة المسيحية- قبل الصه/يونية اليه/ودية ، فقد كانت العقيدة اليه/ودية كما أسلفنا تحرم العودة إلى فلسطين قبل قدوم مسيحهم الموعود ،لكن الصه/اينة البروتستانت هم الذين دفعوا ببعض الشخصيات اليه/ودية إلى العمل من أجل إقامة دولةٍ لهم في فلس/طين ،بهدف الإسراع في عودة المسيح حسب اعتقادهم .ولذا فإن المؤتمر الصه..يوني الأول الذي سبقت الإشارة إليه ،لم يشارك فيه أحد من الحاخامات ( رجال الدين اليه..ود )،بينما خطب فيه القس البروتستانتي "وليام هشلر" ،مطالباً اليه/ود بالاستجابة لدعوة الرب -بزعمه- للعودة إلى وطنهم في الأرض المقدسة .
وقد صار معروفاً الآن أن ما يُقدر بتسعين مليوناً أو أكثر في أمريكا يعتقدون بتلك العقيدة الصه/يونية المسيحية ، وأن كثيراً من الساسة الغربيين وبخاصة من الأمريكان يعتقدون بتلك العقيدة في وجوب مساعدة اليه..ود من أجل التعجيل بهرمجدون ومن ثم عودة المسيح ، منهم ريجان وبوش الأب وبوش الابن وترامب وغيرهم .
إنَّ على من يتحدثون اليوم عن القضية باعتبارها قضية فلس/ طينية تخص أهل فلس/طين وحدهم ،أو على الأكثر باعتبارها قضية الأمة العربية ، عليهم أن يدركوا أن ذلك لا يعني بحال خلع رداء الإسلام عنها ، فهي قضية فلس/طينية عربية إسلامية . وأن يتذكروا أن عمر بن الخطاب حينما فتح القدس سنة 15هـ إنما فتحها لتكون جزءاً عزيزاً من أمة الإسلام تلي في مكانتها وقدسيتها مكة والمدينة ، وكذلك حينما حُررت من الاحتلال الصليبي سنة 583هـ إنما حررها قائد مسلم لم يكن عربياً ،بل كان كردياً وهو صلاح الدين الأيوبي .
كما أن علينا أن ندرك أيضاً بأن حديثنا هذا لا يعني هضْمَ غيرِ المسلمين حقوقهم في فلس..طين أو غيرها ، ففي ظل الحكم الإسلامي لم يُمنع النصارى من ممارسة ما يعتقدونه من العبادات ، حتى إن صلاح الدين حين حرر القدس من الصليبيين عزَم على هدم كنيسة القمامة -المسماة الآن بكنيسة القيامة – وذلك رداً على ما كان الصليبيون قد فعلوه من تدنيس المسجد الأقصى وتنجيسه ،ولكن قيل له كما يذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 12/ 348) : ( قد فتَحَ هذه البلدة قبلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وترك هذه الكنيسة بأيديهم ،ولك في ذلك أسوة حسنة ، فأعرض عنها وتركها على حالها اقتداءً بعمر رضي الله عنه ) .
ولنتذكر أن القدس إنما ضاعت في العصر الحديث يوم دخلنا الحرب في سنة 1967 م ونحن بعيدون عن شرع الله ،ولم يفكر قادتنا يومها في أن يكون قتالهم جه/اداً في سبيل الله .ولنتذكر أنه حينما وقعت القدس تحت الاحتلال الصليبي ،فإن المسلمين في ذلك الزمان قد فهموا حقيقة المعركة وأنها معركة دينية بين الإسلام ،وأولئك الذين جاؤوا متسربلين برداء المسيح ،والمسيح منهم براء ، فجاهدوا باسم الإسلام فنصرهم الله .
وكذلك يجب أن يكون حالنا اليوم : فإذا كان القوم يواجهوننا بمنطقٍ ديني توراتي تلمودي ،فلا يمكننا مواجهتهم إلا بمنطق إيماني قرآني . ورحم الله الشيخ محمد الغزالي إذ يقول في شأن أناس من بني جلدتنا يريدون استبعاد الإسلام من المواجهة مع اليه..ود ،بل يستبعدون كل أثارة للإسلام في ميدان التربية أو الثقافة ، يقول : ( ويستحيل وصفُ أحد من هؤلاء بأنه إنسان سوي رشيد؛ لأنه لو كان ذا نزعة قومية مجردة لعلم أن بني إسرا..ئيل تسلَّحوا بعقيدةٍ مهاجمة، وسياسة جعلت الدين يغتصب الأرض والعِرْض، فكيف يُقبل الدين مهاجِماً وترتضى سياسته وتحترم سطوته ؟ ويُرفض الدين مدافعاً ويعتبر إشراكه في التربية والتقوية سياسةً رجعيةً مرفوضةً ؟ ) .[ مائة سؤال عن الإسلام ( 1/ 108)].
عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين
18 /7/ 11445هـ- 30/ 1/ 2024م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق