الثلاثاء، 2 يوليو 2019

المسار اليساري للفكر الإسلامي

المسار اليساري للفكر الإسلامي

 مهنا الحبيل
كان الحديث السابق للكاتب، عن قراءة المشهد الثقافي العربي، وتراجع الخطاب الديني فيه، يؤسّس لتتبع مهني لأسباب هذا التراجع، وقد أوضحت المقالة المعنونة "الفكر العربي بعد تراجع الخطاب الديني" أن ذلك التراجع كان يدور، في غالبيته، على شراسة النموذج المرتبط بالتخلف والاستبداد الرسمي، أو الزخم الأيديولوجي العاطفي، العاجز عن وعي مسيرة النهضة في الحياة البشرية. غير أن مشهد التفاعل الفكري لم يقف عند هذه الحالة، وإنما بدأت تصعد حركة وعي إسلامي بأفق يساري، يقصد به مفهوم الفكر اليساري النضالي العام، لا القالب الأيديولوجي، وهي خارج مصطلح اليسار الإسلامي، أو الإسلام اليساري، فهذه المصطلحات تعطي مؤشراً قاصراً، عن وعي الفلسفة الذاتية للفكر الإسلامي، ستحاول هذه المقالة أن تفهمها.
وقبل الولوج لشرح الظاهرة، تتم الإشارة إلى مسألة مهمة تبرز معالمها، وهي حالة تسييل أفكار التيارات والمذاهب الفكرية التي أضحت اليوم ظاهرة عامة، إلى الدرجة التي تختلط فيها مذاهب الحداثة باتجاهات اليسار. وأحيل هنا إلى المقدمة والفصل الأول، من الكتاب المفيد والمهم "قصور الاستشراق" لمؤلفه وائل حلاق، لأجل حواره الذي تفهم منه مرحلة السيولة للفكر المدني الحديث، وتداخله، وهو يبرز من خلال مناقشة حلاق الإصدار التاريخي لإدوارد سعيد "الاستشراق"، والذي آمل أن تكون لي عودة بينهما لتحرير بعض الأفكار المهمة، وخصوصاً إطار التجديد الذي نحتاجه اليوم، لتأسيس نظام معرفة نهضوي شامل، لأكبر مساحةٍ 
تشترك فيها تيارات الوعي العربي، لأجل أوطانٍ ناهضةٍ بكرامة الفرد والتقدّم التنموي الذي لا يُلغي التحالف فيه مفهوم الفكر الإسلامي الحضاري، وعلاقته بوطننا العربي الكبير.
حقيبة قراءات متعددة للإصدارات الحديثة، وتحوّل بعض هذه الأفكار إلى حراكٍ اجتماعي، يُشيران إلى حالة سيولة مضطربة لتداخل هذه المناهج. وهي هنا كمدخل فكري يُشير إلى أن أزمة الثقافة، وإعادة تكرار قراءة المذاهب الغربية، بحكم أنها قادت توجيه العالم، نحو الفكر المدني الحديث، تكشف عن إشكاليةٍ في اتجاهين: تنزيلات هذه المذاهب، على الواقع المدني للحياة البشرية، والموقف الأخلاقي منها، كمنظومة عدالة اجتماعية تحوي عالمي الشمال والجنوب. وتحول مسارات يسارية إلى خدمة أهداف يمينية منحازة، أو استخدام قوالب يسارية، لتوظيف مسارات البعث الغربي الحديث، وتحويله إلى ترسٍ ضاغط لمصالح الدول الغربية ضد العالم الثالث، باسم الحقوق النسوية أو التطرّف الجنساني حصراً، ويجب هنا فصل البعث الحقوقي الإيجابي للفكر النسوي وتحرير المجتمع، من أزمات ونظم الاضطهاد والعنف ضد المرأة، عن الجنسانية الحادّة التي تقهر أخلاق الأمم والفضيلة، وتعسّفها وترفض فطرة الأسرة، وشريعة الحب الكوني بين المرأة والرجل، التي تنبض بها جينات الخليقة، وهي ذاتها فلسفة وجود، لا تحتاج في الأصل لمذهبٍ فلسفي يدافع عنها، فمن أنكرها أنكر سر الحياة، وحكم على الطفولة بالإعدام البيولوجي.
ثم قس بعد ذلك على مساراتٍ أخرى، تختلط فيها النزعة اليسارية المحدّثة، والحداثة الغربية الصناعية، التي تحالفت في مواجهة الإرث الأخلاقي للبشرية، والذي كان ضمن مسارات النُبل والحياة الاجتماعية المستقرّة، وليست طبائع أو سلوك عنف أو شراسة أو تخلفاً.
ما يجري اليوم في التداول الفكري لهذه المذاهب، في وسائط المعرفة الحديثة، يُشير إلى مأزق سيولة، والتي تُعالج أحياناً بمزيد من المؤلفات، وهي حين يَستعرض بعضها الباحث، يشعر بأن هناك حالة تيه فلسفي، تتمثل في استجرار هذه المذاهب، والتهميش عليها، ويستحضر صورة نقدية في تاريخ الفقه الإسلامي، حين يُصدّر المتن، ويتوسع بالشروح والتهميش، بصورة
 
 هستيرية، لا تقدّم إضافة مستحقة، ومن حق القارئ أن يتحقق من هذا الرأي. ولكن التجديد الفلسفي يعوزه بُعدٌ غائب، يخرج من فكرة تقديس المذاهب الفكرية الغربية إلى وعيها، وفرز قواعدها المفيدة، ورحلتها الاجتماعية والسياسية، ثم نقدها ببعد جديد، فالنقد السائد تدور خلاصاته في حلقاتٍ متشابهة اليوم، وهو ما يوجب على الباحثين العرب، بغض النظر عن مذاهبهم، بمن فيهم المفكرون الوجوديون، البحث عن الفلسفة الذاتية للتنوير الإسلامي، كمشترك إنساني لا ثقافة لجماعة بشرية.
هنا نفهم الأرضية التي يولد فيها المسار اليساري للفكر الإسلامي الذي يتشكل اليوم قوة كفاح مدني شبابي، يتزامن مع انطلاق رؤيةٍ فكريةٍ مختلفة كلياً، عن تنظير مرحلة ما يسمّى الإسلام السياسي، وتنفتح على مناهج النهضة الحديثة، والتطور العلمي، وتعتمد مبدأ الحوار في الفكر، مشتركاً ومختلفاً. ولكنها تقف باستقلال حذر، مع إعادة تدوير المذاهب الغربية وإلزام العقل التنويري بقدسية رومانسية معها، إذ يؤمن هذا البعث بالدولة المدنية والسيادة الدستورية، لكل شرائح الشعب، ولكن لا يرى هدم الضمير الديني الأخلاقي والقيمي عامل نهضة، بل عنصر أزمة.
ولا نعتبر هذا المسار اليساري للفكر الإسلامي قد أنجز منظومته الفلسفية التي تؤسس للتدوين التشريعي اليوم، غير أن معالمه تؤسس لمفهوم مختلف، في إطار حقوقي للشعوب، ومبادئ سيادة مدنية، تحسم تمثيل الشعوب وقيام العدالة الاجتماعية، ولا تتحفظ على أي منصات حوار مع الاتجاهات الفكرية، من دون التخلي عن احترام الضمير الاجتماعي الديني للمجتمع، بعيداً عن المزايدات أو التحريض على الشريك العلماني أو غيره، وإنما وضع الأرضية المشتركة قبل الخلاف، حيث تُنظّم حياة الشعوب على المشترك، ثم المختلف، وقَلْب هذه القاعدة كان أساس الداء للصراع الفكري العربي.
أما مسار التميز الآخر للمسار اليساري الإسلامي، فهو فرز ما بين المفيد للحداثة المدنية ونتاجها، وبين تقديسها ومنظومة الثورة الصناعية، وخصوصا تسليع الحياة البشرية لصالح الرأسمالية، ووضع نظرية الصراع التسخيري التي شكلت أكبر صور المعاناة، بين عالمي الجنوب والشمال، في إطار نقدي وحق نضالي، لا يحوّلها إلى مجرد منصة ملاعنة، وإنما إلى كفاح فكري ندّي أمام بغي غربي لن يتوقف، مهما بذل له الشرقيون كل رومانسية متبتلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق