فتى الكُهول.. أيمن عبد الرحيم
لا أعرفُ في جيلِ (أيمن عبد الرحيم) أحداً مِثلَ (أيمن عبد الرحيم)!!
وحاشا لله أن أُقلل من قيمة أحد؛ بيد أنَّ أيمن مِنْ إضاءات جيله.. ولو شئتُ لقلتُ غير مُخطِئٍ أو مغالٍ: وسيكون- بمشيئة الله- من إضاءات عصرنا هذا إِنْ أطالَ اللهُ عُمُرَهُ في طَاعَتِه.. ونسأله تعالى أن يُطيلَ عُمُرَهُ في طاعته!!
يُعطيكَ أيمن عبد الرحيم إحساساً بأن الثقب الأسود الذي يُنْشِئُه بين الأجيال تجريفُ الوعي، وطولُ الأمدِ، وإِنَّا وجدنا آباءَنا على أُمَّة؛ لا يمكن أن يبتلعَ النجومَ التي تلمعُ فيه جاعلةً من نفسها منارَ هُدىً يهدي السائرين في عَتَمَاتِه، وحلقةَ وصلٍ تَصِلُ ما انقطعَ وتُجَدِّدُ مَا رَثّ، وصراطَ نورٍ يعبر عليه الناجون من أرض التيه إلى أرض الميعاد!!
لا أذكر أني رأيت أيمن عبد الرحيم ثم لم أتذكر قولَ عمر رضي الله عنه في ابن عباس رضي الله عنهما: ذاك فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول!!
من النوادر في هذا الزمن- بل وفي كل زمن- أن تجالس شاباً في مقتبل عمره فيتشعب بينكما الحديث في فنون العلم المختلفة؛ ثم تجد عنده من المعرفة بهذه الفنون ما لا تكاد تجده عند أهلها وأربابها.. مع فصاحة لسان، وثبات جنان، ورجحان عقل، وحضور بديهة، وخِفَّةِ ظِلّ، وسلامة صدر..
وليس مثلَ سلامة الصدر في أيمن عبد الرحيم..
ولا مثيلَ لسلامة الصدر في الناس عامةً، وفي طلاب العلم خاصة.. فكم قد رأينا في جيله مِن أقرانه مَنْ حَصَّلَ بعضَ عِلمٍ فأضاعه بالكبرِ الوضيع، والتبجح الفارغ، والشللية المقيتة، واصطناع الخصوم، والدوران حول الذات، ومهارشة الأنداد في غير طائل.. وقد حفظ اللهُ أيمنَ- بسلامة صدره- من كل هذا؛ رغم وجوده في وسطٍ لم يَخْلُ من أمثال هؤلاء.. ولله مختارون يَسْتَلُّهُم كما تُسَلُّ الشعرةُ من العجين؛ فيحفظ صدورَهم من الضغائن، وقلوبَهم من التباغض، ونفوسَهم من الإِحَنْ، وعقولَهم من الزيغ، وأرواحَهم من التلوث.. والله أعلم حيث يجعل رسالته!!
نَفَعَ الله بأيمن شريحةً من الشباب لم يُقنعها الأزهر بمناهجه، ولا السلفيةُ بطرائقها، ولا مدارسُ الإخوان بحزبيتها. ورغم تقدير هؤلاء الشباب لهذه المناهج والطرائق والمدارس إلا أنهم كانوا أبناء جيل مختلف، أغلبهم في العشرينات من العمر، ضربتهم ثقافةُ العصر فشاموا شيئاً من نظرياتها، وقرؤوا طَرَفَاً من أفكارها، وتفاعلوا- حقيقةً أو تَوَهُّمَاً- مع روافد الثقافة التي انهالت عليهم من وسائل التواصل المعرفية المختلفة، دون أن يمتلكوا- غالباً ولأسباب كثيرة- تأصيلاً إسلامياً يحفظهم من زيغ الانبهار، أو تأسيساً دينياً يحميهم من طغيان الأفكار.. وكان في أغلبهم من العقل والخير مَا فطنوا به إلى ما لم يفطن له غالبُ الجيلين السابقين؛ حين أدركوا- بسبب فشل الجيلين السابقين- أن المشكلة ليست في الذات بقدر ما هي في الآخر، وأن العودة إلى الذات أجدى من الارتماء في أحضان الآخر، وأن الذات- وإن كانت عَلَتْهَا عواملُ التعرية وشوائبُ العصور- إلا أنها هي وحدها المنطلق، وإليها وحدها العودة، وبها وحدها النهضة؛ فَعَمِلَ بعضُهم على استحداثِ آلياتِ دَرْسٍ تُمكِّنُهُم من تبسيط المُعَقَّدِ، وتذليل الصعب، وربط الحاضر بالماضي دون إخلالٍ أو إملالٍ أو سطحية.. وكان أيمن واحداً من هؤلاء الشباب الذي استقوا من روافد المعرفة الحديثة، ثم أراد الله به وله الخير فَدَلَّهُ على النبعِ الأصيل؛ فاستقى وتَضَلَّعْ، ثم سَقى ورَوَّى!!
اجتذب أيمن ثُلَّةً كبيرةً من هؤلاء الشباب بطريقةٍ مميزة اعتمدت (التراثيةَ) تأسيساً و(المعاصرةَ) طرحاً؛ فجاءت كـ"نسجٍ جديدٍ لخيوط قديمة" دون تبجح بتجديد أو صراخ حول تأصيل..
وما رأيتُ شاباً- مثل أيمن- يتكلم في نظريةٍ حديثة فَتَظُنُّه (شيخاً مُعَمَّمَاً) في (رُوَاقِ المغاربة) بالأزهر يشرحُ متناً أو يُحَشِّي شَرحَاً، ولا شاباً مثل أيمن يتكلم في عِلمٍ قديم فتظنُّه (أستاذاً مُدَكْتَراً) في (مُدَرَّجِ جامعةٍ) يُفلسف نظريةً أو يُفَكِّكُ فلسفة.. ثم لا يتركُ شيخاً في الرواق ولا طالباً في المُدَرَّجِ حتى يفهم الشيخُ النظريةَ، والطالبُ العِلمَ.. وهو بينهما كجهاز توصيلٍ فيه من الحديثِ ما هو ترجمان للقديم، وفيه من القديم ما هو تأصيل للحديث.. ونِعمَ الرزق الفَهْمُ والإفهام!!
آمن أيمن بالعمل (في) المتاح لا (مَعَ) المتاح.. وبينهما بَونٌ شاسع..
العاملُ (في) المتاح يؤمن أن المتاح ليس أصلاً يُقاسُ عليه؛ بل عارضٌ لا بد من تَخَطِّيهِ بالعملِ فيه للوصول إلى المأمول.. وهذا عمل المُوقِظِين!!
والعامل (مع) المتاح يؤمنُ- رغبةً أو رهبةً- بِأَصْلِيَّةِ المتاح ومساراته؛ فإذا انحط مسارُ المتاح انحطَّ معه، وإذا عَلَا عَلَا معه، وكلاهما انحطاط؛ إذ لا رجوع عنده إلى أصل، ولا سعي منه إلى مأمول.. وهذا عملُ المُخَدِّرِين!!
لكَ أن تختلفَ مع أيمن في طريقته.. كما لكَ أن تسلكَ طريقاً غير طريقه.. بيد أن الغاية- إن كانت واحدة-؛ هانت في عقول العقلاء عثراتُ طريقها، وضَؤُلتْ في عيون المخلصين هَنَّاتُ مناهجِهَا.. والكمال لله وحده .. ومَن لكَ يوماً بأخيكَ كُلِّه!!
***
لقد أنشأ أيمن عبد الرحيم- بدوراته ومحاضراته- حالةً مميزةً من الوعي الثقافي القريب من الواقع دون اشتباك، والبعيد عنه دون ترفع.. وقد استطاع- فَكَّ الله أسره- أن يخلق- بهذه الحالة توازناً محموداً- بين الهرب من الواقع بما يُسمى (اعتزال الصراع السلطوي)؛ خوفاً أو يأساً أو إحباطاً، وبين الانشغال بالواقع وماجرياته عن البحث عن آليات السير في طريق تغيير الواقع.
لم تكن الحالةُ دالةً على الطريق بقدر ما كانت دالةً على كثيرٍ من آليات السير في الطريق.. وإنها- والله- لنِعم الدلالة!!
لقد كانت محاضرات أيمن عبد الرحيم وندواته عاملاً مهماً في توجه كثير من الشباب إلى طلب العلم والعكوف على القراءة والبحث تراثاً ومعاصَرة، كما كان لها أبلغ الأثر في استنبات الوعي- دون الجعجعة به- في عقول كثير من شباب مصر في فترة حالكة السواد لا زلنا نعيش آثارها حتى الآن.. وهذه الحُلكة هي التي اختطفت أيمن لتُلقي به في ظلمات السجن- مثل آلاف المُنيرين غيره- مِنْ غير جريرة سوى جريرة الوعي.. وأَعْظِم بها جريرةً في عُرفِ الطغاة!!
وإني إذ أكتب عن أيمن بعضَ ما يجيش به صدري نحوه؛ لأعلم أن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، وأن قلوبنا جميعاً بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء.. ولكني- والله- ما شهدتُ إلا ببعض ما علمتُ ورأيتُ من الخير.. أسأل الله أن يفك أسره، ويحفظ قلبه، وينير عقله، وينفعه وينفع به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق