الخميس، 22 أغسطس 2019

الوسطية الإسلامية وفقه الواقع

الوسطية الإسلامية وفقه الواقع

د. محمد عمارة
22/08/2019 
وسطية هذه الأمة جَعْلٌ إلهي،‏ وليست مجرد نزعة انسانية أو اختيار بشري يرغبه البعض ويزور عنه آخرون‏.‏ (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) [لبقرة:341]

والمعني الإسلامي للوسطية هو التوازن الذي يجمع عناصر الحق والعدل من الأقطاب المتقابلة.. مكونا الموقف الثالث ـ الوسط ـ البريء من غلوي الإفراط والتفريط.. ولقد عبر الحديث النبوي الشريف أدق التعبير عن هذا المعني للوسطية الإسلامية.. عندما قال المعصوم ـ صلي الله عليه وسلم:"الوسط: العدل.. جعلناكم أمة وسطا" (رواه الإمام أحمد.)

ولأن العدل ـ الوسط ـ الخيار ـ إنما يتحقق بجمع عناصر الحق والعدل من المدعي والمدعي عليه.. واتخاذ موقف الشاهد علي هذه الموازنة بين مكونات هذا الموقف الوسط العادل ـ كانت الوسطية ـ بهذا المعني خصيصة الإسلام ـ العقيدة ـ والشريعة ـ والقيم والأخلاق ـ وخصيصة تجليات هذا الإسلام في مختلف ميادين الثقافة والمدنية ـ الحضارة ـ وسائر ممارسات الإنسان المسلم في سائر مناحي الحياة.


> لقد وازنت الوسطية بين آيات الله في كتابه المنظور ـ الكون ـ وبين آياته في كتابه المسطور ـ القرآن الكريم ـ وذلك حتي لا يغرق العقل المسلم في كتاب الكون وعالم الشهادة.. غافلا عن عالم الغيب وملكوت ما وراء المادة والطبيعة والمحسوسات.. فيقع في الدهرية التي جعلت أهلها(يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) [الروم:7]


وحتي لا يغرق هذا العقل المسلم ـ كذلك ـ في بحار عالم الغيب ومحيطات الآخرة.. التي لا قدرة للعقل علي اكتناه حقائقها.. متجاوزا حدود الأمثال التي ضربها الله ـ سبحانه وتعالي لحقائق هذه العوالم.. علي النحو الذي يجعل هذا العقل غافلا عن فقه الواقع وعمران الدنيا.. المؤدي إلي سعادة الآخرة.. وانكشاف حقائقها يوم الدين.

> كذلك وازنت الوسطية الإسلامية بين الماضي والحاضر والمستقبل.. وذلك حتي لا يهاجر العقل المسلم من الحاضر إلي التاريخ.. وحتي لا يغفل عن عظات التاريخ.. وحتي يضم استشراف المستقبل إلي معطيات الحاضر وعبر التاريخ.. فالتاريخ في الرؤية الإسلامية ـ علم من علوم اجتماع الواقع المعيش.. وليس أكفان موتي.. ولا آثارا أصماء.. والوعي به يجعله نورا للبصيرة التي تفسح الآمال في المستقبل المنظور.

> ولقد مارس المسلمون الأوائل ـ الذين أقاموا الدين وأسسو ا الدولة.. وحرروا الأوطان والضمائر من قهر الفرس والروم وقعدوا قواعد المدنية والثقافة والحضارة.. وغيروا مجري التاريخ ـ مارسوا هذا المنهاج الوسطي المتوازن.. والموازن بين معارف عالم الغيب و معارف عالم الشهادة.. فأ فأسسوا العلوم الإسلامية التي تميزت بهذا التوازن وهذه الوسطية الجامعة.. وذلك عندما فتحوا كل الأبواب وجميع الآفاق أمام العقل المسلم كي يتفكر ويتدبر في ميادين عالم الشهادة.. ليعمر هذه الأرض مع دعوة هذا العقل إلي الاقتصاد في أنباء عالم الغيب.. التي لا يستطيع العقل النسبي إدراك اطلاقاتها.. ولا تستطيع اللغة التي هي مواضعات بشرية.. التعبير عن مكنونات أسرارها.. وانطلاقا من هذا المنهاج الوسطي المتوازن فتح العقل المسلم أبواب التأويل في علوم عالم الشهادة أمام الراسخين في العلم.. مع وقف علم المآلات في معارف عالم الغيب علي علام الغيوب.. فكانت السباحة والغوص في محيطات علوم عالم الشهادة مع إلجام العوام عن الخوض فيما لا طائل من وراء الخوض فيه.

> فلما اختل هذا الميران وهذه الوسطية.. بتأثيرات النزعات الباطنية والغنوصية والغلو العرفاني.. أنفتحت أبواب التأويل والتفصيل والتفريع في معارف عوالم الغيب والروح.. وضمرت معارف المسلمين في ميادين عالم الشهادة والواقع المعيش.. فغرقت كثير من العقول والتيارات الفكرية في تفاصيل المغيبات والفروض المتخيلة حول عوالمها ومكوناتها علي حساب معارف عالم الكون والشهادة.. ولقد أثمر هذا الخلل ضمور عناصر الوحدة الفكرية والثقافية المؤسسة علي الأصول والثوابت وشاعت الفرقة والاختلافات النابعة من الغرق والاستغراق في التفاصيل والجزئيات والافتراضات المتخيلة التي تعز علي الوقوع.


> لقد كان المسلمون الأوائل ينطلقون من المنهاج القرآني الذي ألح كثيرا علي النظر في كتاب الكون ومعارف عالم الشهادة..( فسيروا في الأرض فانظروا)[آل عمران:731] ( انظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه) [الأنعام:99] ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) [العنكبوت:20]

وكانوا ـ لذلك ـ يركزون علي توجيه العقل إلي فقه الواقع.. لترشيده وتوجيهه إلي ما يحقق سعادة الناس في المعاش ـ التي هي السبيل إلي سعادتهم في المعاد.. ويحذرون العقل المسلم من القفز علي فقه الواقع.. ومن الغرق في الفروض المتخيلة.. البعيدة عن التحقيق أو التي لم تحن بعد أو أن وجودها في الواقع المعين.

ولقد حذر رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ من القفز علي الواقع.. واستباق هذا الواقع إلي ميادين السؤال والانشغال بالفروض المتخيلة.. فقال:دعوني ما تركتكم.. إنما أهلك من كان قبلكم كثرة اسئلتهم واختلافهم علي أنبيائهم.. فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.. وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما اسطتعتم ـ رواه البخاري ومسلم.


وهو توجيه نبوي إلي البدء بفقه الواقع.. دون استباق إلي ما لم يدخل حيز الوجود بعد ـ أي تعليم العقل المسلم فقه الأولويات وتوجيهه ـ كذلك ـ إلي المنهاج الإسلامي في الاقتصاد في التفضيل لأحكام الحلال والحرام.. فأبواب الإبداع مفتوحة فيما لم يرد النهي عنه.. والاتباع واجب في الفرائض والواجبات التي جاءت بها النصوص.

وفي هذا التوجيه ـ أيضا ـ قال المعصوم ـ صلي الله عليه وسلم:هلك المتنطعون ـ رواه مسلم وأبو داوود والإمام أحمد.. وقال شراح هذا الحديث: إن المتنطعين هم المتكلفون للكلام فيما لا يقع.. والمفرعون علي مسائل لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة.. وهي نادرة الوقوع جدا.. فيصرف المرء فيها زمنا كان الأولي صرفه في غيرها.


وتطبيقا لهذا المنهاج القرآني.. وهذا البيان النبوي.. كانت توجيهات الفاروق عمر بن الخطاب.. فلقد قال ابنه عبدالله بن عمر:لا تسألوا عما لم يكن.. فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن السائل عما لم يقع.. ويقول: أحرم عليكم أن تسألوا عما لم يقع.. فإن لنا فيما وقع شغلا.

وكذلك كان منهاج هذا الجيل القرآني الفريد من صحابة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ الذين تربوا في مدرسة النبوة.. فعن زيد بن ثابت(11 ق هـ ـ54 هـ116 ـ566 م) وأبي بن كعب(12 هـ246 م) وعمار بن ياسر(75 ق هـ ـ73 هـ765 ـ756 م) وهم من كتاب الوحي وحفاظه ـ أنهم كانوا إذا سئلوا عن شيء.. يقولون:هل حصل هذا؟.. فإن قيل: لا ـ قالوا: دعوه حتي يحصل.

وبهذا المنهاج الذي يبدأ بفقه الواقع.. والذي يركز علي الأصول والثوابت التي جمعت الأمة علي وحدة العقيدة والشريعة والقيم والحضارة بلور المسلمون علوم الحضارة الإسلامية.. التي أنارت الدنيا وعلمت العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق