السبت، 24 أغسطس 2019

18 عاما كيف غيرت وجه تركيا؟

18 عاما كيف غيرت وجه تركيا؟

وأنا شاهدة عليها عن قرب، حيث أتيحت لي الفرصة لمتابعتها، منذ لحظة ولادة الحزب، ومرورا بتصدره للمشهد السياسي، وما أحدثه ذلك من صدمة لكافة القوى الفاعلة

صالحة علام
يحتفل حزب العدالة والتنمية هذه الأيام بمرورِ ثمانية عشر عاما على انطلاقتهِ  في الحياة السياسية التركية، في تجربة فريدة لم يمر بها حزب سياسي آخر في دولة ذات غالبية مسلمة، يحكمها قانون علماني صارم يرفض أن يكون للدين دور في الحياة السياسية أو الاجتماعية لمواطنيها، الأمر الذي أضفى على هذه التجربة ثراء سياسيا وثقافيا، ليتحول الحزب بمقتضاهما إلى نموذج يُحتذى، ومصدر إلهام للكثير من شعوب العالم الإسلامي التواقةُ إلى التحلل من الأصفاد التي تكبلها وتمنع انطلاقِها وتعوق مسيرتها نحو الحرية والعيش وفق قناعتها العقائدية.
تجربة غيرت وجه تركيا
 تجربة أصبحت من دون مبالغة محط أنظار العالم ، هؤلاء الذين يتابعون مسيرتها، ويبتهلون من أجل استمرارها، وأولئك الذين يترقبون فشلها، ويعملون من أجل عرقلة صعودها ، تجربة غيرت وجه تركيا تماما، وأنا شاهدة عليها عن قرب، حيث أتيحت لي الفرصة لمتابعتها، منذ لحظة ولادة الحزب، ومرورا بتصدره للمشهد السياسي، وما أحدثه ذلك من صدمة لكافة القوى الفاعلة على الساحة التركية، خاصة العلمانية منها، وبما أحرزه من نجاحات انعكست تداعياتها على الداخل والخارج ، وأخيرا بما سببه من فزع ورعب للكثير من الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة في العالم الإسلامي، ومحاولاتها الدائمة للنيل منه وإقصائه عن السلطة وإنهاء تجربته.
العدالة والتنمية الوريث الشرعي للفضيلة
فحزب العدالة والتنمية الذي خرج من رحم حزب الفضيلة بعد أن تم إغلاقه بمعرفة المحكمة الدستورية في الثاني والعشرين من يونيو/ حزيران سنة 2001، يعد الوريث الشرعي لميراث الراحل نجم الدين أربكان الفكري والثقافي ونهجه السياسي، تسلم السلطة وتركيا تعاني من مشاكل جمة يصعب حصرها، مع شللِ شبه تام للبنية التحتية، وتهالك شبكة الطرق والمواصلات التي كان من المستحيل الاعتماد عليها في دولة تسعى لان تحتل مكانة متميزة على خارطة العالم السياحية.
تهميش الإسلاميين وترسانة القوانين العلمانية
أما المشكلة الأكبر التي واجهها العدالة والتنمية فتمثلت في حالة التهميش التي عاشها المنتمون للتيار الإسلامي، الذين عانوا الأمرين من ترسانة القوانين العلمانية، التي كبلت حريتهم، ومنعتهم من العيش وفق رؤيتهم المنبثقة من ثقافتهم الإسلامية، ولو على سبيل الحرية الشخصية، حيث كان ممنوعا على النساء ارتداء الحجاب، ومن ترتديه تُمنع من الدراسة في المدارس والجامعات، ومن دخول المصالح الحكومية والعامة بما فيها المشافي، كما تُمنع من العمل في دواوين الحكومة ومؤسساتها، أما الشباب فكان ممنوعا عليه إطلاق اللحى، أو الظهور بمظهر يعبر بأية صورة من الصور عن انتمائه للإسلام، إلى جانب عدم الاعتراف بشهادات خريجي ثانويات الأئمة والخطباء، الذين يتلقون تعليما دينيا، حيث لم يكن يحق لهم دخول الجامعات المدنية، ويسمح لهم فقط بالدراسة في أقسام الفقه والشريعة ، ومن يدرس منهم خارج تركيا في تخصصات علمية لا يتم توظيفه وفق تخصصه، إذ كان يتم حصر تعيينهم في العمل كأئمة مساجد فقط، حتى وإن كان يحمل شهادة في الطب أو الهندسة!
وهي العقبات التي عمل العدالة والتنمية منذ صعوده إلى سدة الحكم على حلها الواحدة تلو الأخرى، حيث بذل جهدا خارقا لتحجيم المؤسسة العسكرية التي كانت تهيمن على الحياة السياسية التركية، وتوجهها وفق رؤيتها الخاصة حفاظا على الميراث الذي تركه لها مصطفى كمال أتاتورك، ونجح الحزب نجاحا باهرا في الحد من سطوتها وتدخلها في الشؤون الداخلية للبلاد، الامر الذي فتح أمامه الطريق لتعديل حزمة  القوانين التي كبلت التيار الإسلامي التركي على مدى عقود، حيث أعاد للمحجبات حريتهن في الحركة والدراسة والعمل وهن يرتدين الزي الإسلامي، وفتح أمامهن المجال للتوظيف وممارسة حياتهن الطبيعية في دولة أصبحت لا تفرق  بين مواطنيها أيا كان توجههم العقائدي أو انتماؤهم السياسي.
وهو الأمر الذي أتاح الفرصة أمام الكثيرات لاستكمال دراستهن الجامعية، والالتحاق بسوق العمل وفق تخصصهن، فرأينا المحجبات يعملن كطبيبات وإعلاميات ووزيرات ومهندسات ومعلمات وغيرها من المهن التي كانت ممنوعة على المحجبات، كما تمت معادلة شهادات خرجي مدارس الأئمة والخطباء وأصبح بإمكان خريجيها استكمال دراستهم وفق التخصص الذي يرغبون فيه، والعمل في مجال تخصصهم من دون قيد ولا شرط.
استعادة الهوية الإسلامية والفخر بها
وفي الوقت ذاته سعى الحزب  لتطوير المنظومة الخدمية في البلاد، والتي بدأها بتطوير شبكة الطرق والمواصلات والصرف الصحي، كما سعى لتحسين ظروف المواطنين الاقتصادية حيث تضاعفت دخولهم وفق نظام دقيق يراعي فيه نسبة التضخم النصف سنوية ويتم تعويض الموظفين والعاملين في الدولة بما يوازي تلك النسبة.
اما أبرز  إنجازات العدالة والتنمية خلال الثمانية عشر عاما الماضية في اعتقادي، فهو ذلك الجهد الذي بُذل من أجل استعادة االأتراك لهويتهم الإسلامية، وشعورهم بالفخر لانتمائهم لإمبراطورية حكمت العالم، وانتصر سلاطينها على كل ملوك أوربا، واستطاعوا نشر الدين الإسلامي بين شعوب أسيا وأوربا. وكُتبت أسماؤهم بأحرف من نور في صفحات التاريخ. تلك الصفحات التي حاول العلمانيون محوها وإلغاءها من ذاكرة الامة.
الانفتاح على العالم ثقافيا وسياسيا
أما على صعيد السياسة الخارجية فقد انتهج حزب العدالة والتنمية مبدأ تصفير المشاكل، ساعيا لإعادة علاقات تركيا مع العالم الخارجي، ونجح في إخراجها من القوقعة التي عاشت فيها خلال عقود طويلة، منكفئة على نفسها، معزولة بإرادتها عن كافة التطورات الإقليمية من حولها، ومبتعدة تماما عن محيطها الجغرافي، واستطاع خلال فترة وجيزة بناء علاقات متينة مع الكثير من دول العالم خصوصا في آسيا وأفريقيا ، وهو الامر الذى أفرد مساحة من التقارب الثقافي بين تركيا ومختلف شعوب العالم، التي أصبحت تتوافد لزيارة الآثار ذات الصبغة الإسلامية، التي تذكر العالم أجمع ان هذه الأرض كانت يوما ما تحكم ثلثي الكرة الأرضية، وان حكامها خلفوا للإنسانية أبرز معالم الحضارة التي يعيش عليها العالم اليوم .
تجربة فريدة قلما يمكن ان تتكرر في تاريخ الشعوب، أن تستطيع الاحتفاظ بهويتك وسط عالم يحاربك ويسعى لتدميرك والقضاء عليك، وأن تنجح وتتفوق، وتتصدى للمؤامرة تلو الأخرى دفاعا عن مبادئك وما تقتنع به ولتحقيق حلم طالما داعب خيالك. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق