د. ليلى حمدان
لدى الأمة المسلمة قوَّة وعِزة وتاريخ يميّزها عن بقيّة الأمم بكل تأكيد، ورغم ذلك تمكنت الأنظمة الديكتاتورية القمعية الحاكمة من ترويض شعوبها وتحويلها لقطعان ضعيفة خانعة منصاعة غير قادرة على تغيير واقعها المؤسف.
سياسة الترويض هذه استمرت أمدا طويلا فكانت عواقبها وخيمة على الأمة المسلمة، حين تجلت في مستوى التخلف الحضاري وتقاقم معدلات الفقر والجهل والظلم والاستنزاف لموارد وطاقات وثروات بلاد المسلمين والانجرار الأعمى خلف سياسات الغرب ومصالحهم.
فكيف تمكنت الأنظمة المستبدة الحاكمة من سياسة هذه الشعوب المسلمة؟ وكيف نجحت في ترويضها طيلة عقود من الزمن رغم فساد حكامها وضعف همتهم في الصعود بالأمة! وما هي الآليات النفسية التي اعتمدتها لكي تتحكم في الملايين وتروضهم كأنهم قطعان تُساس لرغبات وأهواء الحكام الطغاة.
بحوث كثيرة نشرت لتفسر ظاهرة ترويض الشعوب المسلمة وغير المسلمة، وأغلبها يتحدث عن استخدام نظريات علم النفس، على رأسها نظرية الاقتران الشرطي الذي توصل إليه العالم “بافلوف” بتجربته الشهيرة مع الكلب، وهي تجربة عمد فيها “بافلوف” إلى ربط الطعام بصوت الجرس حتى أصبح لعاب الكلب يسيل بمجرد أن يسمع صوت الجرس.
لا شك أن الأنظمة الطاغية الحاكمة أتقنت فن الترهيب والتخويف ولم يزل الخوف هو الشعور المشترك بين المسلمين منذ زمن بعيد، ويتلخص هذا الخوف من السجن والتعذيب والفقر والحرمان والمستقبل، والذي وصل أحيانا كثيرة إلى درجة الرعب والشلل التام والانطواء والتخلف .. ورغم ما يكنّه القلب من بغض شديد وكراهية لهذا النظام أو ذاك، إلا أن الجرأة على الإنكار تصل إلى درجة الصفر، خشية عواقب هذا التمرد.
لقد نجحت الأنظمة الظالمة الحاكمة في الربط بين العقاب الصارم الذي لا مفر منه وبين أي تمرد أو سلوك أو فعل أو حتى قول، يمكن أن ينال من النظام الحاكم.
فترسخ لدى الناس مفهوم أن التمرد يعني الردع، يعني العقاب، فيكون التثبيط والخنوع هو الرد الشرطي المقترن في كل حالة.
ورغم محاولة الشعوب المسلمة إعلان الثورة ونجاحها في بعض البلاد من الاقتصاص من الحاكم الظالم وخلع نظامه، إلا أن بقية هذه الأنظمة في غير بلاد أو حتى في نفس البلاد، لا زالت تمارس الوحشية والعنف في التعامل مع المتظاهرين السلميين – ودون تردد – تلجأ إلى تصفية المعارضين جسديا والانتقام منهم بالتعذيب والتنكيل بأبشع وأقسى الطرق بل قد يصل الأمر إلى ترويع ذويهم والتعدي على أعراضهم وممتلكاتهم .
لا تعترف هذه الأنظمة الحاكمة بشيء إسمه “المعارضة” أو”النقد”، كلما ذكرت معارضة أو ذكر النقد، قابلتهما أساليب الترويض ليس فقط بالتخويف والقمع بل بتطبيق كل السياسات الناجعة لإحكام القبضة وضبط هذه الشعوب بما يوافق مصالحها.
فبدل أن تستخدم العصا وحدها استخدمت معها الجزرة أيضا، والجزرة هي الترغيب والتحكم الناعم الذكي الذي يستغفل الشعوب ويقربها من النظام الحاكم فيخدعها بشعارات الحرية و”الديمقراطية” ، بينما يُبقي على جوهر الاستبداد. وهذا ما يفسر لماذا يحرص بعض الحكام العرب على إقامة انتخابات رئاسية والإعلان عنها في كل وسائل الإعلام بفخر.
والجواب لأن نتائج هذه الانتخابات عادة ما تكون 99 في المائة لصالح الرئيس الحاكم، ويفسر أيضا، لماذا تقام الانتخابات البرلمانية ويفتح المجال أمام البرلمانيين للترشح وعرض برامجهم وأفكارهم بـ”حرية”، والجواب لأن كل المشاركين فيها عادة ما يكونون من الأحزاب “الكرتونية” التي يرعاها النظام الحاكم، و لا زالت مجالس النواب لا تستطيع ممارسة سلطاتها فعليا ولا إصدار أي قانون إلا بإذن الحاكم. ولا يتعدى دورها عن إسباغ صورة “متحضرة” عصرية على أنظمة استبدادية قمعية وإيهام الشعوب بأنهم يقيمون نظاما “ديمقراطيا” حرا يواكب حريات العالم الغربي “المتحضر” في حين أن الحقيقة عكس ذلك تماما.
ومن أساليب هذا الترويض
الإكثار من الاحتفالات والأعياد الوطنية التي تسبب حالة نسيان لما يعيشه الشعب من واقع مؤلم، وتعزز فيه شعور الانتماء والهوية والوطنية. كما لابد أن تعرض صورة الحاكم بشكل متلازم مع الأغاني والأهازيج الوطنية. فترسخ في أذهان الناس قاعدة ربط الحاكم بالوطن حتى يصبح هو والوطن شيء واحد ، ويكفي بعدها أن توجه المعارضة اتهاما واحدا للحاكم لتُتهم بالعمالة وكراهية الوطن لأن الوطن اختزل في شخص الحاكم.
وقد أدرك النظام أهمية التحكم بالعقول والتلاعب بها وترويض الشعوب عن طريق وسائل الإعلام السمعية والبصرية، التي تُؤثر مباشرة في الحيّز الإدراكي للناس وتُهوّن المصاب وتُلمّع الحاكم وتشغل الشعب بما تحدده هذه الوسائل الإعلامية وفق أهداف مدروسة، والتي تجبره في الأخير على احترام وتبجيل هذا النظام الحاكم لأجل مصلحة الوطن الواحد!
اللافتات والملصقات التي تملأ الطرق والساحات وسيلة أخرى من وسائل الترويض، والتي لا بد أن توضع في مواقع مدروسة وتُنتقى لها العبارات المفحوصة! فصور الحاكم المختارة بعناية بأزياء مختلفة ووضعيات معيّنة، لا توضع في أي مكان ولكنها توضع في مكان أعلى من المشاهد بحيث تصبح العلاقة فوقية دونية. فيتذكر هذا المواطن في كل حركاته أن هناك من يحكمه وتحفر في ذهنة تلك الصورة الفوقية وتلك السيطرة اللاإرادية لسلطته.
حين يلحظ الحاكم بوادر تمرد أو استنكار أو يقرر تمرير حدث أو قانون يعارضه الشعب، يعمد لشغل هذا الشعب بافتعال قضايا جانبية كإثارة خلافات مذهبية فقهية أو عرقية أو اجتماعية.. يسارع لخلق أشكال من الفوضى لإثارة ردود أفعال معينة، يتفنن في تفجير أزمات أمنية أو اقتصادية، يضخ سيل الشائعات المشتتة والمضللة، ثم يطرح حلولا يتنازل الناس بموجبها عن حرياتهم وحقوقهم وتخمد ثورتهم ويتبدد غضبهم.
خطة عمل النظام لتطبيق سياسة الترويض
يبدأ النظام أولا بتحديد عناصر القوَّة والضَّعف لدى الشعب. وهذا يعتمد على شبكته الإستخباراتية وعيونه المنشورة بين طبقات هذا الشعب المختلفة، وعادة ما تشمل عناصر القوّة الطبقة المفكرة والمثقفة التي تسعى لإحقاق التغيير في المجتمع أو تتبنى تيارات بذاتها تؤمن بمشروع التغيير. ويمكننا تصنيف كل من خالف النظام أو حمل فكرا يهدد بقاء النظام أو ينتقده في دائرة “المعارضة”، وهي تحديدا – بمختلف أوجهها- تحت رقابة هذا الحاكم في كل سكناتها وحركاتها فضلا عن جميع مصادر الإلهام لهذا الشعب من علوم وحريات والتي يتم حصرها وتتبع منافذها. أما مصادر الضعف فهي تدخل في نطاق كل ما يُلهي هذا الشعب ويشتت تركيزه ويشغله عن مطالبه. فيتم تغذيتها وتقويتها وبحث الأطراف التي تنشط فيها فيتم تقريبهم وإشهارهم وتوسيع صلاحياتهم بين الناس فيعلو صوت السفهاء ويعلو المنابر الجهلاء وتتصدر أخبار الفن والغناء والرياضة الاهتمامات.
ثانيا: القضاء على مصادر القوة أو إضعافها بكل الطرق المتاحة: ويتجلى ذلك في تجميد كل الحركات والأحزاب والأفراد والمشاريع التي تهدد هذا النظام وملاحقة الرموز وتشويه الرسائل الناقدة والسجن بتهم وبدون تهم والإقصاء التام من الساحة. فضلا عن فرض رقابة على مصادر العلم وكبت الحريات وحجب مواقع الأنترنت التي تصنف مُلهمة لهذه الشعوب ومصدر قوة لأي ثورة أو نقد.
ثالثا: سياسة شراء الذمم واستعطاف القوى والأفراد التي قد تهدد النظام الحاكم، بالإغراءات المادية وتوسيع الصلاحيات والظهور الإعلامي الواسع. لتتحول إلى بطانة لهذا النظام تدعم بقاءه وتسبح بحمده ليل نهار. وهي القدوات البديلة التي يتخذها النظام لسد الفراغ الذي يتركه إقصاء القدوات الحقيقية، ويدخل في هذه “علماء السلطان” ودعاة باعوا ضميرهم وذممهم بثمن بخس. وأغلب من يسقط في هذه الحفرة هم الجهال والذين في قلوبهم مرض وبهم ترتفع راية الضلال ولكن إلى حين.
رابعا : زرع كل ما يشغل الشعب بما يَمنعه من التفكير في الترويض، فيصبح تأمين لقمة العيش أكبر همه، وجمع الثروة والتَّرف المادي أكبر أمانيه، وتصبح الدنيا والعلو فيها أكبر أهدافه، أما القيم والمبادئ فلا يرعى لها اهتماما، وحجته في كل نازلة أو مصاب يصيب أمة الإسلام، الردود اليائسة والروح المعنوية المحطمة والتبريرات العقيمة والانهزامية المملّة، ولا يكتفي بتثبيط نفسه فقط، بل يسعى لنشر هذا التثبيط بين الناس وكما يقال، “إذا عمّت خفّت”. فيتصدى بذلك لصوت خافت قد يهتف بين الحين والآخر في قرارة نفسه، محاولا إيقاظه من هذا السبات الذي طال.
ماذا لو ثارت الشعوب؟
حتى لو ثارت الشعوب تبقى سياسة الترويض هي السلاح المعتمد ضد الثورات ومن شبّ على شيء شاب عليه.
فتارة يعتمد النظام القوة والردع والقتل والأسر، وهي السياسة التي طالما هدد بها لضمان بقاء ملكه.. أو يعمد لسياسة الوعود والتطمينات والفتاوى المضللة والحقن الفكرية المخدرة ، وقد يلجأ للتدرج في استغفال الشعب، وتمهيد نفسيته لقبول المرفوض والرضا بالمستهجن، وخير مثال على ذلك قضية فلسطين التي كانت سبب وحدة الأمة وثورانها وغضبها، فبعد أن كان إسم إسرائيل منبوذا في كل سياسات الحكام خشية الثورة والانتقاد، بعد تطبيق سياسة الترويض، أصبح التطبيع سياسة مقبولة، والتعامل مع إسرائيل واجب المرحلة بل والتعاون مع إسرائيل من الذكاء والحذلقة.
لتصبح السفارات والقنصليات الإسرائيلية في البلاد العربية والإسلامية التي كانت ترفض كل أشكال التعامل والتعاون الإسرائيلي أمرا بديهيا “ديمقراطيا” تحضريا..ولتصبح التجارة والمصالح الاقتصادية مع إسرائيل أولوية وذات أهمية، ولتصبح راية إسرائيل ترفرف بكل طلاقة فوق أرض مسلمة يرفض شعبها أي تطبيع مع إسرائيل باطنا ولكنه يصمت ظاهرا فقد ألف التخدير!
علنا أو من تحت الطاولة أو من وراء ستار، هكذا تروض الأنظمة القمعية شعوبها وتدفعها لقبول الفضيع والمستبعد والمستعظم والمستنكر، وهذه خلاصة فن الترويض للشعوب، تهيئتها المسبقة للقبول بكل ما يهواه الحاكم.
لن يخلو خطاب الحاكم من شعارات رنانة للوطنية والقومية والتضحية ولكن لصالح من صيغت وصوّرت ونشرت؟!.. بكل تأكيد لصالح نظام فاسد قمعي مستبد، لم يقدم لشعوب يحكمها حتى أدنى مستوى حياة محترمة ولا عدل ولا إنصاف يشكر عليه.
قد يتوهم البعض أن هذا التشخيص لحالة الترويض التي عانت منها الشعوب المسلمة ولا زالت، مبالغ فيه أو تهويل لواقع معاش، فإن كانت تشخيصات شهود عيان مطعون فيها، فدونكم كتابات الغرب وتشخيصهم لهذا الترويض، ومن بين أبرز ما كتب في هذا الباب، كتاب “أوهام ضرورية” للمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، أحد أشهر منتقدي السياسة الأمريكية، لعله يكشف بعض الاستراتيجيات المتبعة من دول وأنظمة طاغوتية جثمت على رقاب المسلمين أمدا.
في الأخير، ها قد شخصنا الحالة، ولابد لكل مرض من علاج، ولكل داء من دواء، ولن يكون التطبيب فعالا دون النظر في فزيولوجيا الصراع، ومسببات الترويض، ولعل أهم خطوة نحو العلاج التام هي تحطيم نظرية الاقتران الشرطي لمفاجأة النظام وإحباطه، لكسر حاجز الخوف تماما والتخلص من شعور الوهن والعجز والفشل، وتعزيز الإيمان بالقوة والقدرة على التغيير بالعزم والإصرار، وبالنظر لتجارب الشعوب التي ثارت فاقتلعت النظام الحاكم وإن كانت تجارب نادرة أو استمراريتها مرهونة، إلا أنها نجحت في الأخير بوحدة الشعب ووحدة المطلب والثبات على خط الثورة الواحد المستمر والمنظم الهادف الواضح الرؤية، وبالإداراك التام لألاعيب وسياسات الترويض والقمع للأنظمة الحاكمة، نجحت في فرض كلمتها في الأخير على ذلك النظام الشقي التعيس الفاني لا محالة .. هذا هو سبيل انتزاع الحريات، قد حفره التاريخ من تجارب الغابرين ونوازل السابقين، بعبارة جامعة ثاقبة “الحرية تنتزع ولا تعطى”.. ثم تبدأ بعدها رحلة البناء والرقي الحضاري والازدهار.
بقلم: د. ليلى حمدان
لدى الأمة المسلمة قوَّة وعِزة وتاريخ يميّزها عن بقيّة الأمم بكل تأكيد، ورغم ذلك تمكنت الأنظمة الديكتاتورية القمعية الحاكمة من ترويض شعوبها وتحويلها لقطعان ضعيفة خانعة منصاعة غير قادرة على تغيير واقعها المؤسف.
سياسة الترويض هذه استمرت أمدا طويلا فكانت عواقبها وخيمة على الأمة المسلمة، حين تجلت في مستوى التخلف الحضاري وتقاقم معدلات الفقر والجهل والظلم والاستنزاف لموارد وطاقات وثروات بلاد المسلمين والانجرار الأعمى خلف سياسات الغرب ومصالحهم.
فكيف تمكنت الأنظمة المستبدة الحاكمة من سياسة هذه الشعوب المسلمة؟ وكيف نجحت في ترويضها طيلة عقود من الزمن رغم فساد حكامها وضعف همتهم في الصعود بالأمة! وما هي الآليات النفسية التي اعتمدتها لكي تتحكم في الملايين وتروضهم كأنهم قطعان تُساس لرغبات وأهواء الحكام الطغاة.
بحوث كثيرة نشرت لتفسر ظاهرة ترويض الشعوب المسلمة وغير المسلمة، وأغلبها يتحدث عن استخدام نظريات علم النفس، على رأسها نظرية الاقتران الشرطي الذي توصل إليه العالم “بافلوف” بتجربته الشهيرة مع الكلب، وهي تجربة عمد فيها “بافلوف” إلى ربط الطعام بصوت الجرس حتى أصبح لعاب الكلب يسيل بمجرد أن يسمع صوت الجرس.
لا شك أن الأنظمة الطاغية الحاكمة أتقنت فن الترهيب والتخويف ولم يزل الخوف هو الشعور المشترك بين المسلمين منذ زمن بعيد، ويتلخص هذا الخوف من السجن والتعذيب والفقر والحرمان والمستقبل، والذي وصل أحيانا كثيرة إلى درجة الرعب والشلل التام والانطواء والتخلف .. ورغم ما يكنّه القلب من بغض شديد وكراهية لهذا النظام أو ذاك، إلا أن الجرأة على الإنكار تصل إلى درجة الصفر، خشية عواقب هذا التمرد.
لقد نجحت الأنظمة الظالمة الحاكمة في الربط بين العقاب الصارم الذي لا مفر منه وبين أي تمرد أو سلوك أو فعل أو حتى قول، يمكن أن ينال من النظام الحاكم.
فترسخ لدى الناس مفهوم أن التمرد يعني الردع، يعني العقاب، فيكون التثبيط والخنوع هو الرد الشرطي المقترن في كل حالة.
ورغم محاولة الشعوب المسلمة إعلان الثورة ونجاحها في بعض البلاد من الاقتصاص من الحاكم الظالم وخلع نظامه، إلا أن بقية هذه الأنظمة في غير بلاد أو حتى في نفس البلاد، لا زالت تمارس الوحشية والعنف في التعامل مع المتظاهرين السلميين – ودون تردد – تلجأ إلى تصفية المعارضين جسديا والانتقام منهم بالتعذيب والتنكيل بأبشع وأقسى الطرق بل قد يصل الأمر إلى ترويع ذويهم والتعدي على أعراضهم وممتلكاتهم .
لا تعترف هذه الأنظمة الحاكمة بشيء إسمه “المعارضة” أو”النقد”، كلما ذكرت معارضة أو ذكر النقد، قابلتهما أساليب الترويض ليس فقط بالتخويف والقمع بل بتطبيق كل السياسات الناجعة لإحكام القبضة وضبط هذه الشعوب بما يوافق مصالحها.
فبدل أن تستخدم العصا وحدها استخدمت معها الجزرة أيضا، والجزرة هي الترغيب والتحكم الناعم الذكي الذي يستغفل الشعوب ويقربها من النظام الحاكم فيخدعها بشعارات الحرية و”الديمقراطية” ، بينما يُبقي على جوهر الاستبداد. وهذا ما يفسر لماذا يحرص بعض الحكام العرب على إقامة انتخابات رئاسية والإعلان عنها في كل وسائل الإعلام بفخر.
والجواب لأن نتائج هذه الانتخابات عادة ما تكون 99 في المائة لصالح الرئيس الحاكم، ويفسر أيضا، لماذا تقام الانتخابات البرلمانية ويفتح المجال أمام البرلمانيين للترشح وعرض برامجهم وأفكارهم بـ”حرية”، والجواب لأن كل المشاركين فيها عادة ما يكونون من الأحزاب “الكرتونية” التي يرعاها النظام الحاكم، و لا زالت مجالس النواب لا تستطيع ممارسة سلطاتها فعليا ولا إصدار أي قانون إلا بإذن الحاكم. ولا يتعدى دورها عن إسباغ صورة “متحضرة” عصرية على أنظمة استبدادية قمعية وإيهام الشعوب بأنهم يقيمون نظاما “ديمقراطيا” حرا يواكب حريات العالم الغربي “المتحضر” في حين أن الحقيقة عكس ذلك تماما.
ومن أساليب هذا الترويض
الإكثار من الاحتفالات والأعياد الوطنية التي تسبب حالة نسيان لما يعيشه الشعب من واقع مؤلم، وتعزز فيه شعور الانتماء والهوية والوطنية. كما لابد أن تعرض صورة الحاكم بشكل متلازم مع الأغاني والأهازيج الوطنية. فترسخ في أذهان الناس قاعدة ربط الحاكم بالوطن حتى يصبح هو والوطن شيء واحد ، ويكفي بعدها أن توجه المعارضة اتهاما واحدا للحاكم لتُتهم بالعمالة وكراهية الوطن لأن الوطن اختزل في شخص الحاكم.
وقد أدرك النظام أهمية التحكم بالعقول والتلاعب بها وترويض الشعوب عن طريق وسائل الإعلام السمعية والبصرية، التي تُؤثر مباشرة في الحيّز الإدراكي للناس وتُهوّن المصاب وتُلمّع الحاكم وتشغل الشعب بما تحدده هذه الوسائل الإعلامية وفق أهداف مدروسة، والتي تجبره في الأخير على احترام وتبجيل هذا النظام الحاكم لأجل مصلحة الوطن الواحد!
اللافتات والملصقات التي تملأ الطرق والساحات وسيلة أخرى من وسائل الترويض، والتي لا بد أن توضع في مواقع مدروسة وتُنتقى لها العبارات المفحوصة! فصور الحاكم المختارة بعناية بأزياء مختلفة ووضعيات معيّنة، لا توضع في أي مكان ولكنها توضع في مكان أعلى من المشاهد بحيث تصبح العلاقة فوقية دونية. فيتذكر هذا المواطن في كل حركاته أن هناك من يحكمه وتحفر في ذهنة تلك الصورة الفوقية وتلك السيطرة اللاإرادية لسلطته.
حين يلحظ الحاكم بوادر تمرد أو استنكار أو يقرر تمرير حدث أو قانون يعارضه الشعب، يعمد لشغل هذا الشعب بافتعال قضايا جانبية كإثارة خلافات مذهبية فقهية أو عرقية أو اجتماعية.. يسارع لخلق أشكال من الفوضى لإثارة ردود أفعال معينة، يتفنن في تفجير أزمات أمنية أو اقتصادية، يضخ سيل الشائعات المشتتة والمضللة، ثم يطرح حلولا يتنازل الناس بموجبها عن حرياتهم وحقوقهم وتخمد ثورتهم ويتبدد غضبهم.
خطة عمل النظام لتطبيق سياسة الترويض
يبدأ النظام أولا بتحديد عناصر القوَّة والضَّعف لدى الشعب. وهذا يعتمد على شبكته الإستخباراتية وعيونه المنشورة بين طبقات هذا الشعب المختلفة، وعادة ما تشمل عناصر القوّة الطبقة المفكرة والمثقفة التي تسعى لإحقاق التغيير في المجتمع أو تتبنى تيارات بذاتها تؤمن بمشروع التغيير. ويمكننا تصنيف كل من خالف النظام أو حمل فكرا يهدد بقاء النظام أو ينتقده في دائرة “المعارضة”، وهي تحديدا – بمختلف أوجهها- تحت رقابة هذا الحاكم في كل سكناتها وحركاتها فضلا عن جميع مصادر الإلهام لهذا الشعب من علوم وحريات والتي يتم حصرها وتتبع منافذها. أما مصادر الضعف فهي تدخل في نطاق كل ما يُلهي هذا الشعب ويشتت تركيزه ويشغله عن مطالبه. فيتم تغذيتها وتقويتها وبحث الأطراف التي تنشط فيها فيتم تقريبهم وإشهارهم وتوسيع صلاحياتهم بين الناس فيعلو صوت السفهاء ويعلو المنابر الجهلاء وتتصدر أخبار الفن والغناء والرياضة الاهتمامات.
ثانيا: القضاء على مصادر القوة أو إضعافها بكل الطرق المتاحة: ويتجلى ذلك في تجميد كل الحركات والأحزاب والأفراد والمشاريع التي تهدد هذا النظام وملاحقة الرموز وتشويه الرسائل الناقدة والسجن بتهم وبدون تهم والإقصاء التام من الساحة. فضلا عن فرض رقابة على مصادر العلم وكبت الحريات وحجب مواقع الأنترنت التي تصنف مُلهمة لهذه الشعوب ومصدر قوة لأي ثورة أو نقد.
ثالثا: سياسة شراء الذمم واستعطاف القوى والأفراد التي قد تهدد النظام الحاكم، بالإغراءات المادية وتوسيع الصلاحيات والظهور الإعلامي الواسع. لتتحول إلى بطانة لهذا النظام تدعم بقاءه وتسبح بحمده ليل نهار. وهي القدوات البديلة التي يتخذها النظام لسد الفراغ الذي يتركه إقصاء القدوات الحقيقية، ويدخل في هذه “علماء السلطان” ودعاة باعوا ضميرهم وذممهم بثمن بخس. وأغلب من يسقط في هذه الحفرة هم الجهال والذين في قلوبهم مرض وبهم ترتفع راية الضلال ولكن إلى حين.
رابعا : زرع كل ما يشغل الشعب بما يَمنعه من التفكير في الترويض، فيصبح تأمين لقمة العيش أكبر همه، وجمع الثروة والتَّرف المادي أكبر أمانيه، وتصبح الدنيا والعلو فيها أكبر أهدافه، أما القيم والمبادئ فلا يرعى لها اهتماما، وحجته في كل نازلة أو مصاب يصيب أمة الإسلام، الردود اليائسة والروح المعنوية المحطمة والتبريرات العقيمة والانهزامية المملّة، ولا يكتفي بتثبيط نفسه فقط، بل يسعى لنشر هذا التثبيط بين الناس وكما يقال، “إذا عمّت خفّت”. فيتصدى بذلك لصوت خافت قد يهتف بين الحين والآخر في قرارة نفسه، محاولا إيقاظه من هذا السبات الذي طال.
ماذا لو ثارت الشعوب؟
حتى لو ثارت الشعوب تبقى سياسة الترويض هي السلاح المعتمد ضد الثورات ومن شبّ على شيء شاب عليه.
فتارة يعتمد النظام القوة والردع والقتل والأسر، وهي السياسة التي طالما هدد بها لضمان بقاء ملكه.. أو يعمد لسياسة الوعود والتطمينات والفتاوى المضللة والحقن الفكرية المخدرة ، وقد يلجأ للتدرج في استغفال الشعب، وتمهيد نفسيته لقبول المرفوض والرضا بالمستهجن، وخير مثال على ذلك قضية فلسطين التي كانت سبب وحدة الأمة وثورانها وغضبها، فبعد أن كان إسم إسرائيل منبوذا في كل سياسات الحكام خشية الثورة والانتقاد، بعد تطبيق سياسة الترويض، أصبح التطبيع سياسة مقبولة، والتعامل مع إسرائيل واجب المرحلة بل والتعاون مع إسرائيل من الذكاء والحذلقة.
لتصبح السفارات والقنصليات الإسرائيلية في البلاد العربية والإسلامية التي كانت ترفض كل أشكال التعامل والتعاون الإسرائيلي أمرا بديهيا “ديمقراطيا” تحضريا..ولتصبح التجارة والمصالح الاقتصادية مع إسرائيل أولوية وذات أهمية، ولتصبح راية إسرائيل ترفرف بكل طلاقة فوق أرض مسلمة يرفض شعبها أي تطبيع مع إسرائيل باطنا ولكنه يصمت ظاهرا فقد ألف التخدير!
علنا أو من تحت الطاولة أو من وراء ستار، هكذا تروض الأنظمة القمعية شعوبها وتدفعها لقبول الفضيع والمستبعد والمستعظم والمستنكر، وهذه خلاصة فن الترويض للشعوب، تهيئتها المسبقة للقبول بكل ما يهواه الحاكم.
لن يخلو خطاب الحاكم من شعارات رنانة للوطنية والقومية والتضحية ولكن لصالح من صيغت وصوّرت ونشرت؟!.. بكل تأكيد لصالح نظام فاسد قمعي مستبد، لم يقدم لشعوب يحكمها حتى أدنى مستوى حياة محترمة ولا عدل ولا إنصاف يشكر عليه.
قد يتوهم البعض أن هذا التشخيص لحالة الترويض التي عانت منها الشعوب المسلمة ولا زالت، مبالغ فيه أو تهويل لواقع معاش، فإن كانت تشخيصات شهود عيان مطعون فيها، فدونكم كتابات الغرب وتشخيصهم لهذا الترويض، ومن بين أبرز ما كتب في هذا الباب، كتاب “أوهام ضرورية” للمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، أحد أشهر منتقدي السياسة الأمريكية، لعله يكشف بعض الاستراتيجيات المتبعة من دول وأنظمة طاغوتية جثمت على رقاب المسلمين أمدا.
في الأخير، ها قد شخصنا الحالة، ولابد لكل مرض من علاج، ولكل داء من دواء، ولن يكون التطبيب فعالا دون النظر في فزيولوجيا الصراع، ومسببات الترويض، ولعل أهم خطوة نحو العلاج التام هي تحطيم نظرية الاقتران الشرطي لمفاجأة النظام وإحباطه، لكسر حاجز الخوف تماما والتخلص من شعور الوهن والعجز والفشل، وتعزيز الإيمان بالقوة والقدرة على التغيير بالعزم والإصرار، وبالنظر لتجارب الشعوب التي ثارت فاقتلعت النظام الحاكم وإن كانت تجارب نادرة أو استمراريتها مرهونة، إلا أنها نجحت في الأخير بوحدة الشعب ووحدة المطلب والثبات على خط الثورة الواحد المستمر والمنظم الهادف الواضح الرؤية، وبالإداراك التام لألاعيب وسياسات الترويض والقمع للأنظمة الحاكمة، نجحت في فرض كلمتها في الأخير على ذلك النظام الشقي التعيس الفاني لا محالة .. هذا هو سبيل انتزاع الحريات، قد حفره التاريخ من تجارب الغابرين ونوازل السابقين، بعبارة جامعة ثاقبة “الحرية تنتزع ولا تعطى”.. ثم تبدأ بعدها رحلة البناء والرقي الحضاري والازدهار.
بقلم: د. ليلى حمدان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق