أوراق الربيع (49)..
من الأيديولوجيات القومية إلى الفضاءات الحضارية
محمد مختار الشنقيطي
أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان
من أهم الواجبات الضرورية، الممهِّدة لاستئناف الحضارة الإسلامية اليوم، وصْلُ الأرحام التاريخية والثقافية التي تقطَّعت جرَّاء الشطط القومي الذي صاحب تفكُّك الامبراطورية العثمانية في صدر القرن العشرين، وهي امبراطورية "أُنشئتْ على مفترق تقاطع الثقافات القديمة" كما وصفها السياسي والمفكر التركي أحمد داود أغلو في كتابه العميق، المعنون: العمق الاستراتيجي (ص 33). وهو من خيرة الكتب في الفكر الاستراتيجي والجغرافيا السياسية الصادرة في عصرنا.
وقد صاحب تفكك الامبراطورية العثمانية الكثير من سوء الظن المتبادل، والصور النمطية السلبية المتبادلة بين الشعوب التي كانت تسْتظِل بتلك الامبراطورية، من عرب وترك وكرد وغيرهم. وقد شرح الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف مثالاً على ذلك من العلاقات بين العرب والترك، فكتب عن التمايز القومي في ختام الحقبة العثمانية: "اجتهدتْ مختلف الشعوب في تحميل بعضها مسؤولية الآلام التي تعاني منها: إذا كان العرب لا يتقدمون فذلك بسبب الحكم التركي الذي كان يجمِّدهم، وإذا كان الأتراك لا يتقدمون فذلك لأنهم يجرُّون منذ قرون عبء العالم العربي. أليست فضيلة القومية الأولى أنها تجد لكل مسألة مذنبا، بدلا من حل؟ إذنْ تمرَّدَ العرب على الأتراك مقتنعين أن نهضتهم ستُقلِع أخيراً، بينما كان الأتراك منهمكين في إزالة الآثار العربية عن ثقافتهم ولغتهم وأبجديتهم ولباسهم، ليتمكنوا من الانضمام إلى أوربا، بسهولة أكثر، وحمولة أقل." (أمين معلوف، الهويات القاتلة، 73).
وكانت ثمار هذا الهروب من الفضاء الحضاري المشترك ثمارا مريرة، إذ لم تحقق لأيٍّ من العرب أو الأتراك ما كان يحلم به، فلا العرب حقَّقوا نهضتهم بالتخلص من الحكم التركي، ولا الأتراك انضموا إلى الاتحاد الأوربي بتملُّصهم من العرب، وخسر الطرفان -كما خسرت شعوب إسلامية عديدة- قوة الوحدة والالتحام، وقطَّعت الأرحام الإنسانية والتاريخية التي نسجتها فيما بينها عبر القرون. وقد بدأت تركيا في العقود الأخيرة تخرج من الانكفاء القومي، وتتطلَّع إلى وصْل الأرحام التاريخية التي تربطها بالعرب وغيرهم من الشعوب التي جمعتْها التجربة الإسلامية مع الأتراك. وعبَّر داود أغلو عن ذلك بالقول: "وباعتبار تركيا دولة قومية قامت على الميراث العثماني -وإن بخصائص جديدة- في بداية القرن الماضي، تجد نفسها مضطرة مرة أخرى لتواجه مسؤولياتها الجيوسياسية والجيوثقافية المتعلقة بهذا الميراث مع نهاية القرن نفسه. إن هذه المسؤوليات التي تقع على عاتق تركيا ستفتح آفاقا جديدة وإمكانات جديدة للسياسة الخارجية التركية، وستكون الأكثر تأثيرا في تشكيل الذهنية الاستراتيجية التركية وهويتها في المراحل المقبلة". (العمق الاستراتيجي، 42).
عددا من المنظرين القوميين ظلوا -في الماضي والحاضر- يستبطنون منظورا أقلَّويًّا طائفيا، متحيزا ضد الإسلام كمصدر للولاء والانتماء |
لقد بدأت النخبة التركية أخيرا تدرك أنه "من الصعب على مجتمع ضعيف الوعي وضعيف الذاكرة التاريخية أن يترك بصْمته، وأن يخط كيانه في مسرح التاريخ." (العمق الاستراتيجي، 84). وتسويغاً لوجهة تركيا الجديدة أوضح داود أوغلو أن التفكير الاستراتيجي للمجتمعات المعاصرة ليس مُنْبتاًّ عن تجاربها التاريخية وفضاءاتها الحضارية، كما تدل عليه سياسات روسيا القيصرية ووريثها الاتحاد السوفياتي، حيث "يُظهر استمرار الأولويات الاستراتيجية لقيصرية روسيا الأورثودوكسية، وتوازيها مع الأولويات الاستراتيجية للاتحاد السوفياتي السابق الملحد، مدى تأثير المعطيات الثابتة -كالتاريخ والجغرافية- على الذهنية الاستراتيجية للمجتمعات." (العمق الاستراتيجي، 50). وانتقد داود أوغلو "سياسة إدارة الظهر التي اتبعتها تركيا تجاه الشرق الأوسط،" (العمق الاستراتيجي، 80). وسخر من المثقف العلماني التركي الذي يريد أن يكون "غرْبياًّ رغما عن الغرب." (العمق الاستراتيجي، 112).
وما أجدرَ العرب والأتراك والكرد والأفارقة والأمازيغ والفُرْس، وغيرهم من الأقوام الذين جمعهم الفضاء الحضاري الإسلامي قرونا مديدة، أن يستخلصوا العبرة من التاريخ الأوربي. فقد سارت أوروبا من قبل في مسار الشطط القومي، فانتهى بها إلى الدمار في الحربين العالمتين الأولى والثانية. وهكذا انتهت القومية الأوروبية (قومية الرجل الأبيض) المتعالية على بقية البشرية، المسوِّغة لنفسها كلَّ ضروب الظلم والاستعمار والاستغلال، إلى قومية ألمانية متعالية على بقية الشعوب الأوربية، تتبنَّى نظرية العرق الآري المختار التي جسدتها النازية بكل همجيتها.
وقد أحسن مالك بن نبي الربط بين مراحل هذا المسار، فكتب: "لقد انقلب الاستعمار في الضمير الأوربي إلى قومية عمياء، آلت بعد تصفيتها وتكريرها إلى أسطورة (الجنس المختار)، التي ستُتَّخذ فيما بعدُ ذريعة إلى بلوغ قمة البربرية، وبذلك أدَّى قيام الاستعمار على أساس احتقار الأجناس إلى نشوء (جنس أسمى) بين سائر أجناس البشرية." (بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، 134). وواضح أن أوروبا استخلصت العبرة الصحيحة من هذا المسار، بعد ما ذاقتْه من دمار، فاعترفت بفضائها الحضاري المشترك، وبدأت مسار وحدتها بعد الحرب العالمية الثانية، على أسس أخلاقية وإنسانية جديدة، ليس فيها شطط قومي، ولا عرقٌ أسمى من سائر الأعراق.
ولسنا نقصد هنا أن الانتماء القومي ليس هوية شرعية، وإنما نقصد أن الانتماء القومي –وهو انتماء شرعي شأنه شأن كل الهويات الاجتماعية- يحتاج إلى أن يتسع صدره للانتماءات الحضارية الأكبر والأهم، وهي الفضاءات الحضارية والدينية الأوسع، وأن يفسح لها مساحة في أفُقه الأخلاقي والفكري، إذا أريد للمجتمعات أن تدير هوياتها المتعددة إدارة راشدة، وتقدّر فضاءها الحضاري المشترك حق قدره. أما حين يتحول الانتماء القومي إلى مناقض للهوية الحضارية الأوسع، فإنه يفقد شرعيته، ويصبح أداة تمزيق وتفريق، لا رابطة جمع ووحدة. وهذا ما انتهت إليه العديد من القوميات التي ظهرت بالتزامن مع تفكك الإمبراطورية العثمانية، ومنها القومية التركية والعربية والكردية وغيرها. ومن أسباب ذلك أن عددا من المنظرين القوميين ظلوا -في الماضي والحاضر- يستبطنون منظورا أقلَّويًّا طائفيا، متحيزا ضد الإسلام كمصدر للولاء والانتماء.
ومن الإنصاف التاريخي القول إن الحضارة الإسلامية كانت أكثر حضارات العصر الوسيط تسامحا دينيا وانفتاحا عقليا، وهو عصر اتّسم بالتعصب الديني، فقد استمر هذا الفسيفساء الديني بعد ظهور الإسلام، فحافظ بعض العرب على عقائدهم السابقة على الإسلام، خصوصا الديانة المسيحية، فأصبح الإسلام ثقافة لهم، وظلت المسيحية عقيدتهم. وقد اعترف أمين معلوف بتفرد التجربة التاريخية الإسلامية في هذا المضمار، بتجردٍ ونزاهة قلَّ أن نجد لهما نظيرا في الخطاب القومي والطائفي المتشنج اليوم، فكتب يقول: "لو كان أجدادي مسلمين في بلد فتحته الجيوش المسيحية، بدلا من كونهم مسيحيين في بلد فتحته الجيوش المسلمة، لا أظن أنهم كانوا استطاعوا الاستمرار في العيش لمدة أربعة عشر قرنا في مدنهم وقراهم محتفظين بعقيدتهم. ماذا حدث فعليا لمسلمي اسبانيا وصقلية؟ لقد اختفوا عن آخرهم، ذُبحوا أو هُجِّروا أو تم تعميدهم بالقوة. يوجد في تاريخ الإسلام -ومنذ بداياته- قدرة مميزة على التعايش مع الآخر." (معلوف، الهويات القاتلة، 52).
أعظم انتماء جامع لشعوب إقليمنا هو الثقافة الإسلامية، وأرحبُ فضاء يتسع لها هو فضاء الحضارة الإسلامية، الذي لا ينحصر في المسلمين اعتقاداً، بل يتسع لكل من شارك في التاريخ المشترك لشعوبنا |
هذا من الناحية الدينية، أما من الناحية العرقية فربما لم يعرف التاريخ البشري امتزاجا للأعراق والأقوام في أي حضارة كلاسيكية، مثلما حدث في تاريخ الحضارة الإسلامية. حتى إن العرب الذين هم نواة الإسلام الأولى تحولوا تحولا عرقيا عميقا، فاندرجت فيهم أمم وأقوام شتى تعرَّبت بعد إسلامها، حتى إنك لترى اليوم بين الناطقين باللسان العربي اليوم كل ملامح الطيف الإنساني، من الأسود حالك السواد إلى الأبيض ناصع البياض. وليس من ريب في أن الغالبية الساحقة من العرب اليوم مستعربون، لا عربٌ أُصَلاء، وإنما تعرَّبوا بفعل تأثير الإسلام ورسالته. وتوجد شعوب إسلامية وافرة العدد لم تتعرب بالطبع، وهي الغالبية الساحقة من المسلمين اليوم، فليس التعرب مرادفا للإسلام. ومع ذلك فقد امتزجت هذه الشعوب مع العرب، وامتزجت فيما بينها، بعد دخولها الإسلام، بشكل لا مثيل له قبل إسلامها.
وقد لاحظ عدد من الباحثين الجادين منزع السعي إلى النقاء العرقي والديني الذي ساد في التاريخ الأوروبي، بخلاف التاريخ الإسلامي الذي اتسم دائما بالاستيعاب والتنوع والاتساع. ومن هؤلاء الباحثين المفكر القبطي المصري الدكتور رفيق حبيب، وهو ممن يملكون حاسة حضارية متحررة من العصبيات القومية والطائفية. فقد انتبه رفيق حبيب إلى أن "الحضارة الغربية حضارة قومية خالصة، وتريد أن تهيمن على العالم، وفي مقابلها الحضارة الإسلامية العابرة للقومية، والتي تقبل دخول أي قومية بداخلها، وتعتبر نفسها صاحبة رسالة عالمية، ومن هنا يحدث الصدام المتكرر عبر التاريخ." (رفيق حبيب، الإسلاميون والدولة القومية، 71).
وهذه ملاحظة دقيقة، فرغم أن الغربيين اليوم تحرروا من القوميات والعصبيات الداخلية، فلم يعد الألماني يريد الهيمنة على الفرنسي أو العكس، فإنهم تبنَّوا نمطا جديدا من القومية الغربية الجامعة، التي بدأوا يتعصبون لها ضد أي "غريب" أو "وافد" خصوصا إذا كان من خلفية إسلامية أو أفريقية، كما نرى في الأحقاد المتصاعدة ضد المهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة، وما تثيره تلك الهجرة من انفعال وردود أفعال.
ومع دقة ما قاله رفيق حبيب، يجب الاعتراف للغربيين بالفضل والعقل في إدارة شأنهم الداخلي على الأقل. فقد تجاوزا الأيديولوجيات القومية التقليدية داخل الغرب ذاته، بعد أن دمرتهم تلك الأيديولوجيات في الحربين العالمتين الأولى والثانية. وهذا أمر لم ينجح فيه بعض القوميين في منطقتنا حتى اليوم. فلا يزال بعض القوميين العرب والأتراك والأكراد والأمازيغ وغيرهم يتناولون ذلك الدواء الـمُرَّ الذي انتهت صلاحيته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويراهنون على أيديولوجيات قومية أكل الدهر عليها وشرب، بعد أن تخلى عنها مبتكروها في الغرب ودفنوها في ذاكرة النسيان. (وقد خصصت المسألة الكردية بورقة خاصة من )أوراق الربيع( على هذا الموقع بعنوان: "الكرد من الدولة إلى الأمة").
إن أعظم انتماء جامع لشعوب إقليمنا هو الثقافة الإسلامية، وأرحبُ فضاء يتسع لها هو فضاء الحضارة الإسلامية، الذي لا ينحصر في المسلمين اعتقاداً، بل يتسع لكل من شارك في التاريخ المشترك لشعوبنا، وإن لم يكن مسلما في دينه، على نحو ما كان يقول الزعيم الوطني المصري مكرم عبيد باشا: "المسيحية ديني والإسلام ثقافتي." وتستطيع الأقوام المتنوعة في منطقتنا اليوم أن تحيي ميراثها التاريخي المشترك، وتستأنف حضارتها المشتركة، تماما كما يفعل الغربيون اليوم الذي أصبحوا ينتمون لفضاء حضاري واسع هو "الغرب" والحضارة الغربية، لا للعصبيات القومية التي دمرتهم في مطلع ومنتصف القرن العشرين. فمتى نبني على تجربنا التاريخية المشتركة، ونبدأ من حيث انتهى الآخرون ونستخلص أفضل ما في تجربتهم، بدل التقليد البليد، والسير في الطرق الملتوية، والدروب المعتمة، التي ساروا فيها على غير بصيرة ردحا من الزمان؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق