شعلة يوكسال شيلنار أيقونة الحجاب في تركيا
بكثير من الحب والإكبار، ودعت إسطنبول ، الكاتبة والناشطة التركية "شعلة يوكسال شينلار" Şule Yüksel Şenle أيقونة النضال من أجل الحجاب في تركيا، وأحد أعمدة الفكر ونشر الوعي التي تركت بصمتها الفريدة في وجدان الأجيال التي نشأت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بمقالاتها في الصحف التركية ومشاركاتها الواسعة في المؤتمرات والندوات على امتداد بلاد الأناضول، وشجاعتها في تحدي العسف العلماني الذي أظهرته السلطة لمظاهر التدين في المجتمع التركي المسلم.
شارك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وزوجته أمينة، في صلاة الجنازة على الراحلة في مسجد السلطان أيوب بإسطنبول، وتحمل هذه المشاركة معان في الوفاء للسيدة التي كان لها دور في جمعهما وتعريفهما ببعضهما ومن ثم زواجهما، وتعهد أردوغان في كلمة له عقب الصلاة التي حضرها الآلاف ببناء مكتبة ومتحف يحملان اسم شعلة يوكسال شينلار، كما شوهد الرئيس وهو يشارك المشيعين بحمل نعش شينلار، فيما عمدت أمينة على مواساة ذوي الفقيدة.
الرئيس التركي يشارك بفعالية صلاة الجنازة على الصحفية والكاتبة شعلة يوكسال شينلار
شعلة حماس منذ البداية
ولدت شينلار عام 1938 في مدينة قيصري، من أبوين مهاجرين من قبرص التي مارست سلطاتها تضييقًا بحق الأتراك فيها حينذاك، وعندما بلغت السابعة من عمرها استقرت عائلتها في مدينة إسطنبول، ثم اضطرت لترك المدرسة في الصف الثاني الإعدادي لتقوم برعاية أمها المريضة في ظل انشغال والدها، وبدأت العمل بالخياطة في إحدى الورشات.
إلى جانب رعاية والدتها وعملها بالخياطة واهتمامها بالفنون، حيث حضرت دروس تعلم العزف على الناي والقانون، أعطت يوكسال اهتمامًا واسعًا للقراءة، مما أهلها لتبدأ حياتها الصحفية عندما بلغت الواحدة والعشرين من عمرها، حيث دخلت عالم الكتابة بتأليف القصة ونشرها في مجلة Yelpaze، ثم بدأت الكتابة لعمود الشباب في صحيفة Yeni İstiklal حين كان ينشر فيها كتاب مهمون على مستوى البلاد.
حين نشرت أولى كتاباتها الفكرية في مجلة Faruk Nafiz Çamlıbel (1961-63 وأضافت اسم (شعلة) لاسمها الأصلي (يوكسال) لتعرف كامرأة، حيث كان يحدث اسمها لبسًا.
وكان لها من اسمها الجديد نصيب، فكانت شعلة من الحماس تنشر المقالات في الكثير من الصحف والمجلات ومن خلالها تعمل على تغيير الأفكار في عقول الشباب، ومن مدينة إلى أخرى تتنقل بلا هوادة لإقامة ندوات ومحاضرات، حيث تركزت المواضيع التي طرحتها في "دور ومسؤولية المرأة في الإسلام" و"الأزمة الروحية في تركيا" و"الأمس واليوم وغدا".
تميز خطابها بعمق تأثيره، خاصة فيما يتعلق بتشجيع فتيات المدارس على ارتداء الحجاب، ويذكر كثيرون أن قاعات محاضراتها كانت تفيض بالحضور، بالإضافة إلا أنها كانت تنشر صورها بالحجاب الإسلامي إلى جانب مقالاتها، ما مثّل شجاعة فريدة في تلك الفترة من تاريخ تركيا، حيث لم تكن النساء المحجبات قادرات على الوصول لمواقع التأثير بالمجتمع في تلك الفترة.
أيقونة الحجاب التركي
من وحي خبرتها كخيّاطة، صممت شينلار شكلاً (موديلًا) خاصًا للحجاب عرفت به وانتشر بين فتيات المدارس اللواتي تأثرن بها وقلدنها في طريقة ارتدائه ولفه على الرأس، حتى باتت طريقتها الموضة التي صبغت لباس نساء تركيا المحجبات وما زال ذلك "الموديل" يمثل شكل حجاب التركيات حتى اليوم، بل بدأ يتسلل إلى النساء المسلمات في العالم تقليدًا للحجاب التركي الذي صممته وارتدته شينلار قبل أكثر من نصف قرن، وذلك بعد أن ارتدت الحجاب في عمر السابعة والعشرين، حين تحولت من الحياة المتأثرة بالنمط الغربي إلى حياة أكثر تدينًا عام 1965.
قد يكون عملها مع أخيها أوزور بتحرير قسم المرأة في مجلة Seher Vakit 1969، باكورة نشاطها في زيادة الوعي عن أهمية الحجاب بين النساء المسلمات بالقصائد والمقالات، وحاكت متطلبات الفتيات الصغيرات في اختيارهن ملابسهن، حيث كانت ترسم وتصمم أنماطًا حديثة وأنيقة للحجاب والأزياء الإسلامية.
تعرضها للسجن بسبب مقالاتها
رُفعت دعاوى قضائية ضدها واُتهمت بإهانة الرئيس، بعد أن نشرت عدة مقالات أحدها كانت بعنوان "ابكوا يا إخواني المسلمين" في مجلة Bugün حيث عبرت عن مشاعر الحزن التي انتابتها بسبب الاحتفاء الذي استقبل به بابا الفاتيكان بولس السادس في زياراته غير الرسمية لتركيا، وعن استياء الشعب التركي من التنازلات التي أظهرتها السلطة التركية حينذاك واعتبرت ذلك استهانة بمشاعر الأتراك المسلمين، وحكمت المحكمة بسجنها عام 1971 وبقيت ثمانية أشهر في سجنها.
إرث شانلار
بالإضافة للمحاضرات والندوات والدروس القيمة التي أثرت بها يوكسال حياة الكثيرين من أبناء وبنات تركيا، وعلاوة على ما كان يجود به قلمها الواعي في مختلف الصحف والمجلات، تركت شعلة شانلار مجموعة من الكتب القيمة والروايات المؤثرة، حيث تحولت روايتها (زقاق السلام) 1970 لفيلم سينمائي بعنوان Birleşen Yollar، ومن ثم لمسلسل تليفزيوني يحمل نفس اسم الرواية، وتم بيع آلاف النسخ من الرواية المكتوبة.
ومن كتبها المنشورة أيضًا: "الهداية" و"ماذا حدث لنا؟" و"المرأة في الإسلام" و"المرأة اليوم" و"كل شيء من أجل الإسلام" و"دموع الحضارة" و"فتاة وزهرة"، و"اليد اليمنى" و"مدرس واع".
وهو ما انعكس على واقع الفتيات المحافظات في تركيا في مرحلة الثمانينات وما بعدها اللواتي لم يستسلمن لقرارات منعهن من دخول الجامعات، بل سافرن لخارج تركيا أو حاولن التحايل على موضوع خلع الحجاب ببعض الطرق، ما يدل على أن المجتمع المتدين في تركيا أدرك أهمية تعليم النساء وعدم تراجعهن لحساب تقدم نساء الأطياف العلمانية.
قضية الحجاب في تركيا
تكتسب القضية التي حملتها شعلة في الحديث عن الحجاب في المجتمع التركي والحث عليه أهمية كبيرة، نظرًا للظروف التي مرت بها النساء المحجبات في تركيا ومحاولات عزل تركيا عن إرثها الإسلامي وتعزيز صلاتها بالنمط الأوروبي.
فبعد إعلان قيام الجمهورية التركية وسيادة القيم العلمانية وإقصاء المظاهر الإسلامية وفرض مجموعة من الجوانب المتعلقة بالثياب كمنع ارتداء الطربوش والحجاب وأنواع من اللباس الطويل لصالح أنواع أخرى تظهر التركي بالمظهر المنسجم مع ما هو سائد في الغرب، انحسرت أعداد المحجبات في المدن الكبرى مثل أنقرة وإسطنبول وإزمير طوال العقود الأربع التالية ( 1925- 1965) وبرزت قضية الحجاب كقضية أساسية في محطتين هامتين من التاريخ التركي:
الأولى عند الانقلاب العسكري 12 من سبتمبر/أيلول 1980 على الرئيس عدنان مندرس الذي اتهم بتقويض القيم العلمانية للبلاد، حيث تم منع المحجبات من دخول جميع مؤسسات الدولة ومن سائر المعاهد والمدارس، ويقال إن أربعين ألف طالبة اضطرت لمغادرة البلاد لاستكمال تعليمها
استغرق حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا نحو 12 عامًا حتى استطاع حل موضوع الحجاب دستوريًا، وبدعم من الأحزاب العلمانية، بعد أن ازدادت نسبة المحجبات بشكل لافت للنظر في المجتمع التركي.
تركيا تنعي الراحلة
بالنظرة السريعة على تاريخ الحجاب والمحجبات في تركيا ندرك أهمية الدور الذي لعبته الكاتبة يوكسال في نشر الوعي وإعادة إحياء الحجاب لدى المسلمات التركيات المتعلمات، بعد أربعة عقود من سعي الدولة لفصل الأتراك عن هويتهم وإرثهم الإسلامي.
إلى ذلك سارع الرئيس التركي لنعي الكاتبة الراحلة، واعتبر في تغريدة له على تويتر أنها واحدة من رواد الكفاح في قضيّة الحجاب، لافتًا إلى أنها كرست حياتها لتوعية الشباب.
أمينة أردوغان، عقيلة الرئيس التركي، نعت الراحلة بالقول: "أشعر بالحزن العميق لفقد المناضلة والمحامية والصديقة والأخت الثمينة، التي كرست حياته كلها للمُثل العليا وتركت آثارًا كبيرة ..".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق