عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي
[الحلقة 13]
هُزم الرئيس محمد مرسي في "موقعة النائب العام"، ولم يكن لرجل يتسم بعناد الفلاح أن يقبل الهزيمة بسهولة، فبدا كمن يلبدُ لخصمه في الذرة، في انتظار اللحظةِ المناسبةِ للانقضاض عليه.
تقرير| سليم عزوز
وإذا كان هناك مبررٌ لاستمرارِه في موقعِه قبل أزمةِ عزلِه، فليس الآنَ ما يبررُ هذا، والرجلُ عاد إلى مكتبِه وقد تُوجَ زعيماً، وهو يُستقبلُ عقبَ عودتِه من لقاء الرئيسِ، فقد استقبلَه المئاتُ من وكلاء النيابةِ، وأسلحتُهم الخاصةُ ظاهرةٌ للعِيان في غمدِها، كما اسْتُقبلَ استقبالَ الفاتحين في نادي القضاةِ، حيث حشدَ له رئيسُ النادي المستشار أحمد الزند القضاةَ والساسةَ من خصوم الجماعةِ في مؤتمرٍ، أقربَ إلى المؤتمراتِ الشعبيةِ، فلم يكنْ قضائياً خالصاً، وقد حضر بعضُ خصومِ الرئيسِ محمد مرسي، ومن سامح عاشور إلى مصطفى بكري، وهي مرحلةٌ ذابت فيها الخطوطُ الفاصلةُ بين القاضي والحزبي!
قبل الأزمةِ كان النائبُ العام يسعى لأن يكونَ رجلاً مِهنياً، ليبددَ الصورةَ الذهنيةَ بأنه نائبُ عام مبارك، وجاءت أزمةُ الفريق أحمد شفيق، ليبالغَ في اتخاذِ الإجراءاتِ ضده، حيث وضعَ اسمَه على قوائم ترقبِ الوصولِ، ثمَّ تمَّ التحفظُ على أموالِه، وأموالِ ابنتَيه، مروراً بطلبه من الإنتربول الدوليِ القبضَ عليه.
لكنه الآنَ يدركُ أن عودتَه لموقعِه كانت في جانبٍ منها وليدةَ إكراهٍ، وما جاء من أن هناك سوءَ فهمٍ في حديثِه مع المستشار حسام الغرياني، نتج عن تصوّرِه أنه قبل بمنصب سفير مصرَ في الفاتيكان، ولم يكنْ هذا صحيحاً.
لقد ردَّ النائبُ العام الاعتبارَ لمقام الرئاسةِ بتقديمِه التماساً للرئيس؛ بطلبِ البقاءِ في موقعِه، وذلك في لقاءِ الرئاسةِ الذي حضره أعضاءُ المجلسِ الأعلى للقضاءِ، لكن هذا الالتماسَ تبددت قيمتُه، عند استقبالِه استقبالَ الفاتحين، فلم يتمَّ الترويجُ له إعلامياً، وبدا النائبُ العام أمامَ الشعبِ المصري وكأنه عاد "قوة واقتداراً" وعلى أسنّةِ الرماحِ!
وبدأ على الفورِ في التحرشِ بالرئاسة، من خلال التحقيقِ في بلاغٍ ضد الدكتور عصام العريان الذي قال إنّ الرئاسةَ لديها تسجيلاتٌ بموافقةِ النائبِ العام على الاستقالةِ من منصبِه وقَبولِه منصبَ سفير مصرَ في الفاتيكان، وأثيرت ضجةٌ في الإعلامِ ضده، إذ كيف تقومُ الرئاسةُ بتسجيلِ المكالماتِ بدون علمِ أصحابِها؟. وكان هذا واحداً من التصريحاتِ التي أطلقها الدكتورُ العريان وتسببت في حرجٍ للرئاسة.
أزمةُ العريان:
إن هذه التصريحاتِ التي تزيدُ المشهدَ السياسيَ ارتباكاً، وتضعُ الرئاسةَ في حرجٍ، كان سببُها شعورَ العريان بالغبن، وقد كانت هذه الأزمةُ بُعيدَ سقوطِه في انتخاباتِ رئاسةِ حزبِ "الحرية والعدالة" وفوزِ الدكتور سعد الكتاتني، وقد أسرَّ لبعضِ المقربينَ منه، أنّه أدركَ بعدَ النتيجةِ أن الانتخاباتِ كانت مهندسةً سلفاً، وأن الذين انتخبوا الكتاتني استجابوا لتوجيهاتِ قيادةِ الجماعةِ، وأنها كانت "تربيطات" لا "انتخابات"، وعندما يتأزمُ العريان نفسياً فإنه يطلقُ تصريحاتٍ أقربَ للصواريخِ تحدثُ دوياً ولا تصيبُ هدفاً، بل إنها قد تكونُ مثلَ المعلومِ في كتبِ التاريخِ المقررةِ على تلاميذِ المدارسِ، عن الأسلحةِ الفاسدةِ التي استُخدمت في حرب 1948، حيث إنّ رصاصَها لم يكنْ ينطلقُ للأمامِ وإنما يرتدُ للخلفِ، ولم يكن هذا صحيحاً، لكنها الحملةُ على النظام السابقِ، ولتبريرِ حركةِ ضباطِ الجيشِ في يوليو 1952.
وكما استغل إعلامُ الثورة المضادة تصريحَ العريان، عن تسجيلِ الحوارِ، في الإساءةِ للنظامِ الذي يراقبُ الناسَ وكأن ثورةً لم تقمْ، فقد وجدها النائبُ العام فرصةً ليتحرشَ بالرئاسة، ويضعَها في "خانة ألْيَكْ"، فإذا اعترفت أن لديها تسجيلاً بمكالماتِه، (وهو مستبعد)، أصبح ذلك فرصةً للهجوم عليها، باعتبارها تقومُ بعملٍ يخالفُ المبادئَ الدستوريةَ، وإن لم تعترفْ فستكون فرصتُه في العثور على خيطٍ يمكّنه من الإضرارِ بسمعة الجماعةِ والحكمِ، وقد يتخذ إجراءاتٍ قانونيةً ضد الدكتور العريان، ليبدأَ عمليةَ تدشينِ زعامتِه وسطَ القوى المدنيةِ الأخرى، وهي تقودُ حملةً ضد النظامِ، فلا تكادُ تمرُّ جمعةٌ دون الدعوةِ إلى مليونية ضد النظامِ، ومن "جمعة الحسابِ"، إلى جمعة "مصر مش عزبة للإخوان"، إلى مليونية "رفض مشروع الدستور"، في مرحلةٍ كانت فيها جبهةُ الإنقاذِ قد بدأت في التشكل!
وكان يستوجبُ على المستشارِ عبد المجيد محمود أن يتجاوزَ تصريحَ العريان، استشعاراً للحرجِ وباعتباره طرفاً في الموضوعِ، وقد أُغلق برمتِه بعودته لموقعِه، لكنه لم يفعلْ، وأرسل للرئاسةِ يستعلمُ إن كان عصام العريان له صفةٌ داخل مؤسسةِ الرئاسة حتى يبدأ التحقيقَ في البلاغاتِ المقدمةِ ضده حول ما صرحَ به من أنّها تقوم بتسجيلِ المكالمات!
إن الردَّ الرسميَ على هذا الطلبِ، يمثلُ إحراجاً بالغاً للرئاسةِ، ويمثلُ بدايةً للخيط الذي منه يبدأ التحقيقُ مع العريان.
كان الرئيسُ قد اختارَ قبل أسابيعَ مستشارِيه وكان الدكتور عصام العريان أحدَهم، فهل لا يعرفُ النائبُ العام فعلاً هذه الصفةَ له؟!
فإذا افترضْنا حسنَ الظنِ، وأنه لا يعرفُ فعلاً أنَّه مستشارٌ بالرئاسة فإنَّ عِلمَه بوجودِ تسجيلاتٍ يؤكدُ أن علمَه متصلٌ بما يحدثُ في الرئاسة باعتباره قيادةً في جماعةِ الإخوان، وهو أمرٌ يصلحُ في إثباتِ ما يتمُّ الترويجُ له من دعايةٍ سلبيةٍ بأن الإخوانَ هم من يسيطرون على مؤسسةِ الرئاسةِ وأن التنظيمَ هو من يديرُها، وأن محمد مرسي ليس أكثرَ من "خيال مآتة"، تحت شعارِ "أخونة الدولة"!
وإن كانت له صفةٌ وظيفيةٌ، فإنه قد قالَ بما علِم، وما قاله يسيءُ لهذه المؤسسةِ في عهدِ الثورةِ، فكيف لها أن تملكَ أجهزةَ تسجيل تستخدمُها دون علمِ الناس؟
ومهما كان الردُّ، فقد كانَ بالإمكانِ إدانةُ عصام العريان قانوناً بهذه التصريحاتِ، سواء أثبت صحتَها، أو لم يستطعْ!
وإزاء هذا التحرشِ، تلقى النائبُ العام اتصالاً هاتفياً أفاده بأن الرئاسةَ لا تسجلُ المكالماتِ أو ما يدورُ بداخلها، ويبدو أن الاتصالَ حملَ بعضَ الحِدّة، فتوقف المستشارُ عبد المجيد محمود عن إثارةِ هذا الموضوع.
لقد بدا النائبُ العام حريصاً على الاستمرارِ في الطريقِ الذي بدأه بإزالة الجدارِ العازلِ بينَه وبين الشارع، وبدا حريصاً أن يظلَّ جزءاً من الحالةِ السياسيةِ وعملية الاستقطابِ وقد كانت في ذِروتها.
لقد استقبلَ "محمود" في مكتبه مصطفى بكري، ومحمد أبو حامد، وهما من الداعين لمليونية 24 أغسطس، لإسقاطِ حكمِ الرئيس محمد مرسي، وإن كان الأولُ قد تراجعَ، كما تراجعَ توفيق عكاشة، وأن الأخيرَ قد غيرَ عنوانَها، بعد الإطاحةِ بطنطاوي وعنان، فلم يعد مطلبُها عزلَ الرئيسِ ولكن ضد الإخوانِ والأخونةِ، وقد فشلت الدعوةُ وطُرد أبو حامد من قِبل مَن شاركوا فيها، إلا أنه لم يتوقفْ عن التحرشِ بالإخوانِ المسلمينَ وبالرئيسِ محمد مرسي، والمذكورُ صناعةٌ إخوانيةٌ بالأساسِ، قبل أن يتبناه رجلُ الأعمال نجيب ساويرس ويصنعَه على عينه!
كان المعلنُ من هذا الاستقبالِ، أنهما - بكري وأبو حامد – جاءا لمكتب النائب العام بهدف تهنئتِه على العودةِ، مع أنهما طرفان في بلاغاتٍ منهما وضدهما مقدمة للنائبِ العام، فماذا يريدُ الرجلُ؟!
فتنةُ الإعلانِ الدستوري:
في يوم 21 نوفمبر أصدرَ الرئيسُ الإعلانَ الدستوريَ، الذي عزلَ بمقتضاه النائبَ العام، بعد شهرٍ واحدٍ من قرار عودتِه، وكان إعلاناً دستوريّاً، لا يقلُ في قوتِه عن الإعلانِ السابقِ الصادر في 11 أغسطس الذي بمقتضاه أطاحَ بحكم العسكرِ وعزلَ وزيرَ الدفاع ورئيسَ أركان الجيشِ، لكنه أحدثَ أكبرَ فتنةٍ في سنة حكمِه كلِّها، ولا يزالُ إلى الآن يؤخذُ عليه، ويتم تقديمُه على أنه دشنَ لمرحلة "مرسي الفرعون" بهذا الإعلانِ الدستوري.
تمَّ استهلالُ هذا الإعلان الدستوري بديباجةٍ، على عكس الإعلاناتِ الدستوريةِ السابقة، وجاء فيها ذكرُ ثورة يناير "التي حمّلت الرئيسَ مسؤوليةَ تحقيق أهدافِها، والسهر على تأكيدِ شرعيتها، وتمكينها بما يراه من إجراءاتٍ وتدابيرَ وقراراتٍ لحمايتها، وتحقيقِ أهدافِها، وخاصةً هدمَها بنيةَ النظامِ البائدِ، وإقصاءَ رموزِه والقضاءَ على أدواته في الدولةِ والمجتمعِ، والقضاءَ على الفسادِ واقتلاعِ جذوره، وملاحقةَ المتورطين فيه، وتطهيرَ مؤسسات الدولة، وتحقيقَ العدالةِ الاجتماعيةِ وحمايةَ مصرَ وشعبِها، والتصدي بمنتهى الحزمِ والقوة لرموزِ النظام السابقِ، والتأسيسِ لشرعيةٍ جديدةٍ تاجُها دستورٌ يرسي ركائزَ الحكم الرشيد الذي ينهضُ على مبادئِ الحريةِ والعدالةِ والديمقراطيةِ، ويلبي طموحاتِ الشعب، ويحققُ آمالَه".
وهذه الديباحةُ، أو الاستهلالُ، أو المذكرةُ الإيضاحيةُ، هي اختصارٌ للأهدافِ التي جاءت موادُّ الإعلان الدستوري تستهدفُ تحقيقَها، وهو من سبعِ موادَّ، المادةُ الأخيرة هي الخاتمةُ التقليديةُ الخاصةُ بالنشر في الجريدة الرسمية والعمل به من تاريخ صدورِه.
ولأهميةِ هذا الإعلانِ الدستوري- نظراً لما تسببَ فيه من أزمةٍ سياسيةٍ عاصفةٍ، تم التركيزُ فيها على مادةٍ واحدةٍ، دون أيِّ اهتمامٍ بالمواد الأخرى، ومن بينها المذكرةُ الإيضاحيةُ- فإنني أعرضه كاملاً:
لقد نصت المادةُ الأولى على: "تعاد التحقيقاتُ والمحاكمات في جرائم قتل وشروع في قتل وإصابة المتظاهرين وجرائم الإرهاب التي ارتكبت ضد الثوار بواسطة كل من تولّى منصباً سياسياً، أو تنفيذياً، في ظلّ النظام السابق، وذلك وَفقاً لقانون حماية الثورة وغيره من القوانين".
وكان سيلُ البراءاتِ قد بدأ ينهمرُ في القضايا التي سُجن على أساسها رموزُ النظامِ البائدِ وأدواتُه، وكان العنوان لها هو "البراءة للجميع"، وكان آخرَها براءةُ جميع المتهمين في قضيةِ موقعة الجمل. وكان مطلبُ المعارضةِ -ممثلةً في حمدين صباحي والبرادعي- هو فتحَ التحقيقِ من جديدٍ في هذه الجرائمِ، تأكيداً لانحياز النظام للثورة.. فها هو يفعلُ!
ونصت المادةُ الثانية على: "الإعلاناتُ الدستوريةُ، والقوانينُ، والقراراتُ الصادرةُ عن رئيس الجمهورية منذ توليه السلطةَ في 30 يونيو 2012، وحتى نفاذ الدستورِ وانتخاباتِ مجلسِ شعبٍ جديدٍ، تكون نهائيةً ونافذةً بذاتها، غيرَ قابلة للطعنِ عليها بأي طريقٍ وأمام أية جهةٍ، كما لا يجوزُ التعرضُ لقراراتِهِ بوقفِ التنفيذِ أو الإلغاء"، وتنقضي جميع الدعاوى المتعلقة بها والمنظورة أمام أية جهة قضائية".
وهذه هي المادةُ الفتنة، التي أمسكت بها المعارضةُ، وقالت إن مرسي يريدُ بها أن يدخلَ في سلك الفرعونية، فيحصن بها قراراتِه من الطعنِ أمام القضاء.
أما المادةُ الثالثةُ فنصّت على: "يُعين النائبُ العام من بين أعضاءِ السلطةِ القضائية بقرارٍ من رئيسِ الجمهورية، لمدة أربعِ سنوات، تبدأ من تاريخِ شغل المنصبِ، ويشترطُ فيه الشروط العامة لتولي القضاء، وألا يقل سنُّه عن أربعين سنةً ميلادية. ويسري هذا النصُّ على من يشغل المنصبَ الحالي بأثر رجعي. "
وبمقتضى هذه المادةِ تمت الإطاحةُ بالنائبِ العام المستشار عبد المجيد محمود، بدون تعيينِهِ سفيراً هذه المرةَ، وتم تعيينُ المستشار طلعت عبد الله نائباً عاماً، والذي تسلّم مكتبَه في الحال، وجاءَ إليه ليلاً وفي حمايةِ مظاهراتِ شبابِ الإخوانِ، أمام دارِ القضاء العالي، وقد كنتُ وسطَ البلدِ ليلتَها، كما في كلِ ليلةٍ، وشاهدتُ حضورَه، ولا أنكرُ أنني أُعجبتُ بشجاعتِه، وإقدامِه، وحرصِه على التنفيذ في التوِّ واللحظةِ ولو كان الوقت ليلاً، فلم يشأْ أن يتركَ فراغاً، يمكنُ أن يُستغلَ لإبطال القرارِ، وقد جاءَ إلى بيئةٍ معاديةٍ، ولهذا فقد تمنيتُ لو كان قد تم تعيينُ المستشارِ زكريا عبد العزيز لهذا الموقعِ في هذه المرحلةِ، لضربِ أكثرَ من عصفورٍ بحجر واحد!
أولاً: إن المستشارَ زكريا عبد العزيز معروفٌ في أوساطِ القضاةِ وفي أجواءِ الحالةِ الثورية، كما أنه ليس من الإخوانِ ويصعبُ تصنيفُه على أنه منهم، وهذا سيسحبُ البِساطَ من تحت أقدامِ القوى المعاديةِ، وإذا كانت لا تستطيعُ أن تجادلَ في أن عزلَ عبد المجيد محمود مطلبٌ ثوريٌّ، فإنها – في المقابل – تقولُ إن الثورةَ لم تطلبْ عزلَ نائبِ عام مبارك ليأتيَ نائبُ عام الإخوان.
ثانياً: إن زكريا عبد العزيز محسوبٌ على الثورةِ، بكل تجلياتِها، وهو من قاد انتفاضةَ القضاةِ في عهد مبارك، صحيح أن الشرارةَ انطلقت من نادي قضاة الإسكندريةِ برئاسة المستشارِ محمود الخضيري، لكن نادي قضاة مصرَ بالقاهرة تبناها وأعطاها زخماً تجاوزَ الإقليميةَ لتكون تعبيراً عن قضاة مصرَ جميعاً، وإذا كانت هذه الانتفاضةُ قد صنعت نجوماً من بين القضاة هم الذين عرفوا نتيجةَ دورهم البارز وعبر وسائل الإعلام، فلم يكنْ من بينهم المستشارُ طلعت عبد الله، بَيدَ أنه يُقال إنه شارك فيها قبل سفرِه معاراً إلى البحرين، ومنها للكويت.
ثالثاً: إن شعبيةَ المستشار زكريا عبد العزيز في أوساطِ القضاة والنيابة، كانت ستكفي الإخوانَ مَهمةَ إرسالِ من يحمون النائبَ العام من أي اعتداءٍ عليه، ومن أي أحدٍ يمكن أن يمنعَه من دخول مكتبه، والتخوفُ كان من رجالِ النيابةِ. وزكريا عبد العزيز له شعبيةٌ كبيرةٌ مكنتْه من أن يستمرَّ رئيساً لنادي القضاةِ لأكثرَ من دورة، بل ومكنتْه من هذا الموقعِ عندما كان شاباً حيث كانَ يُسقطُ القضاةَ الكبارَ، في مفاجأةٍ أذهلتْهم عندما سقط ممثلُهم المستشارُ مقبل شاكر المنافسُ له في الانتخابات، ونجح هو، وقد حاولوا إبطالَ الانتخاباتِ بحكمٍ قضائيٍ لكن الحكم أنصفَه. ودخولُ المستشار طلعت عبد الله مكتبَه في هذا الحضورِ الإخوانيِ، مثّل دليلاً في يدِ المعارضةِ بأنه نائبُ عام الإخوانِ.
ومهما يكنْ، فلم يثمّنوا قرارَ الرئيسِ من قبلُ بعزلِ النائبِ العام وتعيينه سفيراً لمصرَ في الفاتيكان، رغم أنه لم يكنْ قد اختارَ نائباً عاماً بديلاً، غاية ما في الأمرِ أن هذا التعيينَ وهذا الحضورَ، كان رَمْيةً بدون رامٍ منهم، ولم تكنْ بإمكانهم المزايدةُ على قرارِ عزلِ عبد المجيد محمود، فأمسكوا في تعيينِ طلعت عبد الله.
رابعاً: إن الأيامَ أثبتت أن تعيينَ المستشار طلعت كان خاطئاً، ففي الممارسة فإن الرجلَ لم يستطعْ أن يستمرَّ في قرارِه بنقلِ محامٍ عام، كان يُعرضُ عليه أمرُ تنظيم البلاك بلوك، وقد أخلى سبيلَ كلِّ الجناة المقبوض عليهم، وهو المستشار مصطفى خاطر رئيسُ نياباتِ شرق القاهرة. وهو أمرٌ لم يكنْ سيعجزُ فيه زكريا عبد العزيز، لقوةِ شخصيتِه وعدمِ القدرةِ على المزايدةِ عليه، بالمقارنةِ بطلعت عبد الله، الذي اتُّهم في قرارِه بأنه إخوانيٌّ، يريدُ نقلَ المحامي العام لحساباتٍ إخوانيةٍ، وأنه يريدُ لهذا الموقعِ مَن ينفّذُ تعليماتِ الإخوانِ.
كان الإخوانُ يقولون إن زكريا عبد العزيز مجنونٌ، وهو رجلٌ يبدو متهوراً فعلاً، لدرجةِ أننا توقعنا أن يكون أولَ وزيرٍ مدنيٍّ لوزارة الداخليةِ، بعد الثورة، وكان قياداتُ الوزارة في حالة فزعٍ من هذا الاختيارِ، لهذه الشخصيةِ المجنونةِ، لكن هل كان مجنوناً فعلاً؟ وما حدودُ جنونه؟.. وهل كنا في هذه المرحلةِ بحاجةٍ إلى العقلاءِ الودعاءِ الذين يتحدثونَ بالشوكةِ والسكّينِ؟!
ومهما يكنْ، لقد دخلَ المستشار طلعت عبد الله مكتبَه، واستسلمَ المستشار عبد المجيد محمود لقوةِ الأمرِ الواقعِ، وذهب إلى مؤتمرٍ سياسيٍّ بنادي القضاةِ أعلنَ فيه أنه عرَف الإخوانَ لمدة عشرين سنةً من التحقيقِ في قضاياهم (كان رئيساً لنيابة أمنِ الدولة العليا) وإنه تأكّدَ أنهم أناسٌ لا يعرفون اللهَ ولا الرسولَ. لا بأسَ، فوكلاءُ النيابةِ ليسوا هم الجهةَ المنوطَ بها الحكمُ على تديُّنِ الناس ومدى قربِهم أو بعدِهم من اللهِ ورسولِه.
وحتى لا يضيعَ القصدُ وراءَ السردِ فإنني أعرضُ الموادَّ الثلاثةَ من الإعلانِ الدستوريِ المتبقيةَ، وتأجيل التعليقِ عليها بعد ذلك.
المادة الرابعة: "تُستبدلُ عبارة (تتولى مشروع دستور جديد للبلاد في موعدٍ غايتُه ثمانيةُ أشهر من تاريخ تشكيلها) بعبارة (تتولى إعداد مشروع دستور جديد للبلاد في موعد غايتُه ستة أشهر من تاريخ تشكيلها) الواردة في المادة 60 من الإعلانِ الدستوري الصادرِ في 30 مارس 2011"
المادة الخامسة: "لا يجوزُ لأية جهةٍ قضائيةٍ حلُّ مجلسِ الشورى أو الجمعيةِ التأسيسيةِ لوضع مشروع الدستور"
المادة السادسة: "لرئيس الجمهورية إذا قام خطرٌ يهددُ ثورةَ 25 يناير، أو حياةَ الأمة، أو الوحدةَ الوطنيةَ، أو سلامةَ الوطن، أو يعوق مؤسساتِ الدولة عن أداء دورها أن يتخذَ الإجراءاتِ والتدابيرَ الواجبةَ لمواجهة هذا الخطر على النحو الذي ينظمه القانون".
دولةُ الفرعون:
وكما أسلفتُ سابقاً، فقد بدا للرأيِ العام كما لو أن الإعلانَ الدستوريَ هذا يتكوّنُ من مادةٍ واحدةٍ، هي المادةُ الثانيةُ التي تحصّنُ قراراتِ رئيسِ الجمهوريةِ، من الطعنِ عليها أمام القضاءِ، هكذا تعاملت المعارضةُ، لأنها لم تكنْ تريدُ أن تتعرضَ للموادِ الأخرى، فيصبح الأمرُ قابلاً للجدلِ والنقاشِ، وهي كانت تسعَى إلى موقفٍ قاطعٍ من هذا الإعلانِ، فمرسي يؤسسُ لدولةِ الفرعونِ، والدليلُ هو تحصينُ قراراتِه!
وتكمنُ المشكلةُ في أن الإعلانَ الدستوريَ نُشرَ في الجريدةِ الرسميةِ، وهي جريدةٌ ليست متداولةً في الأسواقِ، فلا يهتمُّ بها إلا رجالُ القانونِ، ولم تكن هناك مواقعُ على الإنترنت مهتمة بها، كما هو الحالُ الآنَ، وأمكن لهذه المعارضةِ أن تدقَّ طبولَ الحربِ ضد الإعلانِ الدستوريِ، وأن تحشدَ أنصارَها إلى مظاهراتٍ عارمةٍ، وقد وجدَها البرادعي وصباحي ومن انضمَّ إليهما في جبهةِ الإنقاذ، فرصةً عظيمةً، لحشدِ الناسِ ضد هذه الديكتاتوريةِ الناشئةِ، التي يؤسسُ لها الفرعونُ الجديدُ محمد مرسي!
كانت المناقشاتُ في الإعلامِ تدورُ حول هذه المادةِ، فقد مثّلَ الإعلانُ الدستوريُ الذي صدر في هذا اليومِ، الفتنةَ الكبرى في السنةِ التي قضاها مرسي في الحكمِ!
وبعيداً عن الحشدِ والحشدِ المضادِ، فأحسبنِي من القِلّةِ المحسوبةِ على الثورةِ، التي أيدت الإعلانَ الدستوريَ، مع أن ما وصلني هو هذه المادةُ فقط، وفي مساءِ هذا اليومِ كنتُ ضيفاً على قناةِ النيل للأخبار، وقلتُ فيها إن هذا النصَّ هو تحصيلُ حاصل، ولم يرتبْ وضعاً قانونياً جديداً، أو اختصاصاً ليس معروفاً، ولعلِّي الوحيدُ الذي ذكّرتُ في اليومِ الأولِ بـ "أعمال السيادة"، وفي اليوم التالي، قالت الرئاسةُ إن ما يتمُّ تحصينُه هو "أعمال السيادة"، ولأن الغرضَ مرَضٌ، فقد قامت المعارضةُ بالتشويش على ذلك، وساهمَ قانونيون في أعمالِ التشويشِ، حتى بدا الاصطلاح: "أعمال السيادة" كما لو كانَ من اخترعَه القائلُ من مؤسسةِ الرئاسةِ. ومن لم ينكرْها، قال إن "أعمال السيادة" وردتْ على سبيلِ الحصرِ، وليس من بينها ما جاءَ في مادةِ التحصينِ في الإعلانِ الدستوريِ!
لقد جمعتُ بعدَ ذلك جميعَ الأحكامِ القضائيةِ، التي صدرت من المحاكمِ العليا الثلاثِ في مصرَ (النقض، والدستورية، والقضاء الإداري) عن "أعمال السيادة"، كما اطّلعتُ على دراستَينِ قديمتَينِ عنها، ولم أجدْ هذا الكلامَ الذي تقوّلُه أحدُ القانونيين، وهو يمارسُ التضليلَ مع سبقِ الإصرارِ والترصدِ؟
(الدراسة الأولى: أعمال السيادة في القانون المصري المعاصر، رسالة دكتوراه لحافظ هريدي مقدمة لكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأولى سنة 1952. والثانية رسالة دكتوراه أيضاً مقدمة لكلية الحقوق جامعة القاهرة لعبد الفتاح ساير داير سنة 1956 بعنوان: أعمال السيادة.. دراسة مقارنة في القوانين المصري والفرنسي)
فأعمالُ السيادةِ هي طائفةٌ من أعمالِ السلطةِ التنفيذيةِ التي تخرجُ عن رقابةِ القضاءِ، والتي تصدرُها هذه السلطةُ، باعتبارها سلطةَ حكمٍ، وليست جهةَ إدارة!
وهو أمرٌ ليس اختراعاً مصرياً، فأعمالُ السيادةِ أرساها القضاءُ الفرنسيُ، وهي حيلةٌ لجأ إليها مجلسُ الدولةِ هناك، الذي أنشأتْه الثورةُ الفرنسيةُ في 1789-1799، وبعد عودةِ النظامِ الملكيِ في عامِ 1814، كان الاتجاهُ العام ضد مجلسِ الدولةِ، باعتباره من نتاجِ الثورةِ، ولكي يتفادى هذا الصدامَ مع نظامِ الحكمِ العائدِ، كانت أعمالُ السيادةِ، تحتَ عنوانِ مبدأ الفصلِ بين السلطاتِ، حيث اختار مجلسُ الدولةِ الفرنسيُ التنازلَ عن بعض الاختصاصاتِ في الرقابةِ على مجموعةٍ من أعمالِ الحكومةِ، من باب المواءَمةِ.
وهي الفكرةُ التي انتقلت إلى مصرَ مبكراً، بالنصِ عليها في لائحةِ ترتيبِ المحاكمِ المختلطةِ والمعدلةِ عام 1900 "ليس للمحاكمِ الأهليةِ أو المختلطةِ أن تنظرَ مباشرةً أو غيرَ مباشرةٍ في أعمال السيادة"، وانتقلَ هذا النصُ إلى قانونِ السلطةِ القضائية رقْم 46 لسنة 1972 بالنصِ: "ليس للمحاكم أن تنظرَ بطريقةٍ مباشرةٍ أو غيرِ مباشرةٍ في أعمالِ السيادةِ...." وكان النصُّ قد وردَ في قانونِ مجلسِ الدولةِ المصريِ الصادرِ في سنة 1949 على هذا النحو: " على أنّه لا تُقبل الطلباتُ المقدمة عن القراراتِ المتعلقةِ بالأعمالِ المنظمةِ لعلاقةِ الحكومةِ بالبرلمانِ وعن التدابيرِ الخاصةِ بالأمنِ الداخليِ والخارجيِ للدولةِ وعن العلاقاتِ السياسيةِ والمسائلِ الخاصةِ بالأعمالِ الحربيةِ، وعلى العموم سائر الطلبات المتعلقة بعمل من أعمال السيادة".
اجتهادُ المحكمة:
لكن ما هي أعمالُ السيادةِ؟
في الحقيقةِ الأمرُ متروكٌ لاجتهادِ المحكمةِ، وحسب الظرفِ السياسيِ، فما يعدُ في فترةٍ معينةٍ من أعمالِ السيادة، قد يصبحُ من القراراتِ الإداريةِ الخارجةِ عن أعمالِ السيادة في فترةٍ أخرى، ورأينا كيف أن القضاءَ تعاملَ في عهد مبارك على أن قرارَ رئيسِ الجمهوريةِ بدعوةِ الناخبين للانتخاباتِ، هو من أعمالِ السيادة، في حكمِ من المحكمةِ الدستوريةِ التي قررت في وقتٍ لاحق أن هذا القرارَ من الأعمالِ الإداريةِ، ومن ثم تصدتْ له وأبطلتْه لأنها كانت تنظرُ في قرارٍ للرئيسِ محمد مرسي. ورأينا كيف كان النظرُ إلى قرارِ الرئيسِ جمال عبد الناصر بعزلِ مئتَي قاضٍ فيما أُطلقَ عليه "مذبحةُ القضاة" بأنه من أعمالِ السيادة، وبعد وفاتِه تصدت محكمةُ النقضِ للقرارِ وأعادت هؤلاء القضاةِ بحكمٍ لها، ونفت أعمالَ السيادة، والتي لم تنتقلْ من فرنسا إلى مصرَ وحدَها، ولكنها انتقلت إلى دولٍ كثيرةٍ، عربيةٍ وغيرِ عربيةٍ، ولا يزالُ معمولاً بها إلى الآنَ في فرنسا، مع أنها نتاجُ الضرورةِ، التي تجاوزتْها الدولةُ الفرنسيةُ بنجاحِ الثورة، وهذا التمسكُ بها هو الذي أعطاها بُعداً موضوعياً، بسببِ تأثيرِ الروحِ القانونيةِ الفرنسيةِ في كثيرٍ من الدولِ والعربية منها بالذاتِ.
إنني أرى بعدمِ جوازِ تحصينِ أي قرارٍ للسلطة التنفيذيةِ من رقابةِ "القضاءِ العادل"، لكن الرئيسَ محمد مرسي لم يخترعْ عمليةَ التحصينِ هذه، والتي أسرفَ فيها النظامُ الناصريُ، الذي أسسَ قضاءً موازياً، هو عبارةٌ عن اللجانِ الإداريةِ ذاتِ الاختصاصِ القضائيِ، والتي ألزم في بعض القطاعاتِ باللجوءِ إليها وحدَها، وكان النصُّ يمنعُ من اللجوءِ إلى القاضِي الطبيعي، ثم حصّنَ قراراتِها فجعلها نهائيةً لا يجوزُ الطعنُ فيها أمام القضاء!
فعندما يأتي من يتعاملُ مع الرئيسِ محمد مرسي بأنه ارتكبَ جريمةً وجاءَ ببدعةٍ اسمُها "أعمالُ السيادة" فلا يمكنُ إلا أن يكون مدفوعاً بالغرضِ الذي هو مرضٌ!
وهذا الغرضُ هو الذي كان سبباً في عدمِ لفتِ الانتباهِ إلى ما جاء في هذا الإعلانِ من انتصارٍ لثورةِ يناير، وشهدائِها، بإعادةِ التحقيقاتِ والمحاكماتِ في جرائمِ قتلٍ وشروعٍ في قتلِ وإصابةِ المتظاهرين وجرائمِ الإرهابِ التي ارتُكبتْ ضد الثوارِ!
وإذا كانت المعارضةُ للرئيسِ المنتخبِ، قد هاجمتْه بسببِ براءاتِ الجناةِ في قضايا الثورةِ، وكأنه هو قاضي التحقيقِ، الذي تواطَأَ معهم فلم يوثقْ أدلةَ الإدانةِ ويعززْها بالأسانيدِ، فما هو مبررُ الاعتراضِ عندما يقررُ: أنه في حالِ قيامِ خطرٍ يهددُ ثورةَ يناير، أو حمايةَ الأمة، أو الوحدةَ الوطنيةَ، أو سلامةَ الوطن، أو يعوقُ مؤسساتِ الدولة عن أداءِ دورِها أن يتخذَ الإجراءاتِ والتدابيرَ الواجبةَ لمواجهةِ هذا الخطرِ، "على النحو الذي ينظمُه القانونُ"، وجزءٌ مما وردَ في هذا النصِ، كان ضمنَ سلطاتِ مجلسِ الأمنِ القوميِ، الذي شكلَه طنطاوي من أغلبيةٍ عسكريةٍ، قبل إعلانِ فوزِ الرئيسِ، وأهميتُه بأن يكونَ حسابُ الرئيسِ على التقصيرِ، وَفقَ الصلاحياتِ المقررةِ له!
الديكتاتور:
لقد نصَّ الإعلانُ الدستوريُ على تحصينِ مجلسِ الشورى من الحلِّ، وكذلك تحصينِ الجمعيةِ التأسيسيةِ لوضعِ الدستورِ، وقد كان الرئيسُ مشغولاً بالانتهاءِ من بناءِ مؤسساتِ الدولةِ، فمتى يتمُّ البنيان يوماً تمامَه، إذا كنتَ تبْني وغيرُك يهدمُ، فبعد حلِّ مجلسِ الشعبِ، كانت هناك دعاوى منظورةٌ أمام القضاءِ بحلِ مجلس الشورى، والجمعيةِ التأسيسيةِ!
وبخصوصِ مجلسِ الشورى، فهل يكون مرسي ديكتاتوراً فعلاً، إذا كان همُّه الإبقاءَ على هذه الغرفةِ النيابيةِ، التي تشاركُه في اختصاصِ التشريعِ، بدلاً من أن ينتقلَ له الاختصاصُ كاملاً في حالِ حلِّ مجلسِ الشورى؟!
أما الجمعيةُ التأسيسيةُ، فقد كان الرجلُ مشغولاً بالانتهاءِ السريعِ من وضعِ الدستورِ، لتُبنَى مؤسساتُ الدولة على أساسِه، لكن المعارضةَ، كانت تريدُ حلَّ التأسيسيةِ، ابتغاءَ الفوضى، أو ابتغاءَ جمعيةٍ تأسيسيةٍ جديدةٍ، تنصُّ على إجراءِ الانتخاباتِ الرئاسيةِ بعد الاستفتاءِ على الدستورِ، لأن حمدين صباحي في عَجَلةٍ من أمرِه، وهو يعتقدُ يقيناً أنه رئيسُ مصرَ القادمُ، لا ينقصُه إلا إجراءُ الانتخاباتِ الرئاسيةِ، فلماذا يؤجل عملَ اليومِ إلى الغد؟!
التلاعبُ بعمرو موسى:
قبلَ صدورِ الإعلانِ الدستوريِ كانت المعارضة تدقُّ طبولَ الحربِ، وتدعو لمليونياتٍ بميدانِ التحريرِ، وعززَ من احتشادِها، انتهاءُ الجمعيةِ التأسيسيةِ من إعدادِ مشروعِ الدستورِ، وكانت تمنِّي النفسَ أن تتأخرَ في ذلك، انتظاراً لحكمِ القضاءِ بحلِّها، وكان الرئيسُ ومَن معه في الجمعيةِ التأسيسيةِ يدركون ذلك، فبدأَ الإسراع في الانتهاءِ من المَهمة، وبدأت الانسحاباتُ من الجمعيةِ بهدفِ الإرباكِ، فقد انسحبَ عمرو موسى أيضاً، والذي سبقَ له الإعلانُ عن أنه ليس هناك مبررٌ للانسحاب، لكن على ما يبدو أنه كان يثأرُ لكرامتِهِ.
لقد تلاعبَ به الإخوانُ، عندما عرضوا عليه منصباً شرفياً هو نائبُ رئيس الوزراءِ للشؤونِ الخارجيةِ ووافقَ، ثم تراجعوا بدونِ اعتذارٍ، وتكررُ العرضُ بعد ذلك، فهل كانوا يفكرون بصوتٍ مسموعٍ ولم يعقدوا العزمَ على ذلك؟ غاية ما في الأمرِ أنهم كانوا بحاجةٍ إلى موافقةٍ يتصرفون بمقتضاها عند اتخاذِ قرارِهم، دون أن يدركوا ما يصيبُ الطرفَ الآخرَ من شعورٍ بالإهانةِ عندما يوافقُ فيأخذون موافقتَه وتمنعُهم العزةُ من أن يعتذروا له.
لقد أرسلوا إلى أحدِ القضاةِ يعرضون عليه التعاونَ، ومع أنهم لم يعرضوا عليه منصباً بعينه، إلا أنه وافقَ على العرضِ وقال إنه مستعدٌ لخدمةِ بلدِه من أيِ موقعٍ، ثم لم يعتذروا له، فانقلبَ عليهم.
إن طريقةَ التفكيرِ بصوتٍ مسموعٍ، تستلزمُ أسلوباً آخرَ، غير هذه البدائيةِ المغلفةِ بتعالٍ ليس له ما يبررُه.
وأذكرُ مرةً أنني كتبتُ مقالاً ضد الرجلِ القوي في نظام مبارك كمال الشاذلي، واتصل بي هاتفياً وغلبَ المزاحُ على حديثِنا، قبل أن يشيرَ من بعيدٍ إلى أنه كان يتمنَّى أن أكون معهم في المجلسِ، مجلسِ الشعبِ.
إنه هنا يطرحُ أمنيةً ولا يقدمُ وعداً، ليرى وقعَها، وهذه الأمنيةُ لا يقدمُها على سبيلِ الرِشوةِ، إنما بحسب قولِه حتى إذا هاجمتُه، استطاعَ أن يعثرَ عليَّ بسهولةٍ، بدلاً من أن أهاجمَه ويظلُّ اليوم كلَّه يتصلُ بي فلا يعثرُ عليَّ إلا بصعوبةٍ.
والأمرُ لا يحتاجُ إلى خبرةٍ سياسيةٍ، بقدرِ الحاجةِ إلى خبرةٍ بالحياةِ، مع ملكاتٍ خاصةٍ بالقدرةِ على المناورةِ فلا تقدمُ عرضاً صريحاً فتتلقى موافقةً صريحةً، مع أن الأمرَ في أساسِه قيد التفكيرِ.
لقد تابعتُ أزمةَ التأسيسية، فلم أستطعْ أن أجدَ رؤيةً متماسكةً لرفضِ التأسيسيةِ الحالية، وكذلك رفضِ المشروعِ الذي أعدّتْه!
إن القوى المدنيةَ تقولُ إنه دستورُ دينيُّ، وهي توحِي كما لو كان اعتراضُها منصباً على المادةِ الثانيةِ الخاصةِ بالشريعةِ، وما استُحدثَ من موادَّ خاصةٍ بالأزهرِ والكنيسةِ، وهذا ليس صحيحاً، فقد تمَّ إقرارُ الموادِ المثيرة للجدل، ولم يكنْ لدى القوى المدنيةِ موقفٌ ضدها!
وتحدثَ حمدين صباحي أكثرَ من مرةٍ عن ضرورة حلِّ اللجنةِ التأسيسيةِ الحاليةِ وتشكيلِ لجنةٍ جديدةٍ تمثلُ أطيافَ المجتمعِ المصريِ، وهو ما عرضَه على الرئيسِ عندما التقاه، بعد أن قال إنه لن يلتقيَه إلا إذا حلَّ التأسيسيةَ.
ولم يحددْ حمدين صباحي ما يقصدُه بأطيافِ الشعبِ، ولم يقلْ إن هناك طيفاً أو أكثرَ لم يتم تمثيلُه.
أزمةُ وحيد عبد المجيد:
وكررَ الدكتورُ وحيد عبد المجيد، الحديثَ عن أن اللجنةَ التأسيسيةَ تقومُ بسلقِ مشروعِ الدستورِ، ومن إلحاحِه على ذلك تحولَ القولُ إلى نغمةٍ رددها غيرُه، دون أن يقول كيف يتم السلقُ، ودون أن يضرِبَ مثلاً بنصٍ أو أكثرَ في المشروعِ اعتراه العوارُ بسببِ السرعةِ والسلقِ!
كان وحيد عبد المجيد غاضباً، لقد فاز في انتخاباتِ مجلسِ الشعبِ لأن الإخوانَ وضعُوه على رأسِ واحدةٍ من قوائمِهم في القاهرة.
وكان - باعتباره شخصيةً مستقلةً- رئيساً للجنةِ الانتخاباتِ التي تعدُّ القوائمَ الخاصةَ بالمرشحين على قوائمِ الحريةِ والعدالةِ، التي تضم مجموعةً من الأحزابِ بجانب حزبِ الإخوان المسلمين.
فقد كان، من قبلُ، ضمن اللجنةِ التي أدارت الانتخاباتِ على رئاسةِ حزب الوفد، بعد وفاةِ فؤاد سراج الدين، باعتباره من الشخصياتِ المستقلةِ، لكن بعد إعلانِ النتيجةِ انضم لحزب الوفد!
وبعد الثورةِ وعندما حدثَ الخلافُ بين الوفدِ والإخوانِ، على تفاصيلَ في انتخاباتِ مجلس الشعب في قائمةٍ موحدةٍ، ترك الوفدَ، وذهبَ مع الإخوانِ رئيساً للجنة باعتباره شخصيةً مستقلةً، وكانت هذه اللافتةُ المعلنةُ، لكن في الحقيقة فإن الرئيسَ الفعليَ للجنة هو ممثلُ حزب الحرية والعدالة فيها الدكتور محمد البلتاجي، الذي كان يمررُ من خلالِه ما يريدُ وعلى اعتبار أن من أصدرها هو الدكتور وحيد عبد المجيد الشخصيةُ العامةُ المستقلةُ!
فلما تأكدَ من وضعِهِ في الانتخابات، تركَ الأمورَ في يد الدكتور البلتاجي، وانشغلَ بذاتِه!
لقد تم حلُّ مجلس الشعبِ، وبسببِ سابقةِ الأعمالِ هذه، فقد كان يطمعُ في أن يمنحَه الإخوانُ رئاسةَ مجلسِ إدارةِ جريدة الأهرام، لكن كان الموقعُ محجوزاً لممدوح الولي، فأوغرَ هذا صدرَه، وانطلقَ يقول قبل الأكلِ وبعدَه إن اللجنةَ التأسيسيةَ تسلقُ الدستور!
ثلاثةُ مقالات:
وبعيداً عن الخطابِ السياسيِ الارتجاليِ الذي يهتم بجاذبيةِ العبارةِ عن خواءِ الموضوعِ، فقد لجأتُ إلى ثلاثةِ مقالاتٍ كتبَها ثلاثُ شخصياتٍ من كبارِ المعارضين في هذه القضيةِ.
المقالُ الأولُ كتبه أستاذُ العلومِ السياسيةِ الدكتور حسن نافعة في 4 نوفمبر 2012 بعنوان: "الجمعية التأسيسية بين مطرقة القانون وسندان السياسة"، وتوقعَ فيه أن تبدأَ الجمعيةُ في نفسِ يوم نشر المقال، مناقشةَ مُسوَّدَةِ الدستورِ تمهيداً لإقرارِ نصِّه النهائيِ الذي سيطرحُ للاستفتاءِ العام. وهو يرى أن الجمعيةَ قد تأخذ قراراتِها بالأغلبيةِ أو بالتوافقِ، وهو ميّالٌ لعدم الأخذِ بالتصويتِ، على أساس أننا سنكون إزاءَ دستورٍ غير توافقي، لكنه يميلُ لاختيارِ التوافقِ الوطنيِ "الأكثر حكمة ورشداً"، لكن الجمعيةَ التأسيسيةَ في هذه الحالةِ ستواجهُ معضلةً تتعلقُ بالمهلةِ الزمنيةِ المتاحةِ للانتهاء من صياغةِ الدستور!
وكلُّ المقالِ يدور حولَ هذه الزاويةِ، دون أن يقدمَ لقارئِه الموادَّ التي يعترضُ عليها، فكلُّه استغراقٌ في الشكل.
أما المقالُ الثاني فهو للدكتورِ محمد نور فرحات، أستاذِ القانونِ بجامعة الزقازيق، فقد نشرَ مقالاً في نفس التاريخِ حمل عنوانَ: "لماذا نرفض مشروع الدستور" من عدة حلقاتٍ صالَ وجالَ حولَ الشكلِ وتشكيلِ الجمعياتِ التأسيسيةِ، وحاولَ فيه الإجابةَ عن سؤالِ مَن يصنعُ الدستور؟، وكلُّه استغراقٌ في الشكل دون معرفةِ ما هي الموادُ الدستوريةُ التي يعترضُ عليها، ويرى أن جماعةَ الإخوان مثلاً تؤسسُ بها للدولةِ الدينيةِ.
أما المقالُ الثالثُ وقد نُشرَ في اليوم التالي 5 نوفمبر 2012، فكانَ لأستاذِ القانونِ الدستوريِ الدكتورِ يحيى الجمل وعنوانُه "محنة الدستور"، كان كلّه حولَ العنوانِ، وكيف أنه عنوانُ كتابٍ للأستاذ المرحومِ "محمد زكي عبد القادر"، نُشرَ في عام 1955، وكان يتناولُ الحياةَ السياسيةَ قبلَ ثورةِ 19، ثم في ظلِّ هذا الدستورِ لم يكن الملكُ فؤاد سعيداً به؛ لأنه كان لا يعطيه سلطاتٍ إلا عن طريقِ الحكومةِ "السلطة التنفيذية". ونقل منه أزماتٍ دستوريةً حدثت دون ربطٍ بالحاصل.
ليختمَه بعبارة: "أنا أعلن انضمامي إلى صديقي عبد الغفار شكر في تحليلِه وفي مقترحاتِه.
فإذا طالعت ما كتبَه صديقُه عبد الغفار شكر فلن تجدَ على النارِ هدى!
وفي منتصفِ ذلك الشهرِ، قرأتُ حواراً أُجري مع عمرو موسى، عن أسبابِ انسحابِه من الجمعيةِ التأسيسية؟ فلخص ذلك في عبارةٍ واحدةٍ: "انسحبت من أجل الفوضى"، وفي الشرحِ قال إن هناك موادَّ في الدستور تحتاجُ إلى التوافق (لم يذكرها)، وبالتالي ينبغي مناقشتُها بهدوءٍ وبدون عجلةٍ. ودون أن يوضحَ ما فعلتْه هذه العجلةُ بهذه الموادِ، التي لا نعرفُها.
وإذ تحدثَ أستاذُ القانونِ الدكتور جابر نصار، فقد اعتقدت لاختصاصِه القانونيِ أنه سيأتي بما لم يأتِ به الأوائلُ، فقال إن سرَّ تمسكِ الإخوان ببقاءِ مجلسِ الشورى، يرجعُ إلى سعيهم للهيمنة من خلالِه على المؤسساتِ الصحفيةِ القوميةِ. وهو كلامٌ كان يجوز في حقِ السادات ومبارك فقط، لأنه لو اطّلعَ على مشروعِ الدستورِ، لقرأَ أن هناك هيئةً مستقلةً، هي التي سيُناطُ بها إدارةُ هذه المؤسساتِ وليس مجلس الشورى!
فما هو المبررُ الموضوعيُ لاعتراضِ القومِ؟
لقد أعلنت الكنائسُ الثلاثُ انسحابَها من الجمعيةِ التأسيسيةِ في 17 نوفمبر، والأسبابُ كلُّها تدورُ حولَ أنّه دستورٌ يعبّرُ عن فصيلٍ واحدٍ، ويكرسُ لدولةِ الطائفيةِ، ويهددُ أمنَ الوطنِ ووحدةَ أراضيهِ، ويضربُ مقوماتِ الدولةِ المتمثلةِ في التعدديةِ الثقافيةِ والدينيةِ والمذهبيةِ والسياسيةِ، كما يتراجعُ بمكتسبات المرأةِ ويجهضُ كفاحَها في الستين عاماً الأخيرةِ!
ما هي الموادُ في مُسَوَّدَةِ الدستورِ التي احتوت على كل هذه الكوارثِ؟ لم يذكر المنسحبون شيئاً منها.
إن مطالبَ الكنيسة تمت الاستجابةُ لها، ووضعت المادةُ الخاصةُ بالشريعةِ والأزهرِ بالتوافقِ مع ممثليها، ولم تكن هناك مشكلاتٌ تدفع لهذا الانسحابِ لكنهم انسحبوا قبل التصويتِ!
وفي اليومِ التالي 18 نوفمبر أعلنَ ممثلو القوى الوطنيةِ والمدنيةِ الانسحابَ احتجاجاً على تجاهلِ مطالبِهم، وأبرزُها منحُ الجمعيةِ وقتاً كافياً لإنجازِ مهامِها.
الحقيقة إنهم يريدون الوقتَ الكاملَ لتمكينِ القضاءِ من الفصلِ في الدعاوى المنظورةِ أمامه والتي تطالبُ بحلِّ الجمعيةِ التأسيسيةِ، وهو ما كان يقلقُ الرئيسَ فكان الاتجاهُ هو الانتهاءَ من عملِ الجمعيةِ العموميةِ، ثم صدورَ الإعلانِ الدستوريِ في 21 نوفمبر، بتحصينها، لتجدَ هذه القوى المناوئةُ للحكم الفرصةَ المناسبةَ لدقِّ طبولِ الحربِ، فمرسي يتحولُ إلى فرعونَ بهذا الإعلانِ الدستوريِ.
لتكون فتنةٌ كقطعِ الليل المظلم، حيث حشدت الثورةُ المضادةُ نفسَها لتتحرك تحت لافتةِ الثورة التي ترفعُها القوى المدنيةُ.
"وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا"، الأحزاب (14).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق