السبت، 31 أغسطس 2019

طريق الحرير التركي.. مشروع أردوغان لإنهاء سيطرة أمريكا على ممرات التجارة العالمية


طريق الحرير التركي.. مشروع أردوغان لإنهاء سيطرة أمريكا على ممرات التجارة العالمية 
معتز علي
باحث في الشؤون السياسية
ساهمت نظرية قوة البحار للأدميرال الأمريكي ألفريد ماهان في رسم تصور عالمي جديد لكيفية صعود الدول في بدايات القرن العشرين، ومدى إرتباط زيادة السيطرة البحرية لأسطول الدولة بتعاظم النفوذ الجيوسياسي لها، وكان لتلك النظرية دور فاعل في هندسة النظام العالمي الجديد وصعود أمريكا كقوة عظمى، فبعد قيام أمريكا بشق قناة بنما وصناعة ممر تجاري جديد، قامت بالسيطرة على كوبا ثم الفلبين بعد طرد النفوذ الأسباني منهما، مما سمح لها بالسيطرة على ممرات التجارة تدريجيا، فيما شكلت حرب السويس 1956 وأزمة كوبا 1962 أخر محاولات القوى العالمية لمشاركة أمريكا في السيطرة على الممرات والمضايق البحرية.

تلك السيطرة البحرية ساعدت أمريكا في إحكام قبضتها على التجارة العالمية وحشد الدول الصغيرة والإقليمية تحت عباءة الهيمنة الأمريكية، مما سهل فرض الدولار كعملة عالمية للتجارة دون مقاومة تذكر. إلا أن النمو التجاري للصين دفعها لمحاولة صناعة ممرات تجارية بديلة يكون فيها السيطرة الفعلية للصين، وزادت تلك التطلعات عقب ما حدث عام 1993 مع إحدى سفن الشحن الصينية والتي تم إحتجازها من قبل البحرية الأمريكية وتعرضها للتفتيش بحجة نقل مواد نووية لإيران. 


طريق الحرير الصيني
عقب انهيار الاتحاد السوفتي وتحديدا عام 1993، تزايدت الدعوات في تركيا لتدشين خط سكك يهدف لربط تركيا بالشعوب التركية التي تعيش حول بحر قزوين وزيادة الترابط الثقافي والاقتصادي بينها
حاولت الصين تشييد طرق بحرية بديلة عن الممرات التي تسيطر عليها أمريكا، في محاولة لتقليل الهيمنة الأمريكية على التجارة العالمية، ومحاولة منعها من استخدام السيطرة البحرية على الممرات والمضايق في أي حرب تجارية محتملة مع الصين، لذلك كان إنشاء ممرات بديلة هي ضرورة ملحة للأمن القومي الصيني. لذلك حاولت الصين حفر عدة قنوات ملاحية في كل من نيكارجوا وتايلاند، لتجنب المرور بقناة بنما ومضيق ملقا، إلا أن الضغوط الأمريكية على نيكارجوا وسلاح الانقلابات العسكرية في تايلاند قد أوقف المشروعين، في حين نجحت الصين بصعوبة في تدشين مشروع ممر جوادر الذي يربط غرب الصين بميناء جوادر الواقع ببحر العرب في باكستان.

وفي نفس السياق نجحت الصين في تسيير أول رحلة بالقطار من بكين إلى لندن عبر خط سكك حديد يمر بثماني دول من بينها روسيا، إلا أن طول المسافة التي تبلغ 12 ألف كيلو ترفع من تكلفة النقل وتحصر تلك الرحلات على نوعيات معينة من البضائع الثمينة. على الجانب الأخر تحاول الصين استثمار الجهود التركية في ربط هضبة الأناضول والبحر الأسود بدول وسط أسيا عبر شبكة من السكك الحديدية، حيث يؤدي إلتحام الصين مع تلك المنظومة إلى زيادة التبادل التجاري مع دول وسط أسيا، فضلا عن إمكانية نقل البضائع الصينية إلى البحر الأسود القريب من شرق أوروبا وشمال إفريقيا. 


طريق الحرير الحديدي
عقب انهيار الاتحاد السوفتي وتحديدا عام 1993، تزايدت الدعوات في تركيا لتدشين خط سكك يهدف لربط تركيا بالشعوب التركية التي تعيش حول بحر قزوين وزيادة الترابط الثقافي والاقتصادي بينها، وبرغم تعطله بسبب عدم وجود تمويل بعد رفض البنك الدولي والبنك الأوروبي تمويله بحجة تجاهله ربط أرمينيا بالخط، إلا أن المشروع عاد للواجهه عام 2007 بعد توفير التمويل له من قبل تركيا وأذربيجان، وتم إفتتاحه عام 2017، وقامت الصين بالاندماج بذلك الخط عبر تمديد سكك حديدية من غرب الصين إلى كازاخستان، لتعبر البضائع الصينية بحر قزوين بعبارات إلى أذربيجان، ثم استكمال الطريق إلى تركيا عبر سكك حديد باكو تبليسي قارص.

ومن ناحية أخري دخلت الصين في مفاوضات مع الحكومة التركية لتدشين المرحلة الثانية من المشروع لربط سكك حديد قارص بمدينة أدرنة القريبة من حدود بلغاريا، كما افتتحت تركيا سكك حديد تربط إسطنبول بصوفيا عاصمة بلغاريا وقريبا إلى بلغراد، في حين بدأت الصين فعليا في إعادة تهيئة خط سكك حديد يربط صربيا بالمجر، وعند اكتمال المشروع ستتمكن الصين من نقل البضائع إلى أوروبا في 15 يوم فقط بدلا من شهر ونصف.

الصين تعول على تركيا
تحاول الصين المضي في عدة محاور بمشروع طريق الحرير مثل ممر جوادر الباكستاني، فضلا عن سكك حديد تربطها بأوروبا عبر روسيا، إلا أن الطريق الأقصر والأكثر واقعية هو الطريق إلى الأناضول الذي يبدأ من غرب الصين إلى البحر الأسود ومنه إلى البحر المتوسط عبر مضيق البسفور، حيث يمثل النقل البحري الوسيلة الأرخص تكلفة لكثير من البضائع، وهو ما يدفعها إلى تعزيز العلاقات مع تركيا بشكل كبير، وفي هذا الإطار استحوذت شركة كوسكو باسيفيك الصينية العملاقة لشحن الحاويات على مينا كوموبورت في بحر مرمرة، الذي يعد ثالث أكبر ميناء في تركيا مقابل مليار دولار، لتقديم خدمات ملاحية ولوجيستية للسفن المارة.

إيران تتجه إلى الشمال
قامت إيران في 2018 بإنهاء النزاع التاريخي حول ثروات النفط والغاز في بحر قزوين، بعد التنازل عن بعض مطالبها، مما مهد لبدء محادثات بين روسيا وإيران حول الربط التجاري بين بحر قزوين وموانئ القرم في البحر الأسود، عبر نهر الفولجا وقناة الدون وصولا لجسر القرم، حيث سيتم مد طرق وسكك حديدية لربط إيران بالبحر الأسود، كما سمحت المصالحة الإيرانية مع دول بحر قزوين، إلى تسارع الخطي لمد خط غاز في قاع بحر قزوين من تركمنستان إلى أذربيجان ليشكل رافد أخر لمشروع تصدير غاز وسط أسيا إلى أوروبا عبر تركيا. ومن جهة أخري افتتحت الصين خط سكك حديدية تربطها لإيران عبر دول القوقاز، فضلا عن افتتاح إيران لخط سكك حديد إلى أذربيجان ليلتحم مع طريق الحرير الحديدي، وهو ما يمهد لربط إيران مع كل من الصين وأوروبا عبر تلك الشبكة من السكك الحديدية وما ينتج عنها من تقليل زمن نقل البضائع وتكلفة الشحن.

مضيق البسفور وقناة إسطنبول
تتضافر جهود دول وسط أسيا الرامية لنقل تجارتها من بحر العرب والخليج العربي إلى البحر الأسود حيث حرية الملاحة بعيدا عن النفوذ الأمريكي، وهو ما دفع دول وسط أسيا إلى تدشين عدة خطوط سكك حديدية لنقل تجارتها إلى موانئ البحر الأسود، حيث قامت كل من طاجكستان وأفغانستان وأوزباكستان بتدشين خط سكك حديد يربطهم بموانئ تركمنستان على بحر قزوين، ومنه تنتقل بضائع الدول الأربع إلى ميناء باكو بأذربيجان الذي يستقبل البضائع من الصين وكازاخستان أيضا، لتنتقل كل تلك البضائع عبر السكك الحديد إلى موانئ جورجيا روسيا وتركيا في البحر الأسود.


وفي إطار ذلك أعلن أردوغان منذ عدة سنوات عن رغبته في حفر قناة غرب إسطنبول موازية لمضيق البسفور الذي تتكدس أمامه السفن باستمرار فضلا عن حوادث السفن نتيجة الضباب وضيق الممر، حيث تصل عدد السفن المارة في البسفور إلى أكثر من 50 ألف سفينة سنويا، والتي تتعطل الملاحة فيه بشكل متزايد في ظل مشاريع الأنفاق والكباري والسكك الحديدية على جانبيه، مما يجعل من مشروع حفر قناة إسطنبول المزمع تنفيذه قريبا، محاولة لتقليل الضغط عن مضيق البسفور فضلا عن مصدر كبير للدخل، حيث من المتوقع أن تدر القناة دخلا يتجاوز ثمانية مليارات دولار سنويا. فمع بدء ربط الصين ودول أسيا الوسطي عبر شبكة سكك حديدية سريعة مع تركيا والبحر الأسود، يتوقع أن يزيد عدد السفن إلى 100 ألف سفينة سنويا عام 2050، وهو ما يمهد لإعلان إسطنبول مركز تجاري عالمي، ينافس فرنكفورت ولندن ونيويورك.
تغير خطوط التجارة
من المعروف تاريخيا أن اكتشاف الأسبان لطريق رأس الرجاء الصالح قد ساهم في بروز عدة قوى غربية مثل أسبانيا والبرتغال وهولندا وإنجلترا، في مقابل خفوت نجم دولة المماليك بعد 20 عاما فقط من تحول تجارة أوروبا من مصر والشام إلى الطريق الجديد، وما صحبه من انخفاض المكوث والضرائب بشكل كبير، وساهم في إضعاف دولة المماليك وسقوطها. ثم قام الأسطول الأمريكي بوراثة مكانة الإمبراطورية الإسبانية بعد طردهم من بحر الكاريبي نهاية القرن التاسع عشر، وامتد نفوذ الأسطول الأمريكي ليسيطر على كل المضائق والممرات البحرية التي تمر من خلالها معظم تجارة العالم من نفط وبضائع عبر سبعة أساطيل بحرية.
قلب العالم
وبنفس المقياس نستطيع أن نقول أن تلاقي رؤية أردوغان مع زعماء الصين وروسيا ساهمت في انشاء ممرات تجارية لربط قلب العالم القديم ببعضه، فضلا عن تمديد أنابيب لنقل الغاز والنفط من حقول الإنتاج في أسيا إلى أماكن الإستهلاك في أوروبا عبر تركيا مثل السيل التركي ومشروع تاناب، مما يزيد من ترابط المصالح في منطقة أوراسيا، بعيدا عن النفوذ الأمريكي الذي يضعف بشكل مضطرد. فهل تشهد السنوات القادمة تغير في الخريطة الجيوسياسية للعالم بعد تغير مسارات التجارة العالمية من الجنوب إلى منطقة قلب العالم مرة أخرى؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق