عن أي شعب تتحدثون؟ (4 - 4)
منصف المرزوقي
رئيس تونس السابق
لا أحد تجاسر على الشعب كما تجاسر أبو القاسم الشابي:
أنتَ روحٌ غَبِيَّةٌ، تكره النّور * وتقضي الدهورَ في ليل مَلْس
ولا شتمه:
أنتَ لا ميِّتٌ فَيَبلَى، ولا حيٌّ * فيمشي، بل كائنٌ، ليس يُفْهَمْ
ولا استهزأ به:
واعبدِ «الأمسَ» وادَّكِرْ صُوَرَ الـ*ـماضِي فدُنْيَا العجوزِ ذكرى شبابِهْ
ولا واجهه بمثل هذا السخط:
يا إلهي! أما تحسُّ؟ أَمَا تشدو؟ * أما تشتكي؟ أما تتكلَّمْ؟
طبعا كل هذا صرخة ألم مُحبّ يدعو حبيبه للعودة إلى الرشد:
ليت لي قوةَ الأعاصيرِ إن ضجَّـ*ـتْ فأدعوكَ للحياةِ بنبسي!
لكن هل كان الشاعر سيكتب هذه الأبيات لو لم يَحجب عنه قِصَرُ زمن المشاهدة ما يتضح لنا اليوم؟!
**
تخيّله وقد مُكّن -عشية رحيله عن الدنيا- من جهاز سحري يعرض عليه في ثلاث ساعات تاريخ بلاده ذا الثلاثة آلاف سنة، مع نظرة على القرن المقبل، موفِّرا عليه قصص "النخبة" من غزوات وصراع ممالك وملوك.
طيلة ساعتين وخمسين دقيقة لن يتابع إلا قصص بشر أغلبيتهم الساحقة رعايا وعبيد يباعون كما تباع الماشية، والنساء جَوارٍ وخادمات أو محصنات في بيوت كأنها القبور، والكل -ذكَرا وأنثى- ضحايا الفقر والجهل والظلم والمرض، ولا ثورة لهم إلا وقُمعت ليتواصل الاستعباد والاستبداد.
فجأة في الدقائق العشر الأخيرة -والشابي على وشك المطالبة بوقف حصة التعذيب- تتغير الأمور جذريا وبكيفية متسارعة:
- 1846: إلغاء الرق ونهاية عشرات القرون من العبودية.
- 1924: مولد أول تنظيم نقابي مستقل وبداية المعركة من أجل العدالة الاجتماعية.
- 1930: ظهور كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" وبداية الاستعداد لتحرير "نصف السماء".
- 1956: إعلان الاستقلال والخروج البدني للمستعمر.
- 1957: دخول مجلة الأحوال الشخصية حيّز التطبيق ونهاية عصور من التعسف بالقانون على الإنسان/الأنثى.
- 1977: مولد أول منظمة مستقلة للدفاع عن حقوق الإنسان وانطلاق معركة الحقوق للجميع.
- 2011: خروج الجماهير في تونس وخارجها لتدك حصون قرون من الاستبداد، شعارُها ردٌّ على أشهر بيت للشابي.
- 2014: اعتماد أول دستور غير ممنوح من أحد، نابع من الشعب لضمان كرامته وحرياته ومصالحه.
"أين أخطأ الشابي إذن في حكمه الظالم على الشعب؟ صحيح أنه لم يكن بوسعه احترام بشر يتحكم فيهم -منذ بداية التاريخ- غُزاة الخارج والداخل، كما يتحكم في الغنم الرعاةُ. هم لم يُسمَّوْن -طيلة قرون- "الرعيةَ" تجاوزا، بل لأنهم كانوا كالماشية لا سلطان لهم على أجسادهم، لا قدرة لهم على التمتع بالثروة التي يَخلقونها، لا اعتبار لهم ولا قيمة. أقصى طموحهم أن يُقنِع فقهاءُ السلاطين أولياءَ الأمر بألا يُسرفوا فيهم بالذبح وجزّ الصوف، ومنع آخر قطرات حليب الضرع عن صغارهم"
في هذه القصة الخيالية يمكن للشابي أن يطلق آخر نفَس وعلى محياه ابتسامة الرضا، وأن يعْبر آخرَ لحظات وعيه عتابٌ رقيقٌ لشاعر فذّ مظلوم آخرَ دعا على البشر المساكين ألا ينزل عليهم القطر وهو يموت ظمآن. على عكس أبي فراسٍ الحمداني؛ فإن كلّ جوارح الشابي -وقد ثأر له الزمان- تُغنّي: الآن ارتوَيتُ! فلتجد السماء بكل ما فيها من غيث.
أين أخطأ الشابي إذن في حكمه الظالم؟ صحيح أنه لم يكن بوسعه احترام بشر يتحكم فيهم -منذ بداية التاريخ- غُزاة الخارج والداخل، كما يتحكم في الغنم الرعاةُ. هم لم يُسمَّوْن -طيلة قرون- "الرعيةَ" تجاوزا، بل لأنهم كانوا كالماشية لا سلطان لهم على أجسادهم، لا قدرة لهم على التمتع بالثروة التي يَخلقونها، لا اعتبار لهم ولا قيمة. أقصى طموحهم أن يُقنِع فقهاءُ السلاطين أولياءَ الأمر بألا يُسرفوا فيهم بالذبح وجزّ الصوف، ومنع آخر قطرات حليب الضرع عن صغارهم.
طيّب، لكن ألم تخرج كل التغييرات -التي قلبت المشهد رأسا على عقب- من صُلب شعب الرعايا هذا؟ وتم ذلك بصورة ربما كانت ستعجب شاعرنا المتشبّع بتقديس الطبيعة، لقد كان كمن ينظر لشجرة فلا يرى منها إلا الجذع الجافّ واللحاء المتشقق والأغصان العارية، غافلا عن التحرّك الصامت للعصارة داخل الجذع، وغير منتبه للبراعم تطلّ باحتشام على الأغصان، أصدر حكمه أوج الشتاء الطويل ولم يسعفه الحظّ بحضور الربيع.
**
تحت غطاء كظم الغيظ والصبر على الهول؛ كان شعب الرعايا يحلم ويخطط، ويرمي الفوج بعد الفوج بخيرة مَن فيه لشقّ طريقه، لكن في أي اتجاه؟
يكفي أن نعود لأحلامنا التي لم تتحقق، لمشاريعنا المجهضة، للآمال التي نغالب بها كل الآلام، لنضالاتنا المتواصلة؛ ليتضح لنا أن وجهته الوضع النقيض، الذي أسميه شعب المواطنين.
كل مواصفات هذا الشعب مضمَّنة في هذه الأحلام والآمال والنضالات والمشاريع وهي كالتالي:
- شعب المواطنين هو شعب يملك الدولة ولا تملكه.
- شعب تمكّن من فرض أقصى المساواة -في توزيع الثروة والسلطة والاعتبار- على نُخب قُلّمت أظافرها وأنيابها.
- شعب تعلّم جُلُّ أفراده تصريف تعدديتهم سلميا، فلا يمارس مكوّن منهم أي وصاية أو إقصاء على المكونات الأخرى.
- شعب جُلّ أفراده غيورون أشدّ الغيرة على حقوقهم الفردية والجماعية، ومنضبطون أقصى الانضباط في القيام بالواجبات التي تتماشى آليا مع هذه الحقوق.
- شعب يمارس جُلُّ أفراده الحرية التي هي القيمة المجتمعية الأولى كما يفهمها صاحب سيارة مسؤول، لا يقبل أن ينازعه أحد حقه في السفر بسيارته متى يشاء، مع من يشاء وأنّى يشاء، لكنه يتقيّد بقانون السير وربط الحزام والتأمين والفحص الفني الدوري، وكل هذه الضوابط هدفها ألا تكون حرية تنقله وبالاً عليه ونقمة على الآخرين.
- شعب استطاع جُلُّ أفراده -عبْر توفير تكلفة الصراعات السياسية والاجتماعية- التفرّغَ لخلق الثروة المادية والمعرفية والجمالية والأخلاقية.
- شعب استبطن جُلُّ أفراده احترام أقلياته واحترام الشعوب الأخرى، وحتى احترام كرامة وحقوق الكائنات الحية غير الآدمية، وقد اتضح -أكثر من أي فترة من التاريخ- ترابط مصير شعوب الإنسانية بينها وترابط مصير الإنسانية نفسها بمصير ما نسميه الطبيعة.
بديهي أن شعب الرعايا هو الذي يحمل الصفات المعاكسة؛ إنه الشعب الذي تملكه دولة، والذي يعيش على فتات الثروة والسلطة والاعتبار الذي تتركه له "النخبة"، والذي يتملص من واجباته لأنه لا حقوق له، والذي يفهم الحرية كفوضى... إلخ. والسؤال هو: كيف يمكن لشعب المواطنين أن يخرج من رحِم شعب كهذا؟ ومتى ولدت الفئران قططا؟
"ما خصائص ‘الشعب/ الحراك‘ وكيف يلعب دوره في التطور التاريخي للشعب الحقيقي؟ لو رجعنا إلى التاريخ سواء تعلق الأمر بالحرب ضد الاستعمار أو بالصراعات الاجتماعية الكبرى في ظل الاستبداد، ولو حسبنا كم خرج من التونسيين أواخر سنة 2010 أو من المصريين في أوائل سنة 2011 لمقارعة الدكتاتورية، ولو اعتبرنا المشاركة في الانتخابات الحرة مؤشرا على درجة المواطنية؛ لوجدنا دوما نفس الظاهرة: "شعب الحراك" أقلية لا تزن إلا ما تزن الخميرة في العجين، لكنها الأقلية الفاعلة الصانعة للتاريخ"
الأمر غير مفهوم إن لم نأخذ بعين الاعتبار الخاصية الكبرى التي أضفتها الحكمة الإلهية على الكائنات، سواء كانت من البشر أو من الحيوان أو من الشجر؛ وهي التي يسميها العلماء التباين البيولوجي، أي أنه لا توجد شجرة تشبه شجرة، ولا قِطٌّ يشبه قطًّا، ولا توأم بشري يشبه توأمه مئة في المئة. ثمة دوما تباين، أحيانا تراه العين المجردة وأحيانا لا يكتشفه إلا المجهر، أو الردّ على تغيّر المحيط.
ما سبب هذه الظاهرة؟ هي الخاصية الأولى التي تمكّن من البقاء ومن التطوّر. تصوّر الكارثة لو كان الشعب كلّه مجموعة نسَخ طبق الأصل للآدمي الأول؛ ألَنْ ينقرض لو هاجمته بكتيريا ليس للنسَخ قدرة على مقاومتها، والحال أن المناعة الطبيعية لحفنة من الأشخاص -في ظل التباين البيولوجي- كفيلة بالحفاظ على البعض ليجدّدوا النسل.
هكذا ستجد ضرورة في جمهرة آلاف الحكام الفاسدين حاكما مثل عمر الفاروق أو عمر بن العزيز، كما ستجد في مجتمع خانع مستكين حفنة من الثوار يرفعون السلاح، وبضعة مصلحين يدعون للتغيير، وعددا صغيرا ممن يلبون النداء. إنهم البشر الذين ولَّد فيهم القمعُ والظلم والإذلال والتضليل عكس المواقف والتصرفات التي ولّدها عند الأغلبية، وهم الذين سيشكلون ما أسميه ‘شعب الحراك‘ الذي هو همزة الوصل بين ‘شعب الرعايا‘ و‘شعب المواطنين‘.
ما خصائص ‘الشعب/ الحراك‘ وكيف يلعب دوره في التطور التاريخي للشعب الحقيقي؟ لو رجعنا إلى التاريخ سواء تعلق الأمر بالحرب ضد الاستعمار أو بالصراعات الاجتماعية الكبرى في ظل الاستبداد، ولو حسبنا كم خرج من التونسيين أواخر سنة 2010 أو من المصريين في أوائل سنة 2011 لمقارعة الدكتاتورية، ولو اعتبرنا المشاركة في الانتخابات الحرة مؤشرا على درجة المواطنية؛ لوجدنا دوما نفس الظاهرة: "شعب الحراك" أقلية لا تزن إلا ما تزن الخميرة في العجين، لكنها الأقلية الفاعلة الصانعة للتاريخ.
‘شعب الحراك‘ إذن هو الجزء الحيّ من ‘شعب الرعايا‘، أي الطليعة المكلّفة بفتح طريق التحرّر أمامه؛ لكنه أيضا في قطيعة مطلقة مع هذا الشعب، وقد قطع مع ما تعوّد عليه من استكانة ومذلة وخوف، وأحيانا من تعلّقه الغريب بالقيود التي كبّلته بها ''النخبة''.
ما مِن وضع أصعب من انخراط ‘شعب الحراك‘ في حرب ضروس مع هذه ''النخبة''، وأيضا في صراع مع جزء من حاضنته الطبيعية الأكثر اغترابا. هكذا يجد كل مصلح نفسه في مرحلة "الماضي الذي لم يمت نهائيا والمستقبل لم يولد بعد"؛ كما يقول المفكر الإيطالي غرامشي. إنه واقع بين المطرقة والسندان؛ إن صرخ في القوم: أفيقوا كلكم -صانعين ومصنوعين- من خديعة كبرى! نكّل به المخادع ومثّل به المخدوع.
كيف تتشكّل تاريخيا هذه "النخبة" التي تفرض على الرعايا مَذلة الاستكانة، وعلى المواطنين أخطار الثورة؟ هي ترمي جذورها في أغوار الظلم الذي في شيم النفوس كما يقول المتنبي، وفي تصريف هذه الغريزة القوية للتنافس الشرس -داخل المجتمعات البشرية وبينها- على الثروة والسلطة والاعتبار، وذلك في ظلّ ندرة هذه الأساسيات أو صعوبة تقاسمها عدلا.
هي هيكليا طبقتان؛ أقدمهما طبقة الغزاة الذين فَرضوا بحدّ السيف سطوتَهم على جُلّ الثروة والسلطة والاعتبار، ووَرِث منهم الأحفاد -دون جهد باستثناء جهد الولادة- كلَّ ما سرق أجدادهم. وفوقها تنمو باستمرار طبقة يأتي أفرادها من جزء ‘شعب الحراك‘ نفسه، وقد طال عليهم الطريق وأغْرَتهم الحلول السهلة، وهم الذين قال فيهم فرويد: "لا تحارب عدوًّا أمداً طويلا إلا وأصبحت تشبهه".
خذ الحبيب بورقيبة نموذجا؛ وُلد من عائلة فقيرة في قرية فقيرة، ولمّا وُلّي مقاليد الأمور سارع لمصاهرة أعرق عائلات البرجوازية، متبنيا عاداتها وواصفا الشعب الذي أوصله إلى السلطة بأنه غبار أفراد. وعندما غدر به أقرب المقربين -ليموت وحيدا سجينا ثلاث عشرة سنة دون محاكمة- لم يرافقه لمثواه الأخير كبار "النخبة"، وإنما "الغلابة" وبعض من معارضيه أمثالي، لأنه كان -رغم الأخطاء والخطايا- رجل الاستقلال المنقوص والتعليم للجميع ومجلة الأحوال الشخصية.
"ما يتضح هو أن الشعب الحقيقي مشروع لا مُعطى، وأنه غليان دائم وتشكُّلٌ متواصل، وديناميكية تاريخية لا رجعة فيها، يمثلها أحسن تمثيل ‘شعب الحراك‘ الذي يزأر في ساحات بيروت وبغداد والجزائر والخرطوم، ومن قبلُ في ساحات تونس وطرابلس وصنعاء والقاهرة، وغدا في كم من عاصمة أخرى؛ والهدف هو شعوب عربية أكثر إنسانية وفعالية، المواطنون فيها هم الأغلبية الساحقة، عن يمينهم بقايا الرعايا، وعن يسارهم أشلاء النخب. ولا بدّ لليل أن ينجلي"
لا غرابة في الكره الدفين الذي أظهرته لي هذه "النخبة"، واستعمالها أخسّ الوسائل لتشويه سمعتي لدى الشعب، وهو ما نجحَت فيه نجاحا باهرا بامتلاكها كل وسائل التضليل. لم يكن للأمر أي علاقة بتوجهاتي الفكرية أو تحالفاتي السياسية، فكلها كانت بالنسبة إليها قابلة للتفاوض والصفقات كما فعلت دوما -ولا تزال- مع القادمين الجدد.
إنما كان السبب فهمها الرسالة التي كانت تنضح بها أقوالي وأفعالي وحتى ملابسي: لا أريد أن أقلدكم، لا أريد استرضاءكم، لا أريد مصاهرتكم، لا أريد أن أكون واحدا منكم؛ فالهدف أعظم مني ومنكم، إنه مواصلة دفع المشروع التحرري ولو خطوة صغير للأمام، لنشكّل جميعا -وأنتم معنا- الشعب/ النخبة: شعب المواطنين.
بالتمحيص لمفهوم غامض يلعب كثيرون على غموضه؛ يتضح أن الشعب الحقيقي لا علاقة له بالشعب الذي تُتوّجه "النخبة" بإكليل الشوك، ولا بالشعب الذي يُتوجه الشعبويون بإكليل الغار، ولا علاقة له أيضا بالصورة الخيالية التي صنعها له المشرِّعون ويستظلّ بها القضاة.
لاحظ القاسم المشترك بين هذه الرؤى السحرية وهو أن الشعب كمبدأ مصدرٌ للشرعية، أو كمجموعة بشرية كيان متجانس وكامل وثابت؛ والحال أن الشعب كائن تعددي وديناميكي تحركه التناقضات والصراعات بين كل مكوناته.
إن ما يتضح هو أن الشعب الحقيقي مشروع لا مُعطى، وأنه غليان دائم وتشكُّلٌ متواصل، وديناميكية تاريخية لا رجعة فيها، يمثلها أحسن تمثيل ‘شعب الحراك‘ الذي يزأر في ساحات بيروت وبغداد والجزائر والخرطوم، ومن قبلُ في ساحات تونس وطرابلس وصنعاء والقاهرة، وغدا في كم من عاصمة أخرى؛ والهدف هو شعوب عربية أكثر إنسانية وفعالية، المواطنون فيها هم الأغلبية الساحقة، عن يمينهم بقايا الرعايا، وعن يسارهم أشلاء النخب. ولا بدّ لليل أن ينجلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق