أينما كنت تذكّر أنك في مملكتك، وأن من حولك يمتّون إليك بسبب ونسب، فبادر بالوصل، والابتسامة
{فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} (12،11:الرحمن).
هل هذا وصف الجنة التي وعد المتقون؟
كلا
بل هو وصف الأرض التي اختارها الله لنا لنسكنها، واختارنا لها لنعمرها.
ليست أرضنا ملعونة بسبب الخطيئة أو وجود الشياطين فيها؛ كما تزعم بعض الروايات والكتب السابقة، بل هي مقدّسة كلها خصوصا البقاع الطاهرة المختارة المخصصة للتعبُّد..
وهي كلها مسجد وطهور: « وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ».
يروى أن آدم لم يقطع شجرة قط.. فما بالنا نمضي سراعا للقضاء على الغابات، وعلى الخضرة، وعلى الجمال الفطري؛ لنحول كوكبنا إلى ورشة أو مصنع أو كتل من الخرسانة الجاهزة؟
تحريم قطع الشجر والصيد بمكة ثابت بالوحي المنزل، والكعبة جعلها الله قياماً للناس وضمانا لبقائهم ووجودهم، وهو يوحي بأن الإذن للبشر بذلك في غير المسجد الحرام هو بسبب الحاجة، فما كان من ذلك على سبيل الإسراف والتبذير والهدر فهو مذموم.
كيف أقاوم رغبتي برؤية النيران تتلهب أمامي وتتعالى ألسنتها في ليلٍ مظلم أو برد قارس أو سفر بعيد؟
كم عدد البشر الذين عاشوا على الأرض منذ آدم؟
يقال بأنهم أكثر من مائة مليار إنسان، والله أعلم بذلك.
والله أعلم كم عدد الذين سيرثون الأرض من بعدنا إلى حين خرابها وقيام الأشهاد..
الأرض وضعت لنا ولهم جميعا ولم يؤذن لنا باحتكارها أو إفسادها أو تفريغها من خيراتها أو التسبب في احتباسها الحراري.. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} (41:الروم).
ومما فسرت به الآية أن الفساد: قلة الأمطار، وغلاء الأسعار، وكثرة الحروب..
من الفساد هذا التفاوت العظيم بين شركاء الوجود من ذرية آدم واستيلاء (الشمال) على خيرات الأرض، وتخريب العمران، وقتل السكان باسم (الاستعمار)!
في المدينة الواحدة أحياء فخمة راقية مغلقة، وأخرى عشوائية أو غرف ضيقة من الصفيح، تركت للجريمة والفقر وفقدان الكرامة وضياع الحلم، فلا تعليم ولا صحة ولا ترفيه..
بين هؤلاء الجياع عباقرة وعظماء ومبدعون ومدافعون أشاوس، ولسان حالهم يقول:
(العبدُ لاَ يُحْسِنُ الكَرّ، وإنما يُحْسِنُ الحلاب والصَّرّ!)، وهم يحتاجون لمن يقول: (كر.. وأنت حر!).
الأرض كل الأرض لنا، لنا وحدنا..
انتقلوا فيها، وامشوا في مناكبها، واضربوا طولا وعرضا، حيث شئتم رغداً
لماذا إذن أوجدنا جدار برلين الشهير وقسمنا المدينة الواحدة والمجموعة الواحدة لعشرات السنين؟
لماذا أقمنا نحن البشر السور الحديدي؛ الذي حرم مئات الملايين في روسيا من الضرب في الأرض وقيّد حريتهم؟
لماذا سكتنا على الجدار العازل الذي قسم الأسرة الفلسطينية الواحدة وحرم على أفرادها أن يروا بعضهم وأن يعيشوا بسلام؟
لماذا صنعنا التعقيدات في السفر والتنقل والترحال، وعوقنا اتصال البشر بعضهم ببعض، (إلا ما كان تنظيما تقتضيه المصلحة الظاهرة أو الضرورة القاهرة)؟
كلا
الأرض ليست لنا وحدنا!
لنا شركاء فيها من (ذوات الأرواح)؛ التي تتحرك وتحس مثلنا، وتحيا وتموت، وتنتظمها معنا بعض الأحكام الفقهية والتشريعات الربّانية.
حين هبط آدم كانت الطيور والحيوانات والديناصورات -والله أعلم- قد سبقته إلى الأرض، وقد عرفها وعرف أسماءها وتعامل معها وفق توجيه الله له، وعرف تحريم إيذائها أو التحريش بينها أو استهدافها لغير حاجة.
ومن بعده عاتب الله أحد أنبيائه على قتل النمل بوحي من السماء!
وجعل في شريعة خاتم الرسل أن المرء قد يدخل الجنة في كلب سقاه، أو يدخل النار في هرٍ حبسه!
كيف يمكنني تغيير مشاعري الجامدة نحو الأرض التي أسكنها؟
كما أحب بيتي وسكني الخاص كيف لي أن أحب أرضي؟
«أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ».
شعور دفء وحميمية حتى مع الصخر!
كان عمر يُقَبِّل الحجر الأسود ويخاطبه فيقول:
(إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَ -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ).
كيف نضفي شيئا من الروح والوجدان حتى على الموات؟
كيف نستطيع ألا نشعر بوحشة الليل المظلم والريح البارد الصرصر فيه؟
أو لا نشعر بوحشة السفر والاغتراب؟
كنت ذات حين في بلد غربة ونزل المطر ففرحت به وكشفت عن رأسي له؛ لأنه (حديث عهد بربه)، كما يقول المصطفى، وصرت أردد:
أُمطرنا بفضل الله ورحمته.. وأطلب المزيد
وصاحبي يقول: كيف تستغيث وتستمطر لقوم كافرين!
قلت له: هذا رزق الله لعباده برهم وفاجرهم في الحياة الدنيا..
وركبنا القطار فداعبت طفلا إلى جواري، وبادرت صاحبي قائلا:
هذا في عمر الموءودة؛ التي يحضر الله وائدها -ولو كان والدها- على رؤوس الخلائق ليوبخه ويحاسبه على جريمته.
وحاشا كرمه ورحمته أن يحاسب والدها على قتل لم يستغرق دقائق ثم يضعها في النار لأبد الآبدين، ولعلها من أهل الجنة كما ذهب إليه جماعة من الصحابة والسلف..
أينما كنت تذكّر أنك في مملكتك، وأن من حولك يمتّون إليك بسبب ونسب، فبادر بالوصل، والابتسامة، والكلمة الطيبة، والعمل الطوعي، والإحسان ولو بالقليل؛ كما فعل موسى حين ورد ماء مدين.
ولا تحجب عنهم هدى دلّك الله عليه، وخيراً أرشدك إليه، فوالله لأن يهدي الله بك أحداً لهو خير لك من الدنيا وما فيها، ومن أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق