أحمد خالد توفيق... أستاذ الجيل!
خواطر صعلوك
محمد ناصر العطوان
الجريمة التي أثارت دهشة مصر منذ أعوام، والتي تبعث على الابتسام رغم كل شيء، هي جريمة سائق سيارة إسعاف كُلِّف بنقل بعض المجانين إلى مستشفى العباسية. أثناء الطريق شعر السائق بالحاجة إلى شرب كوب من الشاي وتدخين النارجيلة (الشيشة) هكذا توقف في مقهى ونزل ليعدل دماغه. عندما عاد للسيارة لم يجد مجنوناً واحداً، وهذا يعني أن المجانين يجيدون فتح أبواب السيارات رغم كل شيء.
لم يعرف ما يفعل ولا كيف يسدد الدفاتر في مستشفى العباسية. هنا خطرت له فكرة عبقرية هي أن يتوجه إلى أحد المواقف وينادي على الركاب: «واحد العباسية... واحد العباسية!».
كانت ساعة زحام والمواصلات شحيحة، هكذا جاء ركاب وركبوا في السيارة، وقد افترضوا أنه سائق سيارة إسعاف يحاول التحايل على الحكومة للظفر ببعض المال.
انطلق السائق إلى مستشفى الأمراض العقلية فأفرغ حمولته وحصل على إيصال التسليم، وما يثبت أنه سلم حمولته الثمينة إلى المستشفى ثم فر.
طبعاً ما حدث بعد هذا جدير بأن يكتب في الأدب العالمي... الركاب بينهم المعلمة والموظف والمحاسب والتاجر يؤكدون للممرضين والأطباء أنهم عقلاء، وأن خدعة قاسية جاءت بهم هنا... لكن محاولتهم هذه هي بالضبط استعراض للجنون على أعلى طراز... «كنا نعتقد أنها سيارة نقل عام»... «طبعاً... طبعاً... سيارة نقل عام تبدو كسيارة إسعاف... جميل جداً».
استغرق الأمر أسبوعاً حتى عرف الجميع الحقيقة، وقد تم تقديم فيلم سينمائي كوميدي عن هذه القصة.
كما قلت لك: أصعب شيء في العالم أن تثبت أنك عاقل عندما يفترض الآخرون أنك مجنون، والنصيحة الوحيدة لك هي ألا تركب سيارة إسعاف يتظاهر صاحبها بأنها سيارة نقل عام.
عزيزي القارئ...
إن القطعة الأدبية السابقة لكاتب الجيل الذي عاش في عصر أدبي أكثر ما يميز شبابه أنه «جيل بلا أساتذة»، صاحب صنعة حقيقية في رصد المعنى وإظهاره عبر الكتابة، إنه كاتب الجيل بلا منازع الدكتور أحمد خالد توفيق... رحمه الله... الأستاذ الذي افتتح كتابه «اللغز وراء السطور» بقوله إن الأستاذ هو الشخص الذي يواصل عملية تعلمه أمام الناس، لذلك فأحمد خالد توفيق، صاحب الصنعة في الطب والأدب لا يخشى ما يقال عنه عندما كتب «أتلقى دوماً السؤال من قرائي: ماذا أفعل لأكون كاتباً؟ وهو سؤال بالغ الصعوبة والتعقيد، ومن الغرور الأحمق الممتزج بسذاجة الأطفال أن يعتقد المرء أن بوسعه تقديم إجابة عنه، والأكثر سذاجة من يتوقع أن الجواب عندك، لهذا كنت أنظر دوماً بخفة إلى (ورش) تعليم الكتابة، ولم أقبل أي عرض لتقديم ورشة كهذه».
إنه الأستاذ الذي حذر جيل الشباب من السقوط في فخ اللحاق بعتبة باب روائي أو ناشر يُعلم الآخرين كيف يكتبون مقابل مبلغ مادي، فيخرج نتيجة ذلك جيل لا يكتب نفسه ولا يطارد أشباحه الخاصة، ويعتقد فعلاً أنه بعد أربع أو خمس ورش من هذا النوع قد أصبح «أسطى» في الكتابة، رغم أن كل ما فعله هو اتباع التعليمات من الفكرة إلى التنفيذ بناء على خبرات الكاتب والروائي الذي وصل به أفق خياله إلى الاعتقاد أنه حقا قادر على تعليم الآخرين كيف يكتبون أو حتى يعيشوا؟
إن الوعد بتعليم الكتابة الفنية بأشكالها المتنوعة، هو وعد استهلاكي يعدك بأن تدفع مقابل أن تشبه من تدفع له، ويهمل التربة المناسبة والبيئة الشخصية والقراءة المبكرة والعقد النفسية والرغبات المحبطة، وكل خليط فريد في جعل الشخص أديباً نتيجة الضغوط النفسية المتلاحقة التي تجعل فعل الكتابة علاجاً ومخرجاً للذات الكاتبة قبل الذات القارئة.
إن ثلاث سنوات ليست كفيلة بجعلك طبيباً تعالج أمراض الناس الجسدية، ولكن وحسب منطق أصحاب «الورش الكتابية الإبداعية» فإن ثلاثة أيام مدفوعة التكاليف كفيلة بجعلك كاتباً تعالج المعنى وقادراً على رصده وإظهاره.
ما علاقة كل ذلك بالقصة المكتوبة في الأعلى كمقدمة، وما علاقة كل ذلك بالكاتب أحمد خالد توفيق.
إن هذه القصة المكتوبة في الأعلى - والتي أنصح بإعادة قراءتها - تجعلنا نتساءل عن من هم المجانين حقاً... هل من هربوا من السيارة التي وعدتهم بالوصول أم من ركبوها... أم سائقها؟
أما الموضوع الأهم فهو محاولة إجابة تساؤل صحافي استهلاكي في إحدى الصحف الإلكترونية التجارية عن سبب حب الشباب لأحمد خالد توفيق، ولماذا له أتباع وقراء بالملايين؟ ولماذا سار الآلاف في جنازته؟ ولماذا يزور الشباب قبره دائما؟ ثم كتب مقالاً طويلاً من أسوأ المقالات التي تثبت أن هناك أشخاصاً سيذهبون إلى الجحيم بسبب رداءة مقالاتهم وكتاباتهم وأفكارهم، مقالاً يؤكد مقولة «العراب» إنه من الصعب حقاً أن تثبت أنك لست «منافقاً» أمام شخص ينسب ما فيه فيك.
باختصار... إن أحمد خالد توفيق، رحمه الله، هو أستاذ الجيل الشبابي الذي عاصره، وعرابهم الأدبي الذي عاش بينهم وكتب نفسه معهم وقدم لهم الدعم الفني والإرشادي بلا مقابل مادي، فتعلم الآخرون منه كيف يواصل عملية تعليم نفسه أمام الآخرين... وكل ما لم يذكر فيه اسم الله... ابتر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق