الجمعة، 29 يناير 2021

الرواية الأميركية السرية للثورة المصرية (2).. هل منح الإخوان الجيش وعدا بالحصانة من المحاسبة؟

 الرواية الأميركية السرية للثورة المصرية (2).. 

هل منح الإخوان الجيش وعدا بالحصانة من المحاسبة؟


عارف عبد البصير
29/1/2021

هذا هو الجزء الثاني من رصدنا الخاص لوقائع وأحداث ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 في مصر، كما وُصِفت في الرسائل والإحاطات الاستخباراتية الواردة في رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، ورُفِعت السرية عنها مؤخرا بقرار من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وكما ذكرنا في الجزء الأول، فإن أهمية هذه الرواية تنبع من أهمية الدور الذي لعبته كلينتون بوصفها مسؤولة عن السياسة الخارجية الأميركية بالكامل في تلك الفترة الحساسة، وهو ما يجعل منها ومن فريقها شهودا فائقي الأهمية، وفاعلين مؤثرين، خلال تلك الحقبة الحاسمة من تاريخ مصر الحديث.

 

باستثناء انقطاعات زمنية قليلة نُشير إليها في موضعها، غطَّت الرسائل والتحديثات التي تلقتها كلينتون معظم الأحداث الفاصلة التي شهدتها مصر منذ اندلاع الموجة الثورية التي أطاحت بحكم محمد حسني مبارك مطلع 2011، وحتى مغادرة كلينتون نفسها لمنصبها مطلع عام 2013. وكما أشرنا في الجزء السابق أيضا، فإنه من بين قرابة 1600 رسالة تضمنت إشارات حول مصر في بريد كلينتون؛ تبقى الرسائل والتحديثات التي تلقتها وزيرة الخارجية من مساعدها الشخصي "سيدني بلومنتال" هي الأكثر أهمية، وهو صحافي أميركي عمل سابقا مساعدا للرئيس الأسبق بيل كلينتون، وأحد المقربين من هيلاري بشكل شخصي، خاصة خلال فترة عمله موظفا مرموقا بدوام كامل في مؤسسة كلينتون بين عامي 2009-2013، وهي فترة عمل هيلاري نفسها في وزارة الخارجية.


خلال هذه الفترة كتب بلومنتال عشرات الخلاصات من مصادر عامة وخاصة حول تطورات الأوضاع في دول الربيع العربي خاصة في ليبيا ومصر، وقام بمشاركتها مع كلينتون ومساعدها جيك سوليفان تحت اسم "إحاطات استخباراتية"، وفيما يتعلّق بـ "مصر" تحديدا فقد أشار "سيدني" في إحاطاته إلى أن المعلومات الواردة جاءت نقلا عن مصادر مطلعة ذات مناصب حساسة بمستويات عُليا في هرم السلطة في مصر، مصادر في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وجهاز المخابرات العامة، ومكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، فضلا عن ضباط استخبارات أميركيين وغربيين أشار "بلومنتال" إلى بعضهم بالاسم في رسائله.

 

ترسم هذه الرسائل صورة مفصلة إلى حدٍّ كبير حول الأوضاع في مصر خلال تلك الفترة، وقد قمنا في الجزء الأول من هذه السلسلة بتغطية ما ورد في هذه الإحاطات حول أهم الأحداث التي وقعت خلال عام 2011، بداية من المداولات التي شهدتها دوائر السلطة على وقع المظاهرات التي نشبت في 25 يناير/كانون الثاني، مرورا بكواليس الإطاحة بمبارك وانتقال السلطة إلى الجيش، وصولا إلى أهم المحطات الفاصلة في المرحلة الانتقالية والأجواء التي تشكّلت خلالها العلاقات المضطربة والمعقدة بين المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين والقوى المدنية الثورية، وانتهاء بالانتخابات البرلمانية وما بعدها، وملامح الدولة المصرية التي أراد الإخوان تأسيسها بعد وصولهم إلى الحكم. وفي هذا الجزء نستأنف الحديث عن أهم المحطات التي شهدتها المرحلة الانتقالية منذ مطلع عام 2012، مرورا بالانتخابات الرئاسية، وانتهاء بكواليس الأيام الأولى من حكم الرئيس الراحل محمد مرسي.

 

ترصد رسالة بتاريخ 14 يناير/كانون الثاني لعام 2012 سلسلة من جلسات التخطيط السرية والمكثفة داخل صفوف جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة بهدف التوصُّل إلى إستراتيجية لاستثمار النجاح الذي حققته الجماعة خلال الانتخابات البرلمانية. ووفقا للمصادر الأميركية فإن هذه الإستراتيجية تلخّصت في محورين رئيسين؛ الأول هو الحفاظ على تحالف الإخوان مع حزب النور السلفي، وهو تحالف يضمن للإسلاميين السيطرة على 70% من مقاعد البرلمان، وبالتالي التحكم في عملية وضع الدستور الجديد، وربما الضغط على المجلس العسكري وإقناعه بالسماح لهم بتشكيل حكومة مؤقتة، والثاني هو الحفاظ على الحوار السري القائم بين الجماعة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وطمأنة المشير طنطاوي وقيادات المجلس أن مكانتهم لن تمس تحت حكم المدنيين الإسلاميين.

لكن هذه الحوارات السرية بين الجيش والإخوان تعرّضت لضغوط كبيرة بعد تسريب محادثات حول موافقة الإخوان على منح قيادات الجيش حصانة من المحاسبة على جميع أعمالهم خلال الفترة الانتقالية بعد نقل السلطة، حيث رأى الإخوان وقتها أن الخطر الأكبر الذي يُهدِّد الانتقال السياسي هو احتمالية رفض الجيش تسليم السلطة بسبب مخاوف قياداته من أن يلقوا مصير مبارك نفسه، ومع ذلك، فإن الإخوان اعتقدوا أن الصدام مع المجلس العسكري قادم لا محالة، وأن على الجماعة الاحتفاظ بقدرتها على حشد احتجاجات واسعة النطاق على مستوى البلاد استعدادا لتلك اللحظة.

 

في ذلك التوقيت تُشير الرسائل إلى أن محمد مرسي، رئيس حزب الحرية والعدالة آنذاك، أكّد لقيادات الإخوان أن إستراتيجية المجلس العسكري تعتمد على الفصل بين البرلمان والرئيس القادم (لم يكن الإخوان وقتها قد قرّروا الترشُّح للرئاسة)، والتعامل مع كلٍّ منهما بشكل منفرد ومختلف من أجل الحفاظ على قدرتهم بوصفهم قادة للجيش على التلاعب بالبيئة السياسية للبلاد، وأكّد لهم مرسي أن التقارير حول حدوث مناقشات منفردة بين المجلس العسكري والسلفيين تهدف في المقام الأول إلى محاصرة حزب الحرية والعدالة، وإضعاف التحالف بين الإخوان والسلفيين.

 

في ضوء ذلك بدأ الإخوان استثمار تحالفهم مع حزب النور السلفي في محاولة منع المجلس العسكري من اختراق هذا التحالف، وكما تُشير إحاطة استخباراتية لـ "بلومنتال" بتاريخ 22 يناير/كانون الثاني 2012 فإن قرار الإخوان ترشيح سعد الكتاتني لرئاسة مجلس النواب جاء في سياق رغبة الإخوان في تصدير شخصية مقبولة للتعامل مع السلفيين، بدلا من مرسي الذي لديه خلافات شخصية كبيرة مع زعيم حزب النور عماد الدين عبد الغفور ربما تُعقِّد التحالف بين الطرفين.


لكن التحدي الأكبر الذي واجهه الإخوان في تحالفهم مع النور، وفق مصادر بلومنتال، هو كيفية تَمكُّن الجماعة من منع الحزب السلفي من جذبها لإدراج تفسيرات "مُتشدِّدة" للشريعة الإسلامية في مشروع الدستور الجديد، خاصة أن الإخوان كانوا ملتزمين بشدة بالعمل مع الشركات والحكومات الغربية، رغم أن الجماعة خططت لإدخال تغييرات جوهرية على سياسة البلاد تجاه إسرائيل. فعلى الرغم من أن الإخوان أكّدوا نيتهم عدم المساس بمعاهدة السلام مع الكيان العبري، فإنهم لم يعتبروها شريكا في المنطقة أيضا، وعنى ذلك أن الحكومة المصرية ستبدأ في تبنّي سياسات جديدة في هذا الملف تشمل إنهاء التعاون الأمني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في محاصرة حركة حماس، وتسهيل تحرُّك الفلسطينيين المسافرين من قطاع غزة عبر الحدود المصرية، ودفع أجهزة الاستخبارات المصرية لتقديم مساعدات سرية للحركات الفلسطينية.

 

تُشير وثيقة 22 يناير/كانون الثاني ذاتها إلى السر وراء إعلان المرشح البارز والمدير السابق لوكالة الطاقة الذرية محمد البرادعي انسحابه من السباق الرئاسي، فمن وجهة نظر الإخوان فإن البرادعي أدرك أن الدستور الجديد سيُصاغ بطريقة تجعل منصب الرئيس منصبا بروتوكوليا وتمنح الصلاحيات الحقيقية للبرلمان ورئيس الوزراء. ونتيجة لذلك توقَّع الإخوان أن يكون الأمين السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى هو المرشح الأوفر حظا للفوز بالسباق الرئاسي، معتبرين أنه سيكون خيارا مناسبا لأنه يرتبط بعلاقة جيدة مع المشير طنطاوي من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنه لا يمانع بقبول دور الرئيس الشرفي في نظام يُهيمن عليه الإخوان، بعكس البرادعي الذي توقَّع أن يحكم بصلاحيات رئاسية مطلقة.

 

تُسلِّط إحاطة لاحقة بتاريخ 2 فبراير/شباط من العام نفسه الضوء على نظرة الإخوان للعلاقة مع الغرب في أعقاب المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، مؤكدة أن المرشد العام محمد بديع وقادة الجماعة كانوا سعداء بالاهتمام الذي حصدته مصر خلال المنتدى، ورأوا أن ذلك علامة على قبول الدول الغربية بوضع الإخوان الجديد في النظام السياسي المصري، وأن تلك الدول تُعدِّل سياساتها الخارجية والاقتصادية وفقا لذلك.

عمرو موسى في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس 2012

بالتزامن مع ذلك كان قادة الإخوان راضين أيضا عن نتائج المباحثات مع الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي، حيث بدا أن كليهما -من وجهة نظر الجماعة- يقبلان مصر الجديدة بوصفها دولة إسلامية، وعلى الرغم من ذلك، فإن بديع حرص على تحذير مفاوضي الجماعة أنه، أثناء حواراتهم مع القادة الغربيين، ينبغي لهم ألا يستخدموا لغة دبلوماسية غير واضحة بمصطلحات مطاطة أكثر من اللازم قد يُفهَم منها منح التزامات في قضايا مهمة، كما ينبغي لهم أيضا أن يضغطوا على محاوريهم الغربيين للحصول على تفسيرات واضحة لأي مسألة نُوقِشت، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع إسرائيل.

 



وأخيرا، نقلت الإحاطة ذاتها، عن مصادر وصفتها بالحساسة، أن محمد بديع كان سعيدا بأن زيارة المرشح الرئاسي عبد المنعم أبو الفتوح إلى دافوس قد ساهمت في تحسين سمعة الجماعة وسط الحكومات الغربية وقادة الأعمال، ووصفت المصادر المشار إليها أبو الفتوح بأنه عضو سابق في جماعة الإخوان قرّر ترك الجماعة من أجل الترشح للرئاسة بعد قرارها عدم التنافس بمرشح خاص من أجل التركيز على البرلمان.

 

وعلى الرغم من ذلك، فإن بديع ظل يرى أن فرصة أبو الفتوح للفوز بالرئاسة ضعيفة جدا، حيث أشارت استطلاعات الرأي التي أجراها الإخوان إلى أن عمرو موسى هو مَن يتجه للفوز في الانتخابات، وأشارت الإحاطة مجددا إلى أن هذا لم يكن خيارا سيئا للإخوان بالنظر إلى أن موسى كان عضوا في جماعة الإخوان حين كان في الجامعة.

 

 

أفردت المذكرة التالية بتاريخ 6 فبراير/شباط مساحة لتغطية الحملة الأمنية التي شنّها المجلس العسكري ضد المنظمات غير الحكومية (NGO) المدعومة من الغرب، ونقل بلومنتال عن مصادر مطلعة قولها إن الإجراءات التي اتُّخِذت بواسطة الأمن والمحاكم في مصر ضد هذه المنظمات جرت بعد مناقشات سرية بين قيادات المجلس العسكري والإخوان المسلمين، الذين كانوا يشاركون الجيش المخاوف ذاتها بشأن التدريب الذي توفره هذه المنظمات لجماعات المعارضة العلمانية، وهي جهود اعتقد الإخوان أن من شأنها إرباك المشهد السياسي في الوقت الذي تتحرك فيه مصر إلى الحكم المدني.


ووفقا للمصادر الأميركية، فإنه على الرغم من أن الحملة الأمنية تذرّعت بمخالفة هذه المنظمات لقوانين التمويل الأجنبي المصرية، فإن المخاوف الحقيقية كانت كامنة في الاتصالات التي ربطت هذه المنظمات بالجهات الغربية، وهو ما أثار مخاوف مشتركة بشأن إضعاف الوضع الأمني الداخلي بسبب المصالح الأجنبية المتنافسة التي تُمثِّلها هذه المنظمات من وجهة نظر الأجهزة الأمنية المصرية، خاصة أن المعلومات القادمة من جهاز المخابرات العامة وقتها ربطت بين منظمات مثل المعهد الديمقراطي الوطني، والمعهد الجمهوري الدولي، وفريدوم هاوس، ومعهد كونراد أديناور الألماني وغيرها، وبين أحزاب المعارضة العلمانية المصرية، مؤكدة أن هذه المنظمات تُدرِّب أصدقاءها المصريين على تقنيات الضغط السياسي التي تستخدمها الأقليات في البلدان الغربية.

 

تُقدِّم المذكرة نفسها إشارات حول مذبحة بورسعيد التي شهدت مقتل 74 مشجعا خلال مباراة كرة قدم في الأول من فبراير/شباط 2012، وهي مذبحة أثارت اتهامات واسعة ضد السلطة العسكرية بالتورُّط في قتل المشجعين. وكما تُشير المصادر الأميركية فإن الإخوان انقسموا داخليا حول الطريقة التي وقعت بها المذبحة. فمن ناحيته، كان رئيس البرلمان سعد الكتاتني واثقا من أن المذبحة صُمِّمت ونُفِّذت بواسطة جهاز المخابرات العامة، بإيعاز من المجلس العسكري، مؤكدا أن مصادر عسكرية أكّدت له أن أعمال الشغب قد بدأها أفراد موالون للمخابرات بهدف إعطاء ذريعة للمجلس العسكري لتمديد حالة الطوارئ وتعطيل الانتقال إلى الحكم المدني. بينما اختلف المرشد العام محمد بديع مع هذا التفسير، مؤكدا أن جهات موثوقة داخل المجلس العسكري أخبرته أن سر تقاعس الشرطة عن التدخُّل يرجع إلى مخاوف قادتها من تحمُّل المسؤولية عن أي إجراءات "عنيفة" قد تتخذ ضد "مثيري الشغب"، ورأى بديع أن الخطر الأكبر تَمثَّل في أن يلحظ المتظاهرون في مناطق أخرى هذا التردد الشُّرَطي، وأن يسعوا للاستفادة منه بتصعيد العنف بطريقة تُجبر الجيش على التدخُّل.

في هذا السياق، نقلت الوثيقة عن مصدر وصفته أنه على اتصال بمستويات عليا في المجلس العسكري قوله إن ضباط الشرطة والعسكريين باتوا يشعرون أن سلطتهم قد قُوِّضت بسبب الثورة والمظاهرات المستمرة في ميدان التحرير، وقارن ذلك المصدر تلك التطورات بالوضع في ألمانيا الشرقية ودول أوروبا الشرقية في نهاية الحرب الباردة، حين فقدت قوات الأمن في هذه الدول مصداقيتها بسبب ارتباطها بالنظام القديم وقاموا بتخفيض مستوى نشاطهم بسبب ذلك، الأمر الذي تسبّب في ارتفاع عدد جرائم العنف خلال السنوات التالية، وعلّق المصدر على ذلك بالقول إن أفرادا من قادة الشرطة وجهاز المخابرات العامة أخبروا المشير طنطاوي أنهم يتوقعون زيادة جرائم العنف بجميع أشكالها خلال عامَيْ 2012 و2013.


لاحقا، سلّطت رسالة بتاريخ 8 مارس/آذار الضوء على محادثات الإخوان والمجلس العسكري بشأن الانتخابات الرئاسية المقررة في يونيو/حزيران من العام نفسه. ووفقا للمصادر الأميركية فإن المرشد محمد بديع طلب من المجلس العسكري توضيح موقفه من ترشُّح اثنين من العسكريين البارزين للانتخابات وهما اللواء حسام خير الله، المساعد السابق لرئيس جهاز المخابرات العامة عمر سليمان، والفريق أحمد شفيق، قائد القوات الجوية السابق ورئيس الوزراء الأخير في عهد مبارك، حيث شعر الإخوان بالقلق من أن ترشحهما جاء بمباركة المجلس العسكري ودعمه، خاصة "خير الله" الذي يعتبره الإخوان شريكا أساسيا في القمع الذي مارسه نظام مبارك.

 

لكن الرسائل التي تلقّاها الإخوان من المجلس العسكري في هذا الشأن كانت إيجابية إلى حدٍّ كبير، حيث أكّد مسؤولو المجلس أن خير الله محسوب على عمر سليمان ولا يتمتع بدعم قوي داخل الجيش، وأنه دخل السباق دون اتفاق مع طنطاوي، وبالمثل فإنهم أشاروا إلى أن شفيق كان في القوات الجوية، وأن علاقته ضعيفة مع طنطاوي وكبار ضباط المجلس العسكري رغم أنه خدم لفترة قصيرة رئيس وزراء خلال المرحلة الانتقالية بعد الإطاحة بمبارك مباشرة.

 

في السياق ذاته أخبر ضباط المجلس العسكري قيادات الإخوان أن المجلس يتوقع انتخاب وزير الخارجية والأمين العام الأسبق للجامعة العربية عمرو موسى للمقعد الرئاسي، وأن الجيش يتفق مع الإخوان أن موسى سيكون أنسب الأشخاص لشغل منصب الرئاسة البروتوكولي في ظل نظام برلماني، خاصة أن الرئيس الجديد سيكون له سلطة اسمية فقط على الشؤون العسكرية والأمنية وكذلك السياسة الخارجية، وهو ما لم يمانع فيه موسى الذي لم يجد غضاضة أيضا وقتها في العمل مع الإخوان بحكم ارتباطه السابق بالجماعة خلال سنوات دراسته بالجامعة.

 

وكما تُشير المصادر الأميركية فإن الاستطلاعات التي أجرتها جماعة الإخوان حتى منتصف فبراير/شباط أشارت إلى حصول عمرو موسى على قُرابة 40% من الأصوات على المستوى الوطني، مع حلول شفيق في المركز الثاني بنسبة 10%، فيما أشارت الاستطلاعات نفسها إلى أن الإخوان والسلفيين كانوا في طريقهم لحصد قرابة 75% من مقاعد مجلس الشيوخ.

 

 

عانت تغطيات سيدني بلومنتال من فجوة واضحة ومفاجئة في الفترة بين مارس/آذار ويونيو/حزيران 2012، أو لعل الرسائل الخاصة بتلك الفترة لم يُفرَج عنها بعد أو حُجِبت لسبب ما، لكن الإشارات الواردة في الرسائل اللاحقة تخبرنا بوضوح أن التوترات فرضت نفسها على مائدة العلاقات الحساسة بين الجيش والإخوان منذ ذلك التوقيت، خاصة مع بداية انعقاد جلسات البرلمان، وقيام نواب الإخوان والنور بتوجيه انتقادات لإدارة الجيش للمرحلة الانتقالية تسبّبت في إثارة حفيظة المجلس العسكري في أكثر من مناسبة، إلى درجة دفع المجلس للتلويح بحل البرلمان لأول مرة في مارس/آذار، وهي الخطوة التي أقنعت الإخوان على الأرجح بالتخلي عن وعدهم بعدم الترشُّح للرئاسة خوفا من أن تجد الجماعة نفسها خارج المشهد حال أقدم الجيش على تنفيذه تهديده بحل المجالس المنتخبة.

 

تنقلنا رسائل بلومنتال التالية مباشرة إلى كواليس الانتخابات الرئاسية، وكانت البداية مع رسالة بتاريخ 14 يونيو/حزيران حملت عنوان "انقلاب"، وتضمّنت إشارة إلى اجتماع سري بين المجلس العسكري وقيادات الإخوان أُبلِغت خلاله الجماعة أن المحكمة الدستورية تستعد لإصدار حكم ببطلان اللوائح المنظمة للانتخابات البرلمانية، بما يعني حل مجلس النواب الذي يسيطر عليه الإخوان. وبالتزامن مع ذلك، أعاق قرار آخر من المحكمة محاولات حزب الحرية والعدالة سن قانون لمنع الجنرال السابق أحمد شفيق من خوض جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية ضد مرشح الإخوان محمد مرسي.

 

ووفقا للمصادر الأميركية فإن مسؤولي الإخوان غضبوا بشدة من هذا القرار، لكن مصادر مقربة من المجلس العسكري أخبرتهم أن محاولات مجلس النواب استبعاد شفيق، والطبيعة العدوانية المتزايدة لحملة مرسي، أثارت مخاوف طنطاوي بشدة تجاه قدرة الإخوان والتزامهم بحماية ميزانية الجيش ووضعه بشكل عام عقب الانتقال إلى الحكم المدني، وأكّدت المصادر أن المجلس العسكري كان مستعدا لمواجهة أي احتجاجات من مؤيدي الإخوان والنور وحتى من الجماعات العلمانية التي تخشى تمديد الحكم العسكري، وأن جميع وحدات الأمن المصرية بما في ذلك القوات الخاصة والشرطة العسكرية والمخابرات قد وُضعت على أهبة الاستعداد لمواجهة أي اضطرابات.


وعلى الرغم من سيطرة الإحباط على الإخوان بسبب هذه التطورات؛ فقد كانوا مقتنعين أن بمقدورهم الفوز في أي انتخابات جديدة ما لم يقرر الجيش التلاعب بالنتائج، لذا حرصت الجماعة على توصيل رسالة إلى المجلس بأنها لن تسكت على أي محاولات للتلاعب بالانتخابات القادمة، في الوقت الذي صرفت فيه جهودها للتركيز على جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية في ظل تفاؤل حذر باقتراب مرسي من حسم المقعد الرئاسي بعدما تمكّن من تسوية خلافاته الشخصية طويلة الأمد مع حزب النور، جنبا إلى جنب مع نجاحه في استقطاب شريحة كبيرة من التيارات الشبابية والناخبين العلمانيين القلقين من إمكانية فوز شفيق.

 

في تلك الفترة كان مرشد الإخوان محمد بديع قد بدأ يقتنع أن التحركات المتسرعة نسبيا للإخوان وحزب الحرية والعدالة هي التي دفعت طنطاوي للتحرُّك لحل البرلمان وإصدار الإعلان الدستوري المُكمِّل الذي قام بتقييد صلاحيات رئيس الجمهورية، وعلى الرغم من ذلك فإنه ظل مقتنعا أن طنطاوي والجيش جادان في تسليم السلطة طالما سيُحافَظ على وضعهم في النظام الجديد، وأن الجيش بشكل عام لا يمانع من العمل في ظل حكومة إسلامية بالنظر إلى أن استطلاعات الإخوان أشارت إلى أن 70% من قوات الجيش صوّتوا لصالح مرسي، على الرغم من أن منافسه أحمد شفيق قائد سابق في القوات الجوية.

 

تكشف الإحاطة الأميركية التالية بتاريخ 24 يونيو/حزيران أسرار الساعات الأخيرة قبل إعلان فوز مرسي الانتخابات الرئاسية، مُشيرة إلى أن اجتماعا عاجلا عُقد بين المسؤولين في جماعة الإخوان وضباط في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أُبلِغ خلاله الإخوان أن لجنة الانتخابات تستعد لإعلان فوز محمد مرسي بالانتخابات الرئاسية، على أن تلتزم الجماعة بتعهُّداتها بعدم المساس بوضع الجيش في الحكومة الجديدة، وأن تقبل الجماعة أن المجلس العسكري سيحتفظ بقدر من السلطة لحين انتخاب البرلمان الجديد ووضع الدستور، وقد أخبر المسؤولون العسكريون قادة الإخوان أن المشير طنطاوي لم يكن مُستاء من فوز مرسي نظرا لعلاقته الشخصية السيئة بأحمد شفيق وتاريخ المنافسة بينه وبين الفريق المتقاعد في ظل نظام الرئيس المخلوع مبارك.[1] [2] [3]

من جانبهم كان الإخوان سعداء جدا بهذا الإعلان، وكما تُشير المصادر فإن مفاوضي الجماعة تلقّوا تعليمات من المرشد العام بعدم الدخول في جدال حول صلاحيات الجيش في هذه الفترة، حيث اقتنع قيادات الإخوان أن الزخم السياسي بعد تنصيب الرئيس سيسمح لهم بممارسة ضغط فعال لإجبار الجيش على التراجع، وبدلا من ذلك وافق الإخوان على مطالبات المجلس العسكري بالتنسيق الاستباقي معهم بشأن الملفات الأكثر حساسية خاصة تلك المتعلقة بسياسة البلاد تجاه إسرائيل، حيث أكّد الجيش رغبته في السير على السياسات نفسها المستمرة منذ عام 2011، والمُتمثِّلة في الحفاظ على معاهدة السلام مع الحد من التعاون الأمني والنشاط المشترك، وكذلك ملف التعامل مع الولايات المتحدة والدول الغربية وحتمية خلق بيئة صديقة للشركات والأعمال، وقد أكّد مسؤولو الإخوان للجيش أن مرسي ملتزم بتأسيس نظام مصرفي إسلامي غربي مزدوج يراعي مصالح الشركات الغربية، مؤكّدين أن مناخ الأعمال في مصر سيكون أقل تقييدا بكثير من المناخ الذي تعمل فيه الشركات الغربية داخل المملكة العربية السعودية.

 

تُسلِّط الوثيقة التالية بتاريخ 14 يوليو/تموز الضوء على وقائع الأيام الأولى لمرسي في القصر الرئاسي، ووفقا لما نقلته مصادر "حساسة"، بحسب وصف الوثيقة، فإن قيام مرسي بالدعوة لإعادة عقد البرلمان المنحل لحين عقد الانتخابات الجديدة قد فاجأت المجلس العسكري، لكنّ طنطاوي ومستشاريه اضطروا للتغاضي عن هذه الخطوة طالما أن البرلمان لن يسن أي تشريعات تمس سلطة الجيش أو صلاحيته أو مكانته داخل المجتمع والنظام السياسي.


وفيما يُعَدُّ مفاجأة كبرى؛ نقلت المصادر الأميركية أن هناك إحباطا مبكرا وواضحا من قِبَل مرشد الإخوان محمد بديع ورئيس البرلمان سعد الكتاتني تجاه سياسات محمد مرسي المبكرة، حيث رأوا أنه يسعى بوضوح لجعل الرئيس هو الحاكم الفعلي للدولة، في تناقض مع الإستراتيجية المتفق عليها سلفا داخل الجماعة بالتحوُّل إلى النظام البرلماني، ومنح معظم السلطة للبرلمان ورئيس الوزراء، ووفقا للمصادر ذاتها فإن الجيش كان يُراقب باهتمام هذا الصراع المكتوم ويتوقع أنه سيصبح أكثر سخونة مع بدء أعمال وضع الدستور.

 

بالتزامن مع ذلك، نقلت المصادر أن بديع شعر بالقلق أيضا تجاه العلاقة الإشكالية لمرسي مع قادة السعودية، الداعم الرئيس للتيار السلفي في مصر، ورأى الإخوان في تلك الفترة أن الحفاظ على علاقة جيدة مع السعودية مهم لسببين: أولا من أجل الحفاظ على التحالف القائم بين الإخوان وحزب النور، وثانيا من أجل الحفاظ على استمرار الدعم السعودي اللازم لمواجهة العجز الكبير في احتياطات البلاد من النقد الأجنبي، وهي أمور رأى الإخوان أنها ستصبح على المحك بسبب العلاقات غير المستقرة لمرسي مع السلفيين.

يتبع.. الجزء الثالث والأخير (مرسي والسيسي.. الطريق إلى المذبحة)

المصدر : الجزيرة
أقرأ ايضاّ

الرواية الأميركية السرية للثورة المصرية.. قراءة في رسائل هيلاري كلينتون (1)









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق