الجمعة، 15 يناير 2021

قراءة في كتاب هروبي إلى الحرية

قراءة في  كتاب هروبي إلى الحرية 



إسم الكتاب:بعنوان:"هروبي إلى الحرية"
إسم الكاتب: علي عزت بيغوفيتش حسب النطق العربي
 صدر لأول مرة باللغة البوسنية عام 1999 بعنوان: moj bijeg u slobodu: bilješke iz zatvora 1983-1988 أو "هروبي إلى الحرية: أوراق السجن (1983-1988)".
نبذة
 تناول الكاتب في كتابه هروبي إلى الحرية ماحل به في الفترة التي كان يقبع فيها في سجن فوتشا في الفترة ما بين (1983 - 1988)، وما تعرض له في عهد جوزيف بروز تيتو، حيث مكث في سجنه أعوام طويلة، وكان فيها يخلد إلى أفكاره ويناجي خواطره ويسجلها في ظروف صعبة، ثم جمعها في كتابه هروبي إلى الحرية، الذي يعبر فيه عن طموحاته وآماله بطريقة لا تدخل في عمق الأحداث الجارية، ويفصح فيها عن تطلعات شعب البوشناق المسلم وشعوب البوسنة الأخرى، جمع علي عزت في كتابه خلاصة الخلاصات لكل ما يجب التفكير فيه أو يستحيل أن يفكر فيه، يتضمن الكتاب حشد كبير من الأفكار والتأملات والاعتقادات في موضوعات منفصلة، تحدث عن أن الأدب هو الحرية، وعن الحياة والناس والحرية، وعن الدين والأخلاق، ويبدي ملاحظات سياسية، وعن نظرية الطريق الثالث التي يضيفها المؤلف إلى كتابه الإسلام بين الشرق والغرب، وعن بعض الحقائق حول الشيوعية والنازية التي لا يجوز نسيانها، وعن ملاحظات هامة في التيارات الإسلامية والمسلمين، ويلحق بالكتاب رسائل وصلت إليه من أولاده في أثناء سجنه تمثل هروبه العاطفي وظروفه وأسرته وحريته اللامحدودة وهو في السجن


مقدمــــــة

هذا الذي (ربما) سيقرؤه القارئ كان هروبي إلى الحرية. ومن الطبيعي، ومع أسفي، لم يكن ذلك هروباً حقيقياً، وكنت أودُّ لو كان كذلك. الأمر هنا يتعلق بهروب معين، كان ممكناً في سجن فوتشا ذي الجدران العالية، والقضبان الفولاذية - وهو هروب الروح والفكر. ولو أتيح لي فعلاً الهرب لأعطيت الأولوية للهروب الجسدي قبل هذا الثاني.

وأفترض بأنه كان بإمكان قرائي أن يستمعوا برضا إلى قصة مثيرة عن هرب أحد السجناء من سجن محاط بالحراسة القوية جيداً على قراءة أفكاري وتعليقاتي، على مواضيع في السياسة والفلسفة.

لم أستطع الكلام، ولكني استطعت التفكير، وقررت أن أستثمر هذه الإمكانية حتى النهاية. وأدرت منذ البداية بعض الحوارات داخل ذاتي عن كل شيء، وكل ما يخطر على البال. وعلقت بذهني على الكتب المقروءة والأحداث في الخارج، وبدأت بعدها بتدوين بعض الأشياء استراقاً في البداية، ثم تشجعت تماماً، جلست وقرأت وكتبت. وهكذا تجمع لدي ثلاثة عشر دفتراً صغيراً، من القطع الذي يسميه الفنيون (أ - 5/A - 5)، مكتوبة بخط دقيق، وغير مقروءة قصداً، حتى إن طابعتي (ميرسادا) تعبت كثيراً وهي تقوم بنسخها. وهذه مناسبة لكي أشكرها على الصبر في فك رموز شيفرتي للكلمات الخطرة مثل (الدين، الإسلام، الشيوعية، الحرية، الديموقراطية، السلطة) وما شابه، تمَّ استبدالها في الملاحظات بكلمات أخرى كنت أنا وحدي من يعرفها، وأصبحت حتى بالنسبة لي خلال الأعوام التي خلت مفهومة بصعوبة وغريبة.

لم أكتب شيئاً، ولم يكن بمقدوري الكتابة طوال عام كامل تقريباً، وانقضى هذا العام بالتحريات والمحاكمات والتأقلم. وأعتقد أن أولى الملاحظات بدأت في بداية 1984م، وتواصلت من يوم لآخر لمدة خمسة أعوام. وحملت الأخيرة - كما أرى - الرقم 3676 وتاريخ 30/ 9/ 1988م. كانت تلك أيام ينتظرني فيها ما يقارب الثلاثة عشر عاماً من السجن. وعندما كان الموت هو الأمل الوحيد، أخفيت هذا الأمل بداخلي مثل سر كبير لا يعرفه أحد غيري ولا يستطيعون (هم) تجريدي منه.

ومن هنا، فإن قيمة هذه الأفكار لا تكمن فيها ذاتها، وإنما هي - قبلاً - في الظروف التي كتبت فيها. ففي داخل السجن كان هناك هدوء جدران السجن، وفي الخارج نذر الإعصار الذي سيتحول عام 1988م إلى عاصفة تدمر حائط برلين، وتزيح عن المسرح (هوينكر وشاوشيسكو) وتبعثر حلف وارسو، وتزلزل الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا. وشعرت جسدياً كيف يمضي الزمن؛ وكيف تتغير محطاته أمام ناظري!

كان ذلك زمن المراجعات الراديكالية للأفكار والقناعات في خضم التجربة الفاشلة للحكومات الشيوعية في شرق أوربة. وشهد العالم تحولاً فريداً سيغير حياة مئات الملايين من البشر، ويحرف مجرى التاريخ باتجاه آخر. العالم الذي كان ثنائي القطب لفترة طويلة أصبح أحادي القطب. ولا أعرف إن كان ذلك خيراً، لكن ذلك ما حدث! وطوال ما يقارب الألفي يوم، لم يبق إلى جانب صمغ تجليد الكتب إلا هذا الحشد من الأفكار المشتتة. وهي تمثل إلى حد ما، تعليقاً على أحداث مصيرية لإنسان كان ممنوعاً من المشاركة بها، ولكنه امتلك وقتاً كافياً لمتابعتها، وإصدار أحكامه الصحيحة أو الخاطئة عليها.

إنها تفكيرات بالحرية، الجسدية منها والداخلية، وعن الحياة والمصير، وعن الناس والأحداث، الكتب المقروءة ومؤلفيها، وتفكيرات في الرسائل غير المكتوبة لأبنائي، بكلمات أخرى بكل شيء، وبكل ما يخطر على بال سجين، خلال ألفي يوم وليل طويل. وأثناء كتابة الملاحظات أشرت عليها بالأرقام 1، 2، 3. وأشرت في الأولى إلى أفكار عامة، وخُيِّلَ لي وقتها أنها تتحدث عن الحياة والناس والحرية. وهكذا في غياب الاسم الأفضل عنونتها الآن كما كانت.

وكانت الثانية بعض الحقائق والأفكار التي تخص الآخرين. والتي كان بودي لفت انتباه ابني (بكر) إليها لكي يقرأها ويعرفها. وعندما كنت طليقاً كنت أقوم بذلك دوماً. كان ذلك الفعل عبارة عن نوع من الرسائل غير المكتوبة لولدي.

وأشارت الثالثة إلى كل ما يمكن أن أضيفه إلى كتابي (الإسلام بين الشرق والغرب) لو أني كتبته وقتها. لكي أتذكر الحقائق والأفكار الواردة في هذا الكتاب والتي تتمحور حول فكرة رئيسية - أسميها أنا بسبب أو بدونه - (نظرية الطريق الثالث).

وأثناء الترتيب النهائي للمخطوط، فصلت من الوحدات الأفكار عن الدين والسياسة والشيوعية في فصول خاصة (2، 3، 5) ومن رقم 2 (ملاحظات عن الإسلام)، عن الكتاب ومؤلفاتهم (الفصل 6 + 7). وأضيف الفصل الثامن تعويضياً. وهي أجزاء مما يقارب الألف وخمس مئة رسالة تسلمتها أثناء سجني من أبنائي.

وإذا كان الأدب هو هروبي الثقافي إلى الحرية، فإن هروبي العاطفي كان في تلك الرسائل. لست متأكداً بأن أولادي يعرفون أو أنهم سيعرفون يوماً، ماذا عنت تلك الرسائل بالنسبة لي؟ كنت أشعر في اللحظات التي أقرؤها فيها أنني لست إنساناً حرّاً وحسب، وإنما كأنني إنسان أهداه الله كل خيرات هذه الدنيا. ولذا أخذت حريتي بأن أنشر في الفصل الأخير بعضها. وخُيِّل لي أن بعض كلماتها تتحدث بوضوح عن ذلك الزمان، والظروف، وعن التفكيرات والمناخات، في عائلة سجين سياسي، وطبعاً عن كاتبها.

وعندما بدأت بترتيب المخطوط خلال أكثر من عشرة أعوام كانت نيتي أن أصنع منه نصاً مؤطّراً ومتماسكاً. وللأسف فإني لم أزحزحه عن الترتيب الذي قمت به في السجن (من تلك البيادر - الثلاثة - كما أسميتها في ذلك الوقت). شعرت بأنه لا وقت لدي، ولم يكن بمقدوري صياغة شيء أفضل من المادة المتوافرة. وهكذا أقدم هذا المخطوط إلى القراء في صيغته الأولية، وكما كتب في تلك الأيام. وربما لن يكون ضارّاً أن أتحدث عن بعض التفاصيل التي تتعلق بهذه الملاحظات، لأنها تسجل مناخات السجن.

عندما كنت أملأ دفتراً لم أكن أضعه في خزانتي. وإنما كنت أودعه لدى أحد زملائي السجناء، والذي كان مداناً بسبب جريمة قتل. وهكذا يمكن مصادرة دفتر واحد فقط ذلك الذي أعمل به. أي بمعنى آخر فإن إدارة السجن كانت تقوم بين فينة وأخرى بتفتيش خزائننا باحثة عن (أشياء خطيرة). وكانت الأشياء الخطرة السلاح والمخطوطات. وكانوا يقومون بالتفتيش بالتساوي، إلا أننا نحن أو بعضنا (كنا متساوين كثيراً) وكانوا يفتشون خزانة صديقي القاتل - والفلاح بالأصل - بشكل عابر. وقبل نهاية السجن حمل صديق آخر لي في السجن فاسيلين. (وهو محكوم بالتزييف) العشرات من هذه الملاحظات في علبة شطرنج إلى الخارج. وعندما سلم الأمانة إلى أولادي، رفض أن يتسلم مكافأة نقدية. الناس الذين نسميهم مجرمين، يكون لهم أحياناً شعبية وجاذبية معينة في محيطهم. وسبب ذلك أنهم يعرفون عادة الصداقة ومستعدون للمخاطرة. وبعض من نسميهم الناس (الطيبين) يكونون غالباً مجردين من هذه الفضائل.

قبل التحرير النهائي راجع ابني (بكر) مجمل المخطوط، فأشكره على صبره الكبير، ونصائحه المتعددة، ذات الفائدة الكبيرة.

هذا كل شيء، وبقي لي أن أقول: إن هذه ملاحظات مرتبة داخل كل فصل حسب التسلسل التاريخي.

سراييفو أيلول/ (سبتمبر) 1999م

علي عزت بيجوفيتش


يتوزع الكتاب في ستة فصول، وتم ترتيب الخواطر في كل فصل ترتيبًا زمنيًا، وهي كالتالي:

الفصل الأول: خواطر عن الحياة والناس والحرية
هذا القسم من أبسط الخواطر، وأكثرها مباشرة ووضوحًا، ومنها:
-الشرط الأول لأن يكون المرء إنساناً هو أن يمتلك (أناه)، أن يكون واعياً بها، أن يدافع عنها، بغض النظر عما تعنيه هذه (الأنا). ولهذا أحياناً نحترم ونتابع باهتمام مسار البطل الشرير وما يؤول إليه، إذا كان مُتسقاً مع نفسه ومُستعداً لتحمُّل ما يترتب على مواقفه من نتائج وعواقب.

-لا يختار الحبّ الحقيقي سكنًا له إلا في قلبٍ نبيل، أما القلوب الأنانية فلا تعرف الحب.

الفصل الثاني: عن الدين والأخلاق

بعض الخواطر الواردة فيه:
-“كل دين يبدأ نقيًا، ثم يفسده الناس…”
-إن العلم قد يستبعد الدين، ولكنه يعجز عن أن يحل محلّه.

-معضلة (العقل- الوجود- العقل) ماذا كان أولًا، ماذا كانت البداية، إذا كانت هناك معضلة، هذه المعضلة حُلّت في الإنجيل باسم كل الأديان في العبارة الشهيرة: “في البدء كانت الكلمة”. الإجابة واضحة وغير مبهمة، وأي توضيح سيكون زائدًا عن الحاجة.

الفصل الثالث: خواطر سياسية

تحدثت عن أنظمة، وأحزاب، وأيديولوجيات، وشعوب مختلفة وسياساتها، منها:

-في السياسة ليس المهم ما هو كائن بالفعل، ما هو موجود، وإنما المهم هو مايعتقد الناس أنه موجود.

-عملية التكيُّف هي أكبر سلب لـ”ذات” الإنسان. إنها بمثابة إكراه المرء على أن يريد ما يجب عليه أن يريده، أو أن يقبل رأي وذوق الآخرين على أنه رأيه وذوقه هو، وطالما أنك تُعبر عن رأي ما وأنت على وعيّ أنه رأي شخص أخر، وأنه مفروض عليك، فما يزال فيك أمل. إنّ الهيمنة تكون في أكمل صورها عندما لا تلاحظ أن هذه هي آراء الآخرين وأذواقهم، أو عندما  تبدأ في خداع نفسك بأنها آراؤك وأذواقك أنت.

الفصل الرابع: على هامش كتاب الإسلام بين الشرق والغرب

يقول عنها أنها خواطر وأفكار كان سيضيفها لكتابه الشهير (الإسلام بين الشرق والغرب) لو أنه كتبه في ذلك الوقت، وهو يدعو لطريق وسط يقع بين الرؤيتين المختلفتين للعالم (المادية والدينية)، يتحدث عن ثنائية الروح والجسد، الفلسفة والتصوف، والفرق بين الحضارة والثقافة.
من هذه الخواطر:
-الفرد في المجتمع الطوباوي ليس إنسانًا، وإنّما مسخ إنساني كما يظهر في أعمال أورويل وهكسلي.
-ما الثقافة إذا لم تكن محاولة ترويض هذا الحيوان الذي يُسمّى بالإنسان؟!

الفصل الخامس: الشيوعية والنازية؛ بعض الحقائق التي لا ينبغي نسيانها

وهنا يعرض أحداثًا تاريخية، وتحليلًا  للشيوعية والنازية بطريقة موضوعية، يكتب عن الاتحاد السوفييتي، ويعلّق على الأحداث التي لم يستطع المشاركة فيها. بعض الخواطر:

-الاشتراكية تفاؤل بالإكراه.
-فيما يتعلق بحظر الكتب، ليست المشكلة الأكبر هي وجود قائمة بالكتب المحظورة، فالأسوأ من ذلك عندما لاتوجد مثل هذه القائمة، ومن ثم تُصبح جميع الكُتب -عدا تلك التى تُجاز رسمياً- إمَّا أنَّها مشبوهة أو محظورة، أي إنه توجد قائمة بالكتب المسموح بها بدلاً من أن توجد قائمة بالكتب المحظورة. إنها النزعة التدميرية في أقصى صورها التي مارسها الشيوعيون الصينيون فى الفترة ما بين 1966م و 1976م.

الفصل السادس: أفكار حول  الإسلام، ملاحظات تاريخية وغيرها

تضمن خواطر عن الشعوب الإسلامية وماضيها، عن التيارات المتنوعة في التاريخ الإسلامي، بعض الأحكام والتشريعات، عن الثقافة والحضارة الإسلامية. 

من هذه الخواطر:

-لقد بقينا نتحدث عن الهزائم والخسائر التي ألحقها بنا الآخرون، وحان الوقت لنتحدث عن الهزائم والخسائر التي ألحقناها نحن بأنفسنا، وستكون هذه بداية رُشدنا.

-علينا أن نحذر من أن يكتب تاريخنا غيرنا، يقول الكاتب الجزائري عبد الرحمن محداد: “عندما لا يكتب شعب تاريخَه الخاص، سيكتبه الآخرون نيابة عنه، ولكن بطريقتهم الخاصة”.

-لا بد من تذكير الحداثيين دائمًا بأهمية الدين، وتذكير المحافظين بأهمية العلم، الإنكار المتبادل هنا هو مجرد وهم.

– يُذكرني تباهينا بعدد المسلمين الضخم، والذي يزداد بسرعة كبيرة، يذكرني برجل يستعرض بدانته وسمنته، مسرورًا بما يكتسبه من كيلو جرامات كثيرة. متى سنبدأ في التركيز على روحنا وعقلنا وإنجازاتنا؟ فقد يضيف إلى الإنسانية شخص نحيل البدن عظيم الروح. أين قوتنا وعلمنا وآدابنا؟ أين اكتشافاتنا ومشاركتنا في الرأي العام؟

بالإضافة لملحق “الرسائل”؛ وهي مجموعة من المقاطع التي انتقاها من رسائل أبنائه الثلاثة إليه في فترة سجنه،  وفيها صورة دقيقة عن الزمن والأحداث والأفكار والمشاعر التي  أحاطت بعائلة سجين سياسي، كما أظهرت الشيء البسيط عن أصحابها، وقد حملت رسائل أبنائه (بكر وليلى وسابينا) كل العزاء والسلوى إليه، وأعانته على قسوة الظروف ومتاعبه في السجن، فيقول معلّقًا: “إن كان تعاطي الأدب هو هروبي إلى الحرية، فقد كانت هذه الرسائل هي هروبي الوجداني… عندما كنت أقرأ هذه الرسائل لم أكن أشعر أنني رجل حرٌ فحسب، بل كنتُ أشعر كذلك أنني شخصٌ قد حباه الله كنوز هذا العالم جميعًا”.

قراءة محمد أبوالعطا

هذا هو هروبي إلى الحرية. وللأسف – بالطبع – لم يكن هروبًا حقيقيًا، ولكن كنت أتمنى لو كان كذلك. كان هذا هو الهروب الوحيد المتاح من سجن فوتشا بجدرانه العالية وقُضبانه الحديدية، هروب الروح والفكر. ولو كان بإمكاني أن أهرب لاخترت الهروب الحقيقي، الهروب الجسدي.


بهذه الكلمات افتتح علي عزت بيجوفيتش كتابه «هروبي إلى الحرية»، والكتاب عبارة عن خواطر كتبها وسجّلها في سجنه ثم أعاد ترتيبها حسب موضوعها وقال عنها «ومن ثَمّ فقيمة هذه الأفكار لا تكمن في الأفكار ذاتها، ولكن بالأحرى في الظروف التي كُتبت فيها». (1)


تجربتي

عادتي عندما أقرأ كتابًا ما، أن أقوم بتظليل أهم ما أجده في الكتاب، ثم أُدوّن أرقام الصفحات المهمة في بداية الكتاب، وأحيانًا أحاولُ الجمعَ بين عدة فقراتٍ عن طريق إيجاد رابط يربطها مُعَنْوِنًا تلك الفقرات بالفكرة الرئيسية فيها، وأحيانًا أخرى أنقل ما أعجبني في كرّاسة خاصة.


وعندما شَرَعْتُ في قراءة هذا الكتاب بدأت بكتابة أرقام الصفحات التي تحتوي على جزئيات مهمة وبعد تجاوُزِي لعدة صفحات من مقدمة المُراجِع وجدتُني وقد كتبتُ الآتي «13،14،15،16،17،18»، فكتبت في الصفحات الأولى من الكتاب أن مقدمة المُراجِع مهمة جدًا.


ثم انتقلت إلى قراءة خواطر بيجوفيتش نفسه، فلم تَخْلُ صفحة واحدة من التظليل والعلامات فأيقَنتُ أنه سينتهي بي الحال كاتبًا أرقام الصفحات كلها، ولم أقدر على تدوين الخواطر في الكرّاسة الخاصة؛ فقد اتضح أنب سأنقل ما يزيد عن ثُلثَي الكتاب، فاكتفيتُ بالتظليل والاستمتاع بالكتاب الذي لا تخلو منه صفحة واحدة من الإمتاع العقلي والروحي.


كثيرًا ما كنتُ أتوقف أثناء القراءة وأفكّر كيف استطاع بيجوفيتش – رحمه الله – أن يتصيّد هذه الخواطر الدائرة في عقله ويُخرجها مكتوبة معبّرًا عنها كأحسن ما يكون التعبير، بعبارات مُقْتَضَبة أحيانًا وأحيانًا أخرى يتناولها بالشرح لتوضيح وجهة نظره، هل بسبب فائض الزمان في السجن كما يقول(2)؟ وقدرته على التفكير في جوهر الأمور(3)؟ أم لبلاغة لسانه وكثرة اطّلاعه؟ أو بسبب كثرة تجاربه وحكمته وخبرته في الحياة؟


العجيب أن خواطره تلك تحرّك بداخلي شيئًا ما لا أدري ما هو، هل هذه مشاعر وعواطف نابعة من القلب لا يمكنني تحديد ماهيتها؟ «فالمشاعر لا عقلانية بحد وصفه» (4) أم هو استمتاعٌ عقليٌ بما يُقال؟ أم أنه يفتّش بداخلي عن شيء ما؟ هل استطاع أن ينطق عما بداخلي كما استطاع المتنبي أن ينطق عما في نفوس الناس؟


لا أدرك السبب على وجه التحديد، إلا أن ما أستطيع الجزم به أن شعورًا بالسعادة كان يتملّكُني أثناء القراءة.


بل الأعجب من ذلك أنه مع القراءة والاندماج في جَوّ الكتاب يَنسى المرءُ أن هذه الخواطر مكتوبة خلف القضبان، مما أثار تساؤلاتٍ عديدة، كيف له وهو خلف تلك الأسوار العالية أن يفكّر بهذا المستوى من العمق في الحياة والدين والأخلاق والسياسة والفن والفلسفة والأدب والحرية والثقافة والحضارة والتاريخ، بل يعلّق على تفاصيلها المختلفة، وعندما يتحدث عن موضوع يُنْبِئ عن فهم وخبرة بالموضوع وكأنه أحاط به تمامًا، ويتناول أهم الأحداث السياسية والاجتماعية – التي وقعت أثناء سجنه – بالنقد والتعليق، بل يعلق على كتبٍ قرأها قبل فترة اعتقاله وأثناءها، إن مثلَ هذه الأفعال لا تصدر عن نفسٍ حبيسة أبدًا.


لقد تمكّن من الهروب بالفعل، ولكنه هروب الروح والفكر كما قال

عند انتهائي من قراءته كان لا بد من إعادة تصنيف هذه الخواطر حسب أهميتها بالنسبة لي، فهناك في المرتبة العليا الخواطر التي غَيّبَت وَعيَكَ وأصابتك بالذهول ولمست روحكَ ويجب أن تعيشها وتكررها على نفسك مرارًا حتى تُحفر بداخلك وتنطبع على فكرك وسُلُوكِكَ، ثم هناك الخواطر التي نطقت وعبّرت عما لا تستطيع التعبير عنه، وتحتها الخواطر التي أثارت بداخلك سؤالاً وتحتاج بعدها إلى التفتيش بداخلك وخارجك حتى تصل إلى استقرار، وهناك بعض الخواطر الخاصة بفَهْمِه للواقع والسّياسة والديمقراطية والاتحاد السوفيتي ونظرته لِمَجْرَى الأمور وكيف تُدار العملية السياسية، وهناك أيضًا ما هو خاص بأحداث سياسية وتاريخية مهمة، وهكذا، في رأيي أن لكل قارئ ترتيبه الخاص حسبما تفاعلت دَوَاخِلُه مع تلك الخواطر؛ فكما قال «القراءة عملٌ إبداعي تتوقف على القارئ، ذلك أن القارئ يقدّم تأويلَه الخاص لما يقرأه. فإن عشرة قراء لرواية دوستويفسكي «الإخوة كرامازوف» يعني عشر شخصيات مختلفة لفيودور كرامازوف، كما يعني الكثير من الآراء والخواطر غير المتوقَّعة والذاتية تمامًا، والتي تختلف من قارئٍ إلى آخر».(5)


في آخر فصلٍ من الكتاب أَوْرَدَ بيجوفيتش بعض الرسائل المُنْتَقاة من رسائل أولاده التي بلغت 1500 رسالة، تُظهر هذه الرسائل بعضًا من الشعور الإنساني بين العائلة، ومدى تألّمهم لغياب الوالد. فَبِخِلاف باقي الفصول، عند قراءة هذا الفصل أحسستُ أن بيجوفيتش فعلاً مسجون.


إنه ليس بالكتاب الذي يُقرأ ثم يُترك بين غيرِه من الكتب على رفّ المكتبة مُكْتَسيًا بالغبار منتظرًا من يَـبـــرُّ بِهِ ويسأل عنه، بالتأكيد ستختلف نظرة المرء للحياة والدين والفن والسياسة والتاريخ والأخلاق، ستختلف تلك النظرات بعد قراءة الكتاب، ولن تَخرجَ منه كما دخلتَ، وقد قال أورهان باموق «قرأت كتابًا يومًا ما، فتغيرت حياتي كلّها»، ربما يكون هذا الكتاب.


رغم ثِقَل محتوى الكتاب وأهميته إلا أني لم أنقل منه هنا كثيرًا فلستُ أهلاً للتعليق على شيء مما ورد فيه، ولو تناولت أي شيء منه لكان اختصارًا ورَبْطـًا لبعض الخواطر ببعض، كما أنه من الظلم للكاتب والكتاب أن يُختزل ذلك الكنزُ في سطور مختصَرة فاقدة لروح الكتاب، لذلك كانت هذه الدعوة لقراءة الكتاب.


لو كان بإمكاني أن ألخّص الكتاب في كلمة لقُلتُ إن بيجوفيتش «إنسان».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق