العابرون عبر التاريخ
سيلين محمد سارى
يخطئ من يظن أن التاريخ مجرد حكايات من بقايا الماضي، بل هو ماضٍ حي لا يزال يتنفس، يحكي لنا عما عاشه أسلافنا من هزائم وانتصارات، ولكن للأسف نحن لا نستمع ولا نقرأ ولا نتعلم.
ونحن -كأمة مسلمة- تاريخنا للأسف يعاد عشرات المرات، بنفس أخطائنا ونفس أعدائنا وتقريبا بنفس وسيلة النجاة؛ إنهم العابرون.
نعم العابرون الذين يسخرهم الله ليرفع بهم راية الدين ويحافظ على وجود دولة الاسلام، بعد أن يضيّعها طمع الطامعين وذل المبتعدين عن الدين.
الأندلس
ذلك الفردوس المفقود الذي استمر لأكثر من ثمانمئة سنة من تاريخ الاسلام.
فردوس أضاعه أمراء ضعاف طامعون تصارعوا فيما بينهم؛ فاستهان بهم عدوهم وأذلهم ليأتي العابرون وينقذونهم.
وبعد أن استعان بعض أمراء الأندلس بالصليبيين ضد بعضهم كانت النتيجة سقوط الامارات تباعًا وحصار بعضها، كما فعل ألفونسو السادس ملك قشتالة بحصاره إشبيلية، والذي أرسل رسالة استهزاء بأميرها المعتمد بن عباد يقول له “قد آذاني الذباب في بلدكم؛ فأرسل لي مروحة أروّح بها عن نفسي”.
فرد المعتمد بسطر واحد.. كتب له: “والله لإن لم ترجع؛ لأروّحنّ لك بمروحة من المرابطين”؛ فعاد ألفونسو مسرعًا لبلاده، إذ كان يعلم جيدًا مَن هم المرابطون، إنهم جنود مجاهدون ليس لهم في متاع الدنيا مأرب ولا مطلب.
وأرسل المعتمد رسالة إلى يوسف بن تاشفين يطلب العون، ويلبي ابن تاشفين ويعبر بسفنه مضيق جبل طارق بـ30 ألف مقاتل تاقت نفوسهم للجهاد؛ فكانت موقعة “الزلاقة” من أشهر المواقع الاسلامية، ويُهزم الصليبيون الذين أذلوا أمراء الأندلس، وظلوا لأكثر من 70 سنة يأخذون منهم الجزية.
المرابطون بقيادة ابن تاشفين أحد العابرين في تاريخنا، لكنهم لم يكونوا الأوائل ولن يكونوا الأواخر؛ فالتاريخ مليء بأمثالهم.
السلاجقة: عابر آخر
على بعد آلاف الأميال وبعد مرور سنوات عدة، في مكان غير المكان، يظهر عابر جديد..
فبعد أن دبّ الضعف بأوصال الدولة العباسية، استعبدهم الشيعة البويهيون بعد أن أسسوا دولتهم وسيطروا على قصر الحكم ببغداد، وعندما خشي الخليفة العباسي القائم بأمر الله على حياته أرسل مستنصرًا بأرطغرل بك السلجوقي.
ولبى السلجوقي نداء الخليفة ودخل بغداد منتصرًا على البساسيري قائد البويهيين، وهكذا عبر السلاجقة لإنقاذ الدولة العباسية والسنة، وكان لهم فضل كبير في رفع راية الإسلام ومد عمر الخلافة أكثر من قرنين من الزمان.
فإن تفتّت الأندلس وقسِّمت أرضه إلى اثنتين وعشرين إمارة بين أمراء ضعاف عرفهو التاريخ بـ”ملوك الطوائف”، يدفعون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون؛ فهذا حالنا الآن وبنفس العدد تقريبًا.
قد تختلف الأسماء والأماكن والتواريخ، ولكن يظل الجالسون على عروشنا تجمعهم شهوة الحكم وحب العرش، ولو كان الطريق إليه دم القريب والغريب.
ربما ما وصلنا له من ضعف تجاوز ما وصل له أسلافنا، فها نحن نرى بلادنا تُنهب وأبناءنا يُقتلون وديننا يهان، ونحن نقف بلا حول ولا قوة.
أتى الربيع العربي فدفع كثير من الشباب حياتهم ثمنًا له، دفع آخرون أعمارهم خلف قضبان المعتقلات، ولم نستطع التخلص من قبضة الطغاة.
سيخرج علينا مدعي الوطنية والثورية لينظّروا لنا ويخبرونا كم ضحوا بتركهم الوطن
تأتي ذكرى يناير على استحياء؛ فلم نسمع من ينادي بالثورة مرة أخرى وإحياء هذا الأمل من جديد، وكأنها صارت ذكرى لوفاة أحدهم!
سيحتفلون في ذكراه بأبيات من الشعر وبعض اللقاءات وربما أغانٍ.
سيخرج علينا مدعي الوطنية والثورية لينظّروا لنا ويخبرونا كم ضحوا بتركهم وطنهم، وأن الثورة لا تزال مستمرة، لكن على صفحات السوشيال وقنواتهم.
ولكن أيها السادة! ماذا عن الشعب الذي لم يكن له حسن طالعكم ولم يستطع مغادرة أرض الوطن؟
ماذا عن الأطفال الذين اغتصبت طفولتهم ما بين شواهد القبور التي يرقد تحتها أحبتهم وأهلهم وأبواب المعتقلات التي تنفيهم من أحضان أمهاتهم وآبائهم؟
ماذا عن هؤلاء الأطفال الذين تربوا كاللاجئين في وطنهم؛ فلا دار تأويهم بعد أن هدمت منازلهم، ولا تعليم يغذي عقولهم بعد أن حُرم كثير منهم بسبب رفع تكاليفه على هؤلاء الذين اقتات الجوع والمرض على أجسادهم الضعيفة؟
ماذا عن الشباب الذين اعتُقلوا واختفوا قسرًا وضاعت أحلامهم؟
ماذا عن النساء اللاتي أصبحن يصرخن على “الميديا” جوعًا وحرمانًا من أبسط حقوقهن؟
ماذا عن الوطن الذي يُباع؟
فلتعلموا أنكم خذلتموهم أكثر مما خذلهم الانقلابيون، وأن هذا الشعب قد كفر بكم مثلما كفر بالانقلابين؛ فبعد أن كنتم ثوارًا لا تقبلون الضيم سقطت الأقنعة؛ فوجدنا معارضين يتسولون من يمد لهم يدًا بالحوار.
بعد أن كنتم تطالبون بإسقاط النظام ظهر المطالبون بإصلاح النظام.
يا سادة! التاريخ يخبرنا أن من يقبلون نصف الحكم أو جزءًا من الحكم يخسرون كل الحكم؛ فالمبادئ لا تتجزأ، وكذلك الاوطان.
أنصاف الحلول وأرباعها مقدمة طبيعية لزوال الحكم والمكانة.
فهل بعدما زال الحكم عندنا وصرنا شبه دولة وزالت المكانة وسقطت الأقنعة أصبحنا نقف عاجزين عن نصرة ثورتنا أو أحياء ديننا أو حتى التوحد في وجه عدو لا يرحم؛ فهل سيأتي عابر جديد يعبر بنا من هذا الذل والتفتت لنستعيد جميعًا مكانتنا من جديد؟
هل يعيد التاريخ نفسه معنا؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق