الاثنين، 25 يناير 2021

الرواية الأميركية السرية للثورة المصرية.. قراءة في رسائل هيلاري كلينتون (1)

الرواية الأميركية السرية للثورة المصرية.. قراءة في رسائل هيلاري كلينتون (1)



عارف عبد البصير
25/1/2021

غالبا ما تُدار ألعاب السلطة خلف الأبواب المغلقة، ولم تكن ثورة 25 (يناير/كانون الثاني) المصرية والأحداث التي تلتها استثناء من ذلك. وفي حين تُشير الوقائع الظاهرة إلى أن المناورات العسكرية السلطوية تسبَّبت في إجهاض مطالب المصريين الثورية بالحرية والعدل؛ تبقى معظم التفاصيل والوقائع التي شهدتها كواليس السلطة طوال هذه الفترة مَخفية وراء سياج ضخم من السرية، رغم أنها لا تزال تؤثر في حياة المصريين جميعا إلى اليوم.

 

في هذا السياق، تبرز أهمية الرسائل الإلكترونية التي نُشِرت قبل أشهر قليلة من بريد هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية التي تولّت منصبها بين (يناير/كانون الثاني) عام 2009 وفبراير/شباط 2013، إذ بحكم الدور المُهيمن الذي تلعبه الولايات المتحدة عالميا وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص؛ تُعَدُّ كلينتون شاهدا مهما، وفاعلا مؤثرا، في مسار الأحداث خلال فترة مفصلية من تاريخ مصر الحديث.

 

تلقّت كلينتون، على مدار عامَيْ 2011 و2012، تحديثات استخباراتية منتظمة حول تطورات الوضع في مصر، بداية من نشوب المظاهرات المناهضة لمبارك وكواليس الإطاحة به، مرورا بالفترة الانتقالية وتفاعلات المجلس العسكري مع جماعة الإخوان المسلمين والقوى السياسية الثورية، وصولا إلى الأشهر السبعة الأولى، المضطربة والحاسمة، من حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، الذي أُطيح به في انقلاب عسكري منتصف عام 2013 بعد مرور أقل من عام على حكمه.

                هيلاري كلينتون والرئيس المصري السابق "محمد مرسي" 

رُفِعَت السرية عن أكثر من 35 ألفا من هذه الرسائل مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي بقرار من إدارة ترامب، وأُتيحت بشكل رسمي بموجب قانون حرية المعلومات الأميركي، ومن خلال البحث يمكن رصد مئات الرسائل المُحمَّلة بالأخبار وتقديرات المواقف والتحليلات الإخبارية والتقارير الاستخباراتية حول الوضع المصري، إلا أن ما يجدر بنا الانتباه إليه بشكل خاص هي الرسائل المنتظمة التي شُورِكت مع هيلاري من قِبَل سيدني بلومنتال، وهو صحافي أميركي عمل سابقا مساعدا للرئيس الأسبق بيل كلينتون، وأحد المقربين من هيلاري بشكل شخصي، خاصة خلال فترة عمله موظفا مرموقا بدوام كامل في مؤسسة كلينتون بين عامَيْ 2009-2013، وهي فترة عمل هيلاري في وزارة الخارجية نفسها.

 

خلال هذه الفترة كتب بلومنتال عشرات الخلاصات من مصادر عامة وخاصة حول تطورات الأوضاع في دول الربيع العربي خاصة في ليبيا ومصر، وقام بمشاركتها مع كلينتون ومساعدها وقتها جيك سوليفان (مَن اختاره الرئيس الأميركي جو بايدن مستشاره القادم للأمن القومي) تحت اسم "إحاطات استخباراتية"، وفيما يتعلق بـ "مصر" تحديدا فقد أشار "سيدني" في إحاطاته إلى أن المعلومات الواردة جاءت نقلا عن مصادر مطلعة ذات مناصب حساسة بمستويات عُليا في هرم السلطة في مصر، مصادر في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وجهاز المخابرات العامة، ومكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، فضلا عن ضباط استخبارات أميركيين وغربيين أشار "بلومنتال" إلى بعضهم بالاسم في رسائله.


ترسم هذه الرسائل مجتمعة صورة شديدة الخصوصية، وربما الدقة، لتطورات الأوضاع في مصر خلال تلك الفترة، صورة تختلف في كثير من تفاصيلها عن القناعات والصور السائدة بين المصريين والعرب وربما معظم المطلعين على أحداث الثورة المصرية عموما، وفي حين لا يمكننا الجزم بشكل قاطع بصحة ما ورد في هذه الرسائل بسبب تعذُّر سماع رواية جميع أطرافها، فإنه يجب قراءتها بعناية شديدة بسبب حساسية ونفوذ الجهات والأشخاص الذين تداولوها، خاصة أن تلك الرسائل تُقدِّم رواية ربما تكون هي الأكثر تفصيلا واكتمالا عن كواليس الأحداث والوقائع المفصلية خلال العامين الأولين للثورة المصرية، وقد قضينا في "ميدان" أياما طويلة في فرز مئات الرسائل وآلاف المعلومات والبيانات وتحديد المهم فيها وتقسيمها زمنيا، وسنوضح في التقارير القادمة (ثلاثة تقارير يُعَدُّ هذا الجزء الأول منها) الرواية الأميركية الخاصة والسرية للثورة المصرية.

 

تحوي رسالة البريد الأولى لـ "بلومنتال" بتاريخ 29 يناير/كانون الثاني 2011 تقييما لمسار التظاهرات المصرية التي بدأت في 25 من الشهر نفسه، وأُشير فيها إلى أن الثورة تتقدّم بسرعة لدرجة التصريح بأن مبارك قد خسر بالفعل، وحُذِّر فيها من التداعيات الوخيمة لقمع الانتفاضة بالقوة على مصالح الولايات المتحدة وقتها.

 

طرحت الرسالة أيضا مجموعة من المقترحات الأميركية لتهدئة الأوضاع، منها إعلان مبارك أنه لن يترشح هو أو نجله في الاستحقاق الرئاسي المقبل، وإبلاغ واشنطن النظام المصري أن جميع المساعدات الأميركية ستكون مشروطة بإجراء انتخابات نزيهة برقابة دولية، وأنه في حال تورط الشرطة وأجهزة الأمن في أي أعمال قمع خلال الفترة الانتقالية فإن إدارة أوباما ستدعو لفرض عقوبات أُممية على مصر.

 

ونوَّهت الرسالة ذاتها إلى أن نجاح الثورة المصرية "يُهدِّد بانهيار جميع المبادرات الأميركية بخصوص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي"، وأن التطورات المصرية ستؤثر سلبا على النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط "من النيل المصري إلى مضيق البوسفور التركي"، مُحذِّرة أن قبضة الولايات المتحدة ستتزعزع حال انتخاب حكومة ديمقراطية في مصر، وهو سيناريو وصفه "بلومنتال" أنه أكثر السيناريوهات تفاؤلا.

                                مشهد من ثورة يناير 2011 

لاحقا، تضمَّنت وثيقة أخرى بتاريخ 31 يناير/كانون الثاني مُلخَّصا لحوار بين "بلومنتال" وكلٍّ من تايلور درامهيلر، ضابط الاستخبارات المرموق ورئيس القسم الأوروبي في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية آنذاك، وبات لانج، الجنرال السابق في الاستخبارات العسكرية الأميركية ومَن وصفته الرسالة بأنه صديق شخصي لـ "عمر سليمان"، رئيس جهاز المخابرات العامة الذي كان مبارك قد عيّنه يوم 29 يناير/كانون الثاني في منصب نائب الرئيس.

 

رصدت الوثيقة الأوضاع الميدانية للثورة في محافظتَيْ الإسكندرية والسويس مؤكدة أنها أكثر سخونة بمراحل من الأوضاع في القاهرة، ومُشيرة إلى أن الجيش يرغب في الحفاظ على نفسه، وأنه لا يريد التورط في صراع دموي، وأن ذلك يعني أن رحيل مبارك "بات مجرد مسألة وقت".

 

في سياق متصل، نوَّهت الوثيقة ذاتها بشكل مفاجئ لوجود توترات ملحوظة في علاقة مبارك مع عمر سليمان في الأشهر الأخيرة، وقالت إن هذا التوتر يرجع بشكل أساسي لطموحات نجل الرئيس جمال مبارك، حيث كان مبارك قد وعد سليمان بمنحه منصب نائب الرئيس قبل 15 عاما، لكنه لم يفعل ذلك أبدا خوفا من أن يخلفه سليمان وليس جمال، رغم أن المخطط كان أن يتولّى سليمان المنصب في وقت يُدرَّب فيه نجل مبارك. كما أشارت الوثيقة إلى أن رئيس المخابرات العامة لا يحظى بشعبية داخل صفوف الجيش وقتها نظرا لكونه من المخابرات أولا، ولأنه صار مكروها من قِبَل الناس أيضا.

 

ولفتت الوثيقة ذاتها النظر للمعالم الأولية للانتقال السياسي من وجهة نظر الجيش، ويمكن تلخيصها في نقطتين: أولا حتمية أن يتولى منصب الرئاسة جنرال محسوب على الجيش، على أن يكون رئيس الوزراء شخصا مدنيا مثل البرادعي أو غيره (باعتبار أن البرادعي لا يتمتع بقاعدة شعبية حقيقية حسب وصف الرسالة)، وثانيا حتمية التوصل إلى تفاهمات مع الإخوان المسلمين الذين يدرك الجيش أنهم يخضعون وقتها لقيادة مجموعة من النخب المعتدلة وليس بينهم متشددون طامحون مثل حسن نصر الله في لبنان أو الخميني في إيران.

تُلخِّص الرسالة التالية بتاريخ 2 فبراير/شباط تطورات الأوضاع الميدانية في مصر خلال الأيام السابقة، مؤكدة أن الجيش لا يزال يلتزم الحياد في المواجهات الدائرة في الشارع، وأن مَن يقود المواجهة نيابة عن النظام هم مجموعة من ضباط الشرطة وقادة الأجهزة الأمنية السابقين، وهي مجموعات على الرغم من كونها عنيفة جدا، فإنها ليست ذات أهمية سياسية، وأشارت الرسالة إلى ملاحظة لم يسبق تداولها في هذا السياق، وهي أن مصر أمامها بضعة أيام فقط قبل أن تدخل في أزمة غذاء محلية، وبما أن الجيش هو المسؤول الأول عن توزيع الغذاء فإنه سيكون مضطرا للتدخل وإنهاء المأزق السياسي قبل أن يجد نفسه في مأزق شعبي حقيقي.

 

تحدثت الرسالة اللاحقة بتاريخ 4 فبراير/شباط عن تداعيات إحدى المواجهات المفصلية في مسار الثورة المصرية، بين المتظاهرين في ميدان التحرير وبلطجية نظام مبارك يوم 2 فبراير/شباط، والمعروفة إعلاميا باسم "معركة الجمل". وقالت الرسالة إن الجيش المصري نشر وحدات أكثر خبرة حول الميدان لتأمينه، بعدما منح بلطجية مبارك فرصة "لفض الميدان"، مؤكدة أن هذه الفرصة من غير المرجح أن تتكرر.

 

تُوضِّح إحاطة أخرى بتاريخ 10 فبراير/شباط كواليس الخطاب الأخير لمبارك ويومه الأخير في السلطة، مشيرة إلى أن الخلاف حول محتوى الخطاب بين مبارك والمجلس العسكري هو السبب في تأخيره، حيث طالب مبارك المجلس بإعطائه ضمانات بعدم المساس بشخصه أو بممتلكاته بعد التنحي، وأن يضمن له الجيش خروجا مشرفا، كما اشترط أيضا أن يخلفه عمر سليمان في السلطة، لكن جنرالات الجيش وعلى رأسهم وزير الدفاع وقتها حسين طنطاوي، وقائد المنطقة المركزية العسكرية اللواء أركان حرب حسن الرويني، عارضوا تعيين سليمان الذي لا ينتمي إليهم.

 

وفي بريد إلكتروني لاحق بتاريخ 12 فبراير/شباط، قُدِّمت تفاصيل إضافية حول ساعات مبارك الأخيرة رئيسا، إذ أشار البريد إلى أن الرويني أبلغ بقية أعضاء المجلس العسكري بأن الجيش لن يكون بمقدوره مواجهة خطط المتظاهرين لاقتحام القصر الجمهوري ومؤسسات حكومية أخرى دون استخدام مُوسَّع للعنف من شأنه أن يدمر العلاقة بين الجيش والشعب، ما دفع طنطاوي وعَنَان للاجتماع بمبارك لإقناعه بالتنحي، لكنّ الطرفين اتفقا مؤقتا على حل وسط؛ وهو انتقال مبارك إلى منزله بشرم الشيخ مع احتفاظه بلقب الرئيس اسميا، على أن تُدار البلاد بواسطة نائب الرئيس، ولكن تحت إشراف المجلس العسكري.


ولكنَّ خطاب مبارك في تلك الليلة (مساء 10 فبراير/شباط) خَلَّف انطباعات سلبية لدى الثوار الغاضبين حول نيّات مبارك مواصلة السيطرة على البلاد، وبخلاف ذلك أبلغ الرويني طنطاوي وعنان أن اليوم التالي (الجمعة 11 فبراير/شباط) يمكن أن يشهد مواجهات دامية بين الشعب والجيش، وأن هناك تعاطفا ملحوظا داخل صفوف صغار الضباط مع المتظاهرين، وقد أكّدت المخابرات العامة التقدير نفسه، ما دفع عنان للاجتماع بمبارك وطلب التنحي منه مجددا، مؤكدا أن الملك السعودي عبد الله تعهّد بضمان خروجه بثروة شخصية كافية حتى لو قامت البنوك الأجنبية بتجميد حساباته، ومتعهدا أن المجلس العسكري سيحمي أمنه وشرفه وسمعته، وسيضمن له خروجا لائقا، وقد وافق مبارك في النهاية على هذه الشروط وقَبِل بإعلان التنحي ذلك اليوم.

 

قدّمت الرسالة الأخيرة لـ "بلومنتال" في هذا الصدد، بتاريخ 14 فبراير/شباط، كواليس مداولات المجلس العسكري حول مصير نائب مبارك عمر سليمان، مُنوِّهة بوجود انقسام بين أعضاء المجلس حول إمكانية إشراكه في الحكومة، ففي حين أن رئيس أركان الجيش الفريق عنان تَمَسَّك بإقالته وإبعاده تماما عن المشهد، رأى طنطاوي أن اتصالات سليمان الدولية وعلاقاته الواسعة داخل مجتمعَيْ الأمن والاستخبارات المحلي والعالمي يمكن أن تكون ذات قيمة، وعلقت الرسالة الأميركية بالقول إن المصادر الاستخباراتية تؤكد أن سليمان يُمثِّل تحديا للمجلس العسكري لأن موقعه رئيسا للمخابرات العامة مَكَّنه من جمع معلومات حساسة حول كبار المسؤولين العسكريين والحكوميين يمكن أن يستخدمها لإحراج الحكومة الجديدة، كما أكّدت أن المجلس العسكري لا ينوي دعم أي جهود لاعتقال ومحاكمة مبارك نفسه، لكنه ربما يسمح بمحاكمة بعض المسؤولين المتورطين في الفساد.

اعلان

 

كشفت بعض رسائل بريد كلينتون اللاحقة مفاجأة كبرى حول موقف المجلس العسكري من الثورة ضد نظام العقيد الراحل معمر القذافي في ليبيا. وفي بريد إلكتروني بتاريخ 1 مارس/آذار 2011، نقل سيدني بلومنتال عن مصادر وصفها بـ "الحساسة" أن المجلس العسكري في مصر ملتزم بشدة بالإطاحة بنظام القذافي، قائلا إن هذا الالتزام مرتبط في المقام الأول بالعداء المصري القديم للقذافي والنزاعات التاريخية حول المناطق الغنية بالنفط على الحدود الجنوبية الشرقية للبلاد، وكذا باعتقاد المصريين أن وضعهم الاقتصادي سيكون أفضل في ظل علاقات قوية مع أي نظام جديد في ليبيا.

 

وكشف بلومنتال نقلا عن مصادره رفيعة المستوى أن المشير طنطاوي قائد المجلس العسكري ورئيس الأركان الفريق عنان أعطيا أوامر لوحدات من القوات الخاصة المصرية للبدء في تقديم الدعم للقوات التي تقاتل ضد نظام القذافي، وأن بعض ضباط هذه الوحدات السرية عبروا الحدود بالفعل وأجروا مباحثات مع ممثلي المجلس الوطني الانتقالي الليبي حول كيفية تقديم الدعم والسلاح وحتى الطعام والمواد الطبية لقوات المعارضة، غير أن طنطاوي وعنان حرصا بشدة على أن يبقى هذا الجهد سريا وألا يتسرب بأي شكل إلى العلن.

وأكّدت الرسالة ذاتها أن السلطات المصرية سمحت لمؤيدي المجلس الوطني الانتقالي بتهريب الأموال عبر الحدود لدعم الأنشطة المعارضة للقذافي، كما أشارت إلى أن ضُبَّاط العمليات الخاصة المصريين ساعدوا المعارضة في دفاعها الناجح عن بلدة الزاوية (50 كيلومترا غرب طرابلس) في مواجهة هجمات القوات الموالية للقذافي، وكان لهم فضل كبير في العديد من النجاحات القتالية الأخرى للمعارضين، مُنوِّهة أن القوات المصرية تعمل على الأرض ضمن فِرَق صغيرة مُتخفِّين في صورة ليبيين مقيمين في المناطق الحدودية مع مصر.

 

كما كشف بريد آخر بتاريخ 8 إبريل/نيسان الأهداف التي رغب المجلس العسكري في تحقيقها عبر المشاركة في الصراع الليبي، ويمكن تلخيصها في ثلاثة أهداف رئيسة: أولا، تعزيز الحضور الدبلوماسي المصري في ليبيا، خاصة في الشرق الذي تتمتع فيه القاهرة تقليديا بنفوذ كبير، حيث رغب المصريون في المساعدة بإنشاء هيكل سياسي ليبي جديد انطلاقا من المنطقة الشرقية، وتعزيز مكانة مصر من خلال تقديم نفسها بوصفها مدافعة عن الشعب الليبي ضد النظام، في الوقت الذي تنأى فيه بنفسها عن التدخل العسكري الغربي الذي تقوده القوى الأوروبية ذات السمعة الاستعمارية.

 

ثانيا، كان المجلس العسكري يخشى أن يتسبّب الصراع الليبي في ظهور أزمة لاجئين عنيفة على حدود مصر الشرقية حال غَزَت قوات القذافي الشرق، لذا فإن قادته رأوا أن دعم المتظاهرين يمكن أن يعمل بمنزلة خط دفاع مبكر ضد هذه الأزمة، وبالتوازي، ومع إدراك الجيش المصري أن شرق ليبيا يُعَدُّ معقلا للعديد من الجماعات المسلحة العنيفة التي قمعها القذافي؛ فقد أراد وضع هذه الجماعات تحت المراقبة مخافة أن يفتح الصراع الباب لعودة النشاط المسلح على حدود مصر الغربية.

 

وأخيرا، وربما الأهم، كانت ليبيا بعد القذافي تُمثِّل بالنسبة لمصر فرصة اقتصادية لا تُقدَّر بثمن. فمن ناحية، كان القادة العسكريون في القاهرة يرغبون في عودة حقول النفط الليبية للعمل بأقصى سرعة، واستعادة اقتصاد البلاد لعافيته من أجل جلب الاستقرار لتحويلات المصريين المقيمين هناك، الذين قُدِّر عددهم آنذاك بنحو 1.5 مليون مصري يرسلون 254 مليون دولار سنويا، على أمل أن يكون النظام الجديد في طرابلس أكثر مرونة وانفتاحا على استقبال المزيد من العَمَالة المصرية. وبخلاف ذلك فإن مصر تمتلك مصالح اقتصادية قوية في الجزء الشرقي الغني بالنفط في ليبيا، وكانت تأمل في أن مشاركتها في الصراع ستمنحها القدرة على تأمين هذه المصالح وتعزيزها.

 

تسرد الرسائل التالية وقائع إدارة المجلس العسكري للمرحلة الانتقالية وعلاقته مع مختلف القوى السياسية بعد الثورة، خاصة جماعة الإخوان المسلمين. فعلى سبيل المثال، يؤكد بريد إلكتروني بتاريخ 7 إبريل/نيسان 2011 أن المجلس العسكري بدأ في إجراء اتصالات سرية مع الإخوان لمناقشة خطط إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وفي هذا الصدد تُشير الرسالة إلى أن طنطاوي اعتقد أن العلاقة مع الإخوان ستساعد في تخفيف مصدر قلقه الحقيقي؛ وهو رفض المجموعات الثورية التي قادت الاحتجاجات ضد مبارك لأي حل سياسي لا يضمن إبعاد المجلس العسكري عن المشهد بالكامل وتشكيل حكومة مدنية.

في السياق ذاته، أشارت الرسالة إلى أن قادة المجلس العسكري اعتقدوا أن الإخوان مهتمون بالحصول على دور جوهري في حكم مصر من خلال انتقال هادئ ومنظم ومرحلي من الحكم العسكري إلى الحكم المدني، على عكس الجماعات الثورية التي تضغط من أجل انتقال ثوري وسريع، وقد ساهم إعلان الجماعة آنذاك عدم الدفع بمرشح في الانتخابات الرئاسية والتركيز على الانتخابات البرلمانية فقط في تهدئة مخاوف العسكريين تجاه الإخوان.

 

ورغم ذلك، ظل طنطاوي يحمل قدرا لا بأس به من الريبة تجاه الإخوان، لدرجة أنه قام بإصدار تعليمات للمخابرات العسكرية بمراقبة أنشطة صبحي صالح، مُمثِّل الجماعة في لجنة التعديلات الدستورية وأحد المكلفين من قِبَلها بالتفاوض مع المجلس العسكري، مراقبة شملت عددا من الشخصيات البارزة داخل الجماعة أيضا وعلى رأسهم المرشد محمد بديع، حيث شعر قادة المجلس العسكري بالقلق حول وجود اتصالات بين الإخوان وبعض الجماعات المسلحة التي حصل أعضاؤها على هامش واسع من الحرية بعد الثورة، رغم أنهم رجّحوا أن المعتدلين في الجماعة سيسيطرون على هذا الاتجاه خوفا من منح الجيش ذريعة للتحرُّك ضدهم.

ترصد الرسائل التالية المراحل الأكثر تقدُّما للفترة الانتقالية، وجهود الجيش للتلاعب بمختلف القوى السياسية. وكما تُشير وثيقة بتاريخ 23 نوفمبر/تشرين الثاني، بعد يوم واحد من استقالة أول حكومة بعد الثورة بقيادة عصام شرف، فإن قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة عقدوا اجتماعا سريا مع محمد البرادعي، المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية والمرشح "الثوري" الأبرز لقيادة البلاد وقتها، وعرضوا عليه تولي منصب رئيس الوزراء في محاولة لمعالجة الإحباط لدى المتظاهرين الذين يواصلون التصادم مع الجيش وقوات الأمن.

 

ووفقا للوثيقة فإن طنطاوي وقادة المجلس اعتقدوا أن سجل البرادعي السياسي وسمعته الدولية في الأمم المتحدة واستقلاله عن الجيش عوامل ستساعد في تهدئة مخاوف المتظاهرين حول استمرار الحكم العسكري، وفي الوقت نفسه ستُطمئن الأجانب والمستثمرين بشأن الاستقرار السياسي والأمني في مصر، غير أن البرادعي أكّد خلال هذه المناقشات أنه لن يقبل بالتحوُّل إلى دمية في يد المجلس العسكري، وشدَّد على رغبته في التمتع بحرية كاملة لتشكيل حكومته، وفي حين وعده الضباط بالتفكير في الأمر، فإنهم أكّدوا أن المجلس سيظل هو السلطة العليا في مصر حتى نهاية المرحلة الانتقالية عام 2012.

بالتزامن مع ذلك، أجرى المجلس العسكري مشاورات سرية مع الإخوان، وبحسب الرسائل الأميركية فإن الجيش قدَّم مستوى (غير محدد بدقة في الرسائل) من التمويل والمعلومات للجماعة لمنحهم أفضلية على الجماعات العلمانية المنافسة، وفي المقابل قدَّم الإخوان معلومات للمجلس العسكري حول أنشطة الأحزاب الإسلامية الأصغر والأكثر راديكالية.

 

ورغم هذا التفاهم الظاهر، وكما تُشير الرسائل، أكّدت مصادر مرتبطة بجهاز المخابرات العامة المصري وجود حالة من الإحباط المتبادل بين الإخوان والمجلس العسكري. فمن ناحيتهم، رأى الإخوان أن الأخطاء الثقيلة للمجلس العسكري تساعد على زيادة الدعم الشعبي للجماعات الأكثر راديكالية، في حين كانت قيادة المجلس العسكري مُستاءة بسبب فشل الإخوان في السيطرة على مستوى العنف في مظاهرات ميدان التحرير، رغم أن الجماعة كانت حريصة فعلا على كبح العنف كي لا تمنح المجلس ذريعة لتأجيل الانتخابات البرلمانية.

 

وفيما يبدو، فإن المفاوضات السرية بين الجيش والبرادعي سرعان ما وصلت إلى طريق مسدود، حيث تُشير رسالة بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني إلى تلقّي المرشد العام للإخوان محمد بديع وكبار المسؤولين في الجماعة إخطارا من المجلس العسكري حول نية المجلس تعيين كمال الجنزوري رئيسا للوزراء، على أن تكون مهمته الرئيسة تهدئة الشارع وإقناع الناس أن المجلس العسكري يتخذ خطوات للانتقال للحكم المدني، في الوقت الذي يستمر فيه العسكريون بالتمتع بسيطرة مطلقة على السلطة حتى نهاية المرحلة الانتقالية.

 

ووفقا لمصادر الرسالة الأميركية، فإن مرشد الإخوان بديع لم يكن سعيدا بأنباء تعيين الجنزوري الذي عمل سابقا رئيسا للوزراء في عهد مبارك، مُتخوِّفا من أن تعيينه سيزيد من إحباط الثوار، مَن سيرون هذه الخطوة عودة إلى زمن الرئيس المخلوع، لكن طنطاوي راهن أن سمعة الجنزوري بوصفه بطلا للفقراء ستساعد في تخفيف هذا الاحتقان، غير أن المصادر الأميركية عقّبت بالقول إن رؤية طنطاوي هذه تجاهلت أن معظم المتظاهرين في ميادين مصر كانوا أطفالا حين كان الجنزوري رئيسا للوزراء، ولا يعرفون عنه سوى ارتباطه بمبارك وتورُّطه المحتمل في الفساد إبان موجة خصخصة شركات القطاع العام أواخر التسعينيات فقط لا غير.

 


تُفصِّل الرسائل التالية كواليس العلاقة بين الجيش والإخوان أعقاب الانتخابات البرلمانية (نوفمبر/تشرين الثاني 2011 – يناير/كانون الثاني 2012)، ورؤيتهم لإدارة الدولة عقب الفوز في الانتخابات. وتُشير الرسالة الأولى في هذا الصدد، بتاريخ 4 ديسمبر/كانون الأول 2011، إلى أن المشير طنطاوي طلب من كبار قادته إجراء اتصال سري بالإخوان وتوجيه رسالة مبكرة إلى المرشد العام "بديع" بخصوص نتائج الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية (حقّق فيها الإخوان والإسلاميون فوزا مريحا)، وكان مضمون الرسالة ببساطة هو أن المجلس العسكري سيواصل السيطرة على البلاد حتى نهاية المرحلة الانتقالية، وأن أي محاولة لتغيير هذا الوضع ستستدعي تدخُّلا حاسما من قِبَل الجيش.

 

وبحسب المصادر الأميركية فإن طنطاوي شعر بالقلق من ميل بعض قادة الإخوان المسلمين للعمل مع حزب النور السلفي (حقّق النور النسبة الأكبر بعد الإخوان في انتخابات البرلمان)، وهو ميل أتى في إطار رغبة الإخوان للتحرُّك بوتيرة أسرع نحو الحكم المدني ومحاولة تقليص سيطرة الجيش، بالنظر إلى أن الجماعة والنور وحلفاءهما كانوا في طريقهم للسيطرة على أكثر من 70% من مقاعد البرلمان، الأمر الذي قد يُغريهم للمطالبة بتشكيل الحكومة المؤقتة، خاصة أن إشارات كتلك صدرت عن كبار قادة الإخوان مثل محمد مرسي، رئيس حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسي للإخوان آنذاك.

 

غير أن المصادر المُطَّلعة على موقف قيادات الإخوان وقتها أشارت إلى أن بديع والعديد من قادة الجماعة شعروا بارتياب تجاه حزب النور ورئيسه عماد عبد الغفور، وخشوا أيضا من أن الجيش قد يتحرك ضد جميع الأحزاب الإسلامية إذا شعر أن موقفه بات مهددا.


لكن ذلك كله لم يمنع الإخوان من الاستعداد لإدارة الدولة المصرية بعد نهاية المرحلة الانتقالية ووضع الدستور الجديد. وكما تُشير رسالة لـ "بلومنتال" بتاريخ 16 ديسمبر/كانون الأول 2011 فإن المصادر المُقرَّبة من الإخوان أشارت إلى أن بديع مقتنع بأن مصر الجديدة ستكون دولة إسلامية قائمة على نموذج يشبه الوضع التركي، مع تأسيس علاقة عمل بين الحكومة والجيش تقوم على أسس الشريعة الإسلامية، وتهيئة مناخ يُعزِّز التعاون مع الشركات الغربية التي سيكون عليها أن تتكيّف مع الوضع الجديد في مصر، مع التأكيد أن الأمور لن تعود إلى أيام مبارك حين كانت الشركات هي مَن يُملي السياسات على الحكومة في القاهرة.

 

وبحسب المصادر ذاتها؛ فقد بدأ الإخوان بالاقتناع بإمكانية الوصول إلى تفاهمات مع حزب النور تسمح بإنشاء حكومة إسلامية، لكن بديع أدرك أن عليه السير بوتيرة معقولة ودون استعجال لتجنُّب إثارة الذعر بين كبار قادة الجيش وكذلك لدى الحكومات الغربية، وعلى الرغم من أن الجماعة كانت تُدرك أن كبار قادة الجيش يشعرون بالذعر من فكرة قيام حكومة إسلامية، فإنها اعتقدت أن صغار الضباط والرتب الوسطى كانوا يؤيدون النظام الإسلامي تماما.

ووفقا للوثائق الأميركية، فإن الإخوان كانوا يرصدون بهدوء آراء الطبقات المختلفة داخل الجيش، وكانوا مقتنعين أن 90% من الضباط سيدعمون إنشاء نظام قائم على أساس الشريعة الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بمسألة العلاقات بين مصر وإسرائيل، حيث أشارت استطلاعات الإخوان إلى أن معظم الضباط غير راضين عن العلاقات الوثيقة التي تربطهم مع نظرائهم الإسرائيليين واضطرارهم لتطبيق سياسات متشددة ضد الفلسطينيين، خاصة في قطاع غزة الواقع تحت حكم حركة حماس. أما فيما يخص التعاون الأمني والعسكري مع الغرب، فقد رأت الجماعة أن وتيرته ستعتمد على قدرة هذه البلدان على تقبُّل الحكم الإسلامي في مصر وشمال أفريقيا، مع عدم استبعاد البحث عن حلفاء جُدد، وفي هذا السياق، أشارت استطلاعات الإخوان إلى أن تركيا ربما تكون الحليف الأكثر قيمة للجيش في المستقبل.

 

رغم ذلك اتفق محمد بديع ومعظم مستشاريه على أن أجهزة الدولة الأمنية يجب أن تعمل على منع الجماعات الأكثر تطرُّفا من استخدام مصر قاعدةً لاستهداف المصالح الغربية في الشرق الأوسط، غير أن بعض قادة الإخوان وعلى رأسهم محمد مرسي رأوا أن هذه الرؤية حالمة أكثر مما ينبغي، وأن الحكومة الإسلامية الجديدة ستواجه مهمة شاقة للسيطرة على أنشطة الجماعات المتشددة، خاصة وقد أكدت الاستطلاعات السرية للإخوان أن العديد من ضباط الجيش الذين سافروا للتدرُّب في الولايات المتحدة عادوا لمصر مُحمَّلين بنظرة عداء تجاه المجتمع الغربي بشكل عام، وتجاه الثقافة الأميركية التي يرون أنها معادية للفكر الإسلامي بشكل خاص.

 

من جانبها، علّقت المصادر الأميركية على هذه المداولات بالقول إنه على الرغم من أن طنطاوي وكبار ضباط الجيش في مصر لديهم ولاء للعلاقة مع واشنطن؛ فإنهم يعتقدون أن هؤلاء القادة لن يكونوا في وضع يسمح لهم بالتحكم في قواتهم بعد تولّي الحكومة الجديدة المدنية للسلطة، نظرا لأنه من المتوقع أن يُستبدلوا بنخبة جديدة من الضباط الأصغر، أسوة بما حدث في تركيا حين وضعت الحكومة الضباط الأصغر سنا من الداعمين للنظام الجديد في مواقع القيادة بدلا من كبار الجنرالات العلمانيين.

بحلول نهاية عام 2011 بدا واضحا أن العلاقة بين الجيش والإخوان دخلت في مرحلة غير مسبوقة من التوتر، حيث بات قادة الجماعة مقتنعون أن الجيش يستخدم المظاهرات ذريعةً لتعطيل نقل السلطة وإطالة المرحلة الانتقالية، ولكن في حين أن الجماعة اهتمت بتهدئة الشارع لتهيئة المناخ لنقل السلطة؛ فإن قادتها اعترفوا بامتلاكهم تأثيرا محدودا جدا على القوى الثورية، وأكدوا إحباطهم بسبب عدم قدرتهم على إقناع الأحزاب الشبابية بالحد من مستوى العنف في ميدان التحرير.

 

وكما تُشير إحاطة لـ "بلومنتال" بتاريخ 22 ديسمبر/كانون الأول من العام المذكور؛ فإن الإخوان كانوا مستائين بشكل خاص من الناشط الشاب إسلام لطفي وحزب التيار المصري الذي يقوده شباب منشقون عن الجماعة بسبب هجومهم الدائم عليها واتهامها بالعمل لصالح الجيش، وقالت المصادر إن لطفي طلب من أنصاره تجنُّب أي نقاش مع الإخوان رغم أنهم نقلوا لأولئك الشباب تحذيرات متتالية حول نية الجيش استخدام العنف بشكل موسع لقمع التظاهرات.

 

ووفقا للرسائل الأميركية اعتقد الإخوان أن توسُّع أعمال العنف في تلك الفترة يعود إلى الإحباط الذي تشعر به الأحزاب العلمانية بسبب أدائها الهزيل في الانتخابات البرلمانية، وأن هذا هو سبب دعوتهم لتقديم موعد الانتخابات الرئاسية لتجري مطلع عام 2012 بدلا من منتصف العام، وهو توجُّه كان الإخوان -الملتزمون بعدم الترشح للرئاسة حتى تلك اللحظة- يرفضونه، لأنه سيمنح صلاحيات متزايدة للرئاسة في وقت كانت الجماعة تأمل فيه في تأسيس نظام سياسي يُهيمن عليه البرلمان.


يتبع.. الجزء الثاني

المصدر : الجزيرة



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق