هكذا شارك الإعلام الغربي في تدمير العراق
«إن ما فعله الغرب بالعراق شيء يستعصي على التصديق ،لقد أوقعنا أعدادا مهولة من الضحايا والمعاناة على دولة من دول العالم الثالث، ومع ذلك لا نجد لمحة من الحقيقة على شاشات تلفزيوناتنا، لأن الجثث المدفونة والمحترقة تعوق بيع السيارات، إذا لم يكن ذلك يعكس مجموعة سيكوباثية من القيم، فماذا يفعل».
عمدًا صدّرتُ حديثي بهذا المقطع الذي سطره دافيد إدواردز ودافيد كرومويل في كتاب «حرّاس السلطة» حتى لا يبادر القارئ إلى رفض فكرة ضلوع الإعلام الغربي في الجرائم البشعة، التي ارتكبتها أمريكا وحلفاؤها في العراق، على طريقة «وشهد شاهد من أهلها».
لسنا متفاجئين ولن نتفاجأ من تأكيدات خبراء الإعلام، أن الحيادية في ذلك المجال هي مجرد كذبة ووهم، فليس هناك وسائل إعلام محايدة، بل تتفق مع رؤية النظام، حتى في الصحف الليبرالية الغربية، التي تدعي أنها نوافذ الإنسانية على العالم، هي في الحقيقة تنقل رسم العالم بفرشاة النظم الرأسمالية، والمؤسسات عابرة القارات التي تتحكم في الميديا، أو هي كما قال الكاتب الأمريكي هنري أدمز: «الوكيل المستأجر للنظام القائم على المال، وليست مُعدة لأي هدف آخر، إلا سرد الأكاذيب في ما يخص مصالح ذلك النظام». وسائل الإعلام الغربية إبان الغزو الأمريكي البريطاني للعراق في البداية التعيسة للألفية الجديدة، شاركت عن عمد في دمار ذلك البلد العربي المسلم، بالتستر والتكتم والتعمية والتضليل في الممارسات البشعة لتلك القوات، المندفعة بجذور توراتية وتعصب يميني متطرف، وفي الوقت الذي كانت تنشر الميديا الغربية إحصاءات دقيقة حول قتلاهم في العراق، كانت الإحصاءات حول ضحايا الشعب العراقي مائعة مضطربة يتم التعتيم على حقيقتها.
ثلاث كذبات قامت عليها كل جرائم أمريكا وحلفائها في تلك الحرب التي سموها زورًا وبهتانا «حرب تحرير العراق» كلها ثبت زيفها، وجميعها قد روج لها الإعلام بقوة بدون تفنيد، كانت الأولى: زعم امتلاك العراق للأسلحة النووية، مع أنه قبيل وقوع الحرب، صرح هانز بليكس كبير مفتشي الأسلحة في العراق، بأن فريقه لم يعثر على أي أسلحة نووية أو كيميائية أو بيولوجية، فقط كانت صواريخ يفوق مداها المدى الذي قررته الأمم المتحدة، وقد وافق صدام على تدميرها بمعرفة فريق بليكس.
وبعد سقوط بغداد أرسل بوش فريقا آخر للتفتيش برئاسة ديفيد كي، والذي كتب في تقريره «لم يتم العثور على أي أثر لأسلحة دمار شامل عراقية» لكن ما جدوى ذلك وبوش نفسه قال: «لو كنت أعرف قبل الحرب ما أعرفه الآن من عدم وجود أسلحة محظورة في العراق، فإنني كنت سأقوم بدخول العراق». بيد أن الإعلام الغربي آنذاك لم يطنطن كثيرًا حول هذه الحقائق.
أما الكذبة الثانية التي روجها الإعلام فهي ضلوع العراق في هجمات 11 سبتمبر، بدون أدلة دامغة، حتى أنه في يوليو 2004 صدر تقرير عن هيئة تشكلت من قبل مجلس الشيوخ لتقصي الحقائق، يؤكد أنه لا صلة بين العراق وأحداث 11 سبتمبر.
أما الكذبة الثالثة، فكانت الزعم بأن العراق له صلة بتنظيم «القاعدة» وقطعا بدون دليل تثبت له قدم، وهي تهمة أثارت السخرية، نظرا لوجود اختلاف أيديولوجي بارز بين «القاعدة» والبعثيين. وإمعانا في التضليل من قبل الساسة الأمريكيين والبريطانيين وأبواقهما الإعلامية، فقد انضمت إلى هذه الكذبات كذبة أخرى حول رفض صدام حسين التفتيش، وقيامه بطرد الفريق، لكن هذا لم يحدث.
لم يقم صدام بطرد المفتشين، بل قامت أمريكا بسحبه، وهذا ما أكده ريتشارد بتلر الرئيس التنفيذي لفريق التفتيش، في كتابه «تحدي صدام» حيث يذكر أنه تلقى مكالمة هاتفية من السفير الأمريكي بأن هذا الأخير تلقى تعليمات من واشنطن بإجراءات السلامة الخاصة بالمفتشين وإبعادهم من العراق، وأنه تعهد بذلك، الأمر نفسه أكده كوفي عنان الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، حيث ذكر أنه تلقى مكالمة هاتفية من السفير الأمريكي تفيد بذلك، وكان نص تقرير سكوت ريتر رئيس فريق المفتشين: «أظهر العراق المزيد والمزيد من الرغبة في التعاون مع مفتشي الأسلحة» وأكد أن صدام لم يطردهم، ولكنهم غادروا بناء على أوامر واشنطن، وغض الإعلام الغربي الطرف عن كل هذه الحقائق، التي رصدها وعرفها آنذاك ولم يقم بنشرها.
وكان لوسائل الإعلام الغربية سبيل آخر في التوطئة لهذه الحرب، حيث عمدت إلى الدجل والتدليس في أخبارها عن آثار العقوبات الاقتصادية على العراق، والادعاء بأن برنامج «النفط مقابل الغذاء» كان في صالح الشعب العراقي، وعارضت بشدة تحميل صدام المسؤولية لأمريكا في تجويع العراقيين، فعلى سبيل المثال، كان بن براون مسؤول «بي بي سي» آنذاك يقول إن صدام ادعى أن قرارات الأمم المتحدة هي التي أوصلت مواطنيه إلى حد الموت جوعا، وأن صور الأطفال سيئي التغذية أسلحة دعاية في يد صدام. وقال جون درابز مراسل «آي إن تي» الفكرة تتلخص في استهداف عقوبات مهذبة لمساعدة عوام الشعب، بينما تمنع في الوقت نفسه زعيم العراق من أن ينحو باللوم على الغرب، بسبب المعاناة التي يكابدونها.
هكذا كان ينفي الإعلام الغربي آثار الحصار على العراقيين، وشارك في هذه الجرائم كذلك بالتمهيد والترويج للغزو، وكان الصحافي ومقدم البرامج البريطاني المعروف نيكولاس أوين، يكثر من التساؤل خلال النشرة من القول بأنه لم يعد السؤال هل سنهاجم العراق؟ بل متى وكيف وماذا سيحدث بعد ذلك؟ وما هو الجدول الزمني للحرب؟ علينا أن نفهم أن مسألة الحرب المقبلة أصبحت أمرا واقعا لابد من قبوله.. لا خيار في ترك العراق وصدام لا يزال في السلطة» والأمثلة في ترويج الإعلام الغربي للغزو أكثر من أن تحصى.
وفي الوقت الذي أكدت فيه الدراسات سقوط مئة ألف قتيل عراقي في غضون سنتين من الغزو، كانت وسائل الإعلام الغربية تغض الطرف عن هذه الإحصاءات. الصحافي الأسترالي جون بيلجر، الذي عرف عنه مناهضته الشديدة للبرنامج الإمبريالي للولايات المتحدة وبريطانيا، كشف عن ضلوع الإعلام الغربي في الترويج، لأن القصف الأمريكي البريطاني للمواقع المدنية بالنابالم واليورانيوم والقنابل العنقودية في العراق، لم يكن سوى حركة تحرير اضطرارية، لا تنم عن غزو وحشي. الإعلام الحر الاحترافي في أمريكا غطى تمثال الحرية بروث التضليل والانحياز إلى نظامه عندما سكت عن تصريح مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، في سياق تعليقها على مقتل نصف مليون عراقي بسبب الحصار الأمريكي على العراق، حيث قالت: أعتقد أن الأمر يستحق تلك التكلفة. ولم يعلق الإعلام النزيه عن التساؤل الذي يداهم أي عقل حر في العالم حول الدافع لقتل نصف مليون عراقي، ولم يعلق على هذا الاستخفاف بذلك العدد الهائل من الضحايا الأبرياء الذي أظهرته أولبرايت.
لم تذكر وسائل الإعلام الغربية ذات الأسماء الرنانة شيئًا عن الجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين، لكن بعض الصحافيين المستقلين كتبوا على شبكة الإنترنت تقارير عن الوحشية التي تعامل بها الجيش الأمريكي في قصف المستشفيات، واعتقال العاملين فيها وإطلاق الرصاص عليهم، بل على المرضى، ومنع وصول الدم والإمدادات الطبية إلى الحالات الحرجة، وقصف المنازل وقتل المسنين والأطفال. التقط مراسلو الإعلام الغربي مشاهد استخدام الأمريكيين للنابلم والقنابل العنقودية والحارقة والغازات السامة، لكنهم لم يذيعوها، حتى مع اعتراف جنرالات المارينز باستخدامها.
الإعلاميون الذين نقلوا الحقائق آنذاك كان ينظر إليهم على أنهم خونة، ففي 2004 أدين بيرس مورغان محرر «الديلي تلغراف» الذي نشر صور معاملة الجنود البريطانيين البشعة لسجناء العراق، بذريعة أن نشرها يعرض الجنود للخطر، ووصف أحد مراسلي «بي بي سي» صنيع مورغان بأنه خيانة ضد الدولة، وأقيل مورغان بضغط من أصحاب الأسهم الأمريكيين. وإذا كان نيك روبنسون المحرر السياسي لمحطة «آي تي في» قد كتب في «نيوزويك» الأمريكية أنهم كانوا يكتبون التقارير بدون تفنيد وبدون التثبت من القول بأن صدام يمثل تهديدا، فهو يعبر عن الحالة التي كان عليها المراسلون الغربيون في غزو العراق، مجرد ناطقين باسم النظام.
حق لنا أن نتساءل ساخطين عن ابتلاع الإعلام الغربي لتلك الجرائم التي ارتكبتها القوات الأمريكية والبريطانية في العراق والسكوت عنها، لكننا حتما نتساءل بشكل أشد سخطًا: كيف ابتلع إعلاميونا جرائم الإعلام الغربي ودوره في تدمير العراق، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
قراءة كتاب «حرّاس السلطة»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق