الثلاثاء، 12 يناير 2021

النصارى والقوى الخارجية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

 النصارى والقوى الخارجية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

            


      أ.د/ جابر قميحة                

   gkomeha@gmail.com                                

الإيمان بالأنبياء والرسل والكتب السابقة أصل من أصول الدين الإسلامي، فلا يصح إسلام المرء إلا به، وقد تواترت الآيات القرآنية التي تقطع بذلك، كقوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ...) (البقرة: 285)، وقوله تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 84).

 وقد عرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإيمان بقوله: "... أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره".

 والمسلمون يؤمنون بأن النصرانية دين توحيد مطلق، وأنها تعترف أن الله وحده هو الخالق القادر المختص بالعبادة، وأن المسيح عبد الله ونبيه ورسوله، وأنه بشر، وإن ولد بصوره غير الصورة المطردة المعهودة بقوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (المائدة: 72).

 وقد أرسل المسيح ـ عليه السلام ـ إلى بني إسرائيل بخاصة، يقول تعالى: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ...) (آل عمران: 48 ـ 49)، وفي إنجيل متى يقول المسيح عليه السلام: "لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة" وقد بُعث المسيح إلهيم مصدقًا لما بين يديه من التوراة، وجاءهم من الدين بما فيه هدى لهم ورشاد في شئون معاشهم ومعادهم، ولم يطالبهم بتعطيل قوة من قواهم التي منحها الله تعالى لهم، بل طالبهم بشكر الله تعالى عليها .

 ولأن بني إسرائيل قد استغرقتهم المادية الطاغية، وشغلتهم الدنيا، وأصبح جمع المال هو غايتهم على حساب الأخلاق والقيم الإنسانية العليا، جاءت المسيحية جرعة روحية قوية لتقضي على هذا النزوع الدنيوي الحاد، فهي ـ في مجموعها ـ قيم روحية خالصة ـ تنزع الإنسان من غمرات الواقع المادي الخسيس، وتسمو بروحه، فهو لم يخلق لهذه الأرض، وإنما خلق لملكوت السماء.

 فاليهودية والمسيحية كلاهما "ديانة مرحلية" وجاءت الثانية كرد فعل قوي لغلو بني إسرائيل وإغراقهم في المادية، وكان منهم من يفهم أن الحياة الدنيا هي غاية بني الإنسان، بل إن التوراة التي بين أيديهم خلت من ذكر اليوم الآخر ونعيمه أو جحيمه، وأن الثواب، والعقاب في الدنيا لا الآخرة.

 ثم جاء الإسلام الدين الخاتم للناس كافة موفقًا بين المادي والروحي، بين الواقعي والمثالي، بين مطالب الجسد والروح والعقل في اعتدال وتوازن.

 والمسيحية دخلت جزيرة العرب، وانتشرت فيها بالتبشير لا الهجرة كما فعل اليهود، فقد دخل بعض رجال الدين النصراني جزيرة العرب، ونشروا دعوتهم بين البدو، وعاشوا معهم عيشتهم، حتى عرفوا بأساقفة الخيام، أو أساقفة أهل الوبر.

 وكان القسس والرهبان يردون أسواق العرب، ويعظون، ويبشرون، ويذكرون البعث والحساب والجنة والنار، وكان من هؤلاء شعراء كقس بن ساعدة الإيادي، وأمية بن أبي الصلت، وعدي بن زيد.

 ومال كثير من العرب إلى الرهبنة، وبناء الأديرة، ومنهم "حنظلة الطائي" الذي يقال إنه بني ديرًا بالقرب من شاطئ الفرات، يعرف "بدير حنظلة"، وترهب فيه حتى مات، وكانت نجران أهم مركز للنصرانية جنوب بلاد العرب، وربما جزيرة العرب كلها، وكان فيها أكبر كنيسة وأفخمها.

 يقول ياقوت الحموي: "... وكعبة نجران يقال لها بيعة بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي على بناء الكعبة، وعظموها مضاهاة للكعبة، وسموها كعبة نجران، وكان فيها أساقفة معتمون، وهم الذين جاءوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعاهم إلى المباهلة، وكانت قبة من أدم من ثلاثمائة جلد، كان إذا جاءها الخائف أمن، أو طالب حاجة قضيت، أو مسترفد أرفد .

 ولم تخل مكة ويثرب من المسيحيين، فيقال إن معظم الرقيق في مكة كانوا من النصارى، وكذلك الجواري الروميات، وكان في الأحابيش كذلك عدد كبير منهم، وفي يثرب عاش بعض النصارى في موضع يسمى "سوق النبط.

 وكان انتشار النصرانية في الشام أوقع وأوسع بحكم قرب هذه المناطق من الإمبراطورية الرومية التي كانت النصرانية دينها الرسمي، فتنصر الغساسنة، وأصبحوا قوة عسكرية، يعتمد عليها الروم، ويشتركون معهم في القتال، وكذلك قبائل أخرى مثل كلب، وقضاعة، وجذام، وعاملة.

 ****** ****

 وتنصرت قبائل إياد، ومنهم من سكن السواد والجزيرة، ومنهم من سكن الشام. وتنصر عدد كبير من قبيلة طئ منهم عدي بن حاتم الطائي، وتسربت النصرانية إلى الحيرة منطقة المانذرة على الرغم من تبعيتها للفرس المجوس، ومن الحيرة والشام تسربت النصرانية إلى كثير من المدن والمحلات، منها دومة الجندل، وأيلة، وتيماء، واليمامة، وغيرها.

 ولسنا في مقام التأريخ المفصل للنصرانية في بلاد العرب، ولكن هناك من الحقائق التي ينقلها التاريخ ما يرتبط بموضوع بحثنا، وهي في مجموعها تطرح طبيعة العلاقات بين النصارى وغيرهم من أصحاب الأديان والمذاهب الأخرى، ومن أههما الحقائق الثالث الآتية:


الحقيقة الأولى: أن النصارى في جزيرة العرب لاقوا على أيدي اليهود أذى كثيرًا، بل نكبات، وأشهرها تلك "المحرقة" التي أقامها الملك اليهود ذو نواس الحميري لنصارى نجران حتى يتركوا دينهم، ويعتنقوا اليهودية، وفيهم نزل قوله تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (البروج: 4 ـ 8).

 وينكر ـ أو يستبعد ـ أحمد أمين هذه الواقعة، ونزول هذه الآيات فيها؛ لأن كلا من اليهود والنصارى يؤمن بالله العزيز الحميد .

 وهي حجة واهية؛ لأن ذونواس الحميري عرف بظلمه وجبروته , ومسألة العقيدة قد لا تهم هذا النوع من الطغاة، بقدر الهيمنة وبسط السلطان: على أن أحمد أمين ذكر قبل ذلك بأسطر أن هذا الملك "أوقع بأهل نجران وقتلهم".

 والحقيقة الثانية: أن النصارى كانوا حريصين على ألا يكون في الجزيرة مذهب أو ديانة أخرى، فيروى أن نجاشي الحبشة أرسل إلى اليمن جيشًا قضى على الملك الحميري "ذونواس" وجيشه، وضم إليه اليمن، وإرضاء له بنى قائده "أبرهة الأشرم" كنيسة في صنعاء لم يُبن مثلها من قبل ضخامة وارتفاعًا، وجمالاً، وأراد أن يصرف كل العرب إلى الحج إليها فزحف بجيش كبير، ومعه عدد من الأفيال، "ليهدم الكعبة بأن يجعل السلاسل في أركانها وتشدها الفيلة، فتهدمها مرة واحدة" ولكن الله سبحانه وتعالى أهلكهم (...وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (الفيل: 3 ـ 5).

 والحقيقة الثالثة: أن القرآن ـ كما ذكرنا من قبل ـ عرض ملامح المسيحية في صورتها الصحيحة، وكذلك شخصية المسيح من ميلاده إلى رفعه، ولا يكون المسلم مسلمًا إلا إذا آمن بكل أولئك، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.

 ولأمر ما كان أول من بشر بنبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم , قبل بعثه ـ نصراني مشهور في أوساط مكة هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وهو ابن عم خديجة بنت خويلد زوج النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومما قاله لها: "... إن محمدا نبي هذه الأمة، وقد عرفْتُ أنه كائن لهذه الأمة نبي يُنتظر، هذا زمانه "، ولما نزل الوحي لأول مرة على محمد في غار حراء، وقص على خديجة ما حدث، ذهبت إلى ابن عمها ورقة، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان جوابه: ".. لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت"، فلما لقيه وهو يطوف بالكعبة، وسمع منه ما رأى وما سمع، قال له مثل ما قاله لخديجة، وقال: "ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرك لله نصرًا يعلمه" . ثم أدنى رأسه منه، فقبل يافوخه، وعاش الرجل ـ وإن لم يسلم ـ متعاطفًا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن أسلم، وخصوصًا العبيد والمستضعفين، ويرى أنه مر ببلال وهو يعذب، ويقول: أحد أحد، فيردد ورقة: " أحد أحد والله يا بلال "، ثم يقبل على أمية بن خلف وتابعيه ممن يعذبونه، فيقول مهددًا، "أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانًا ".(وليا من أولياء الله , ويتخذ قبره مزارا) .

 ولما رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اشتداد الأذى والبلاء على أصحابه أشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة، وقال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه.

فكانت أول هجرة للمسلمين إلى أرض يحكمها ملك نصراني عادل صادق، وقد أكرمهم الملك: نجاشي الحبشة، وأمنهم، ورفض أن يعيدهم مع رسولي قريش: عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص.

 ومن الحبشة قدم وفد من النصارى على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بمكة بعد أن سمعوا به وهم بالحبشة، وحاوروا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتلا عليهم القرآن، ففاضت أعينهم من الدمع، وآمنوا به وصدقوه، فنزل قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة: 82 ـ 83)

 وقيل أنها نزلت في النجاشي ومن حوله من القسيسين والرهبان في مجلسهم حينما قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب سورة مريم، فآمنوا بالقرآن، وفاضت أعينهم من الدمع.

 وسواء أوقعت هذه الحادثة في مكة أم في الحبشة، فإنها تدل على مصداقية قوله تعالى أنهم كانوا أقرب مودة للذين آمنوا، ويزيدالإيمان بهذه الحقيقة إذا أدخلنا في الاعتبار شخصية ورقة بن نوفل، الذي كان يبشر بظهور النبي، وكان يشجعه ويخفف عنه وهو يلاقي من قريش من عنت وإيذاء، كما وقف بجانب المستضعفين من المسلمين في مكة.

 **********

 وشرع الإسلام في التعامل مع الذميين قواعد ومبادئ تقوم على الرحمة والعدل والإنسانية، من ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من قتل نفسًا معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا".

 وجاء في العهد الذي كتبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمرو بن حزم الأنصاري وقد بعثه إلى بني الحارث بن كعب "وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني، ودان بدين الإسلام، فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يفتن عنها . وجاء في عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنصارى نجران "... ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد على أمواله وأنفسهم، وأخيهم وثلثهم، وغائبهم وشاهدهم، وعبادتهم، وبيعهم، وملتهم، لا يغير أسقف من سقيفاه (أي مركزه الديني) , ولا راهب من رهبانيته ...

 وقد أكد أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ هذا العهد بعهد مماثل يكاد يكون في أسلوبه ومضمونه كعهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأهل نجران، وقد أملاه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في مرض موته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق