الجمعة، 29 يناير 2021

العرب والراعي الأمريكي الجديد

العرب والراعي الأمريكي الجديد



محمد هنيد

قد لا يشغَل حدثٌ الساحة السياسية والإعلامية العربية مثل حدث الانتخابات الرئاسية الأمريكية وكأن المنطقة مقاطعة من المقاطعات الأمريكية وجزء من بلاد العمّ سام. قد يقول قائل لكنّ كل الإعلام العالمي قد تجنّد لنقل الحدث الأهمّ دوليا خاصة بعد كل الأحداث التي شابت الانتخابات الأمريكية وصولا إلى غزوة الكونغرس الأخيرة. المنطقة العربية وخاصة المشرقية والخليجية منها تبقى خاضعة لمنطق الحكم الأمريكي بخلاف كل مناطق العالم لأسباب تاريخية استراتيجية وحضارية معقّدة. 

من أهم الأدلة على تأثّر المنطقة الشديد بمخرجات الانتخابات الأمريكية هو ما شهدته من تغيرات جذرية سبقت تنصيب الرئيس الجديد وتمثلت أساسا في مشروع المصالحة الخليجية الذي طُبخ على عجل حتى لا يسمح الراعي المُغادِر لخصمه بالفوز به. لكنّ معطيات أخرى كثيرة تسمح بقراءة المنوالات الممكنة للمدة الرئاسية الجديدة للرئيس بايدن. 

العرب وباقي الأمم 

أول الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن إنما تتمثل في توضيح ربط المنطقة العربية بالرعاية الأمريكية المباشرة بخلاف بقية الأمم والشعوب. فلا توجد أمة من الأمم تخضع للقرار الأمريكي بشكل مباشر مثل الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. إيران تقاوم وتعمل على التخلص من القبضة الأمريكية سواء بالتحالف السري معها في بعض الملفات أو بالتقارب مع الروس والتغلغل داخل المنطقة العربية والمساومة عليها. أما تركيا فقد حلّقت بعيدا في صناعاتها العسكرية واستقلال قرارها السيادي وهو ما جعل منها لاعبا دوليا يُحسب له ألف حساب مشرقا ومغربا. أما بقية الشعوب الآسياوية والأوروبية فقد نجحت في تحقيق قدر متقدّم من الاستقلالية وحتى المنافسة الشرسة للولايات المتحدة وذلك على كافة الأصعدة وفي كل المجالات.
 
الأمة العربية وحدها من بين شعوب الأرض ومعها بعض الشعوب الأفريقية هي التي لا تزال تعيش حالة التبعية المطلقة للمنظومة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية. لم تنجح الشعوب والكيانات العربية في صناعة قرار سياسي مستقل عن المنطق الأمريكي بعد أن باءت سياسة المحاور خلال الحرب الباردة بالفشل الذريع ولم تحقق الآمال المعلّقة عليها. 

صحيح أيضا أنّ الأمة العربية بخلاف الأمم الأخرى ليست أمّةً دولةً بل هي كيانات ممزقة على عكس الأتراك والفرس وكثير من الأمم الأخرى، وهو الأمر الذي قد يفسر في جزء منه تمكّن الإدارة الأمريكية من المنطقة برمتها. كما أن الكيانات العربية ليست كيانات متجاورة أو متباينة فحسب بل هي في الجزء الأكبر منها كيانات متناحرة فيما بينها من جهة وكيانات معادية لجيرانها كما يؤشر على ذلك الصراع السعودي الإيراني من جهة أخرى. هذا الوضع هو الذي فرض اللاعب الأمريكي باعتباره شرطي المنطقة الحاضر بقواعده العسكرية وسطوته الاقتصادية وأذرعه المالية. 

الراعي القديم والراعي الجديد 

تعود جذور الحضور الأمريكي الفاعل في المنطقة العربية والمشرقية تحديدا إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى وهو حضور ترسّخ بعد اكتشاف النفط وتراجع الهيمنة البريطانية على مستعمراتها السابقة ثم استقرّ وثبت مع الحرب العالمية الثانية عندما حسمت الولايات المتحدة الحرب لصالحها. 

منذ تلك الفترة التاريخية الحاسمة وضعت الولايات المتحدة لنفسها موطئ قدم ثابت في منابع الطاقة الأعلى في العالم خاصة بعد تمكّن حليفها الصهيوني من احتلال فلسطين وتكوين دولة على أنقاض الهزائم العربية. استأثرت واشنطن بمنطقة الخليج العربي كاملة وكذلك بمصر وأصبحت الشرطي الآمر الناهي هناك خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي خلال التسعينيات ثم رسخت قدمها بشكل نهائي خلال غزو العراق مطلع التسعينيات ثم احتلاله في سنة 2003. 

  

كانت ثورات الربيع فرصة تاريخية لتكوين نواة مشروع سيادي يحدّ من الهيمنة الخارجية ويسمح بتفعيل آليات العدالة الاجتماعية وإيقاف نزيف النهب والفساد وبناء أنظمة المؤسسات. لكنّ النظام الرسمي العربي كان له رأي آخر وفضّل البقاء تحت أقدام الوصاية الخارجية بدل الاحتماء بالمظلة الشعبية



اتسمت علاقات العربية الأمريكية في طور أوّل بتفضيل المصالح الاقتصادية على بقية الملفات فكانت واشنطن الحامي الرئيس لأنظمة المنطقة مقابل الحصول على صفقات التسليح والبنية التحتية والخدمات الأساسية وعقود الطاقة. وفت أمريكا بوعودها وحافظت على الأنظمة من السقوط ورسّخت علاقتها معها سواء في الخليج أو في مصر أو ليبيا أو منطقة المغرب الكبير.
 
كانت الأنظمة العربية في حاجة إلى حماية خارجية قوية لا خوفا من الغزو الخارجي بل خوفا من عدوانها على بعضها البعض مثلما حدث في حال العراق والكويت خلال مطلع التسعينيات. لكنّ الجشع الذي أبرزه النظام الأمريكي خلال غزو العراق وبعد أحداث الحادي عشر سبتمبر أثبت أنّ الولايات المتحدة دخلت طورا جديدا في علاقتها بالمنطقة العربية وهو ما عبّر عنه صراحة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب عندما صرّح للإعلام دون خجل قائلا: "يجب أن نذهب هناك ونأخذ أموالهم فليس عندهم غير المال". 

مثلت سياسة ترامب تجاه المنطقة طورا أكثر عدوانية وأشد جشعا خاصة مع تراجع الاقتصاد الأمريكي بسبب المنافسة الصينية أو بسبب الأزمات الطارئة مثل جائحة كورونا التي ستكون حافزا على حضورٍ أكثر ابتزازا ونهبا لخزائن دول الخليج من كل الأطوار السابقة.
 
لن يكون التخلص من الهيمنة الأمريكية أمرا يسيرا في ظل التناحر العربي وفي ظل غياب أي مشروع جامع قادر على إخراج الأمة من دوامة التردي التي سقطت فيها. 

كانت ثورات الربيع فرصة تاريخية لتكوين نواة مشروع سيادي يحدّ من الهيمنة الخارجية ويسمح بتفعيل آليات العدالة الاجتماعية وإيقاف نزيف النهب والفساد وبناء أنظمة المؤسسات. لكنّ النظام الرسمي العربي كان له رأي آخر وفضّل البقاء تحت أقدام الوصاية الخارجية بدل الاحتماء بالمظلة الشعبية وهو الأمر الذي سيسرّع من وتيرة الاحتقان الاجتماعي بسبب النزيف المالي القادم الذي سيعجّل بشروط الموجة الثورية الجديدة التي ستكون حتما مختلفة عن سابقتها ولن ترتكب أخطاءها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق