واشنطن بين الدستور الأميركي والإنجيل الغربي
مهنا الحبيل
يُمثل مسرح واشنطن في الأسبوع الماضي بعداً فكرياً دقيقاً لرحلة الإنسان الأميركي المعاصر، هذا العمق للصورة هو في الحقيقة أحد أهم مداخل فهم التجربة الاجتماعية والدينية والسياسية التي انتهت إليها أميركا. وأهمية هذا المسرح أنه عكس مشهدين رمزيين لإعادة فهم هذه التجربة، أراه منظماً دقيقاً لوضع التجربة في إطارٍ عقلانيٍّ إنساني مجرّد، فاقتحام اليمين المتطرّف الكونغرس، وهو اقتحام أُسند معنوياً برفع الصليب، ورفع الإنجيل. .. (أن العنوان أعلاه جاء على الإنجيل الغربي، ولم يقل المسيحي، فستوضح المقالة ذلك).
ولكن هذا الحدث الذي شاركت فيه عناصر مسلحة اشتبكت مع شرطة الكونغرس، في المشهد الأول، قابله مشهد تماسك المؤسسات والعودة إلى الدستور الأميركي الذي التزمت به المؤسسات، من نائب الرئيس إلى الدوائر المحلية في واشنطن، فتحوّل ترامب، المستبد الفردي، إلى عاجز أمام ما تعتبر مؤسسات وحياة سياسية تمثل الشعب.
ولكن الحكاية هنا لا يمكن أن تنطلق من هذه الصورة، فدعونا ننظم الأمر بصورة أسئلة توضح الفارق:
أولا، هل تشكّل اليمين الأميركي المسيحي عبر الرئيس المنتهية ولايته، ترامب، أم أنه أعمق.. هنا يلاحظ أن هذه الجذور هي لمشروع الإنجيل الغربي، ذلك أن حالة التعبد، أو الاستدعاء الروحي للمسيحيين، حق طبيعي للنفس البشرية والمجتمعات، في إطار الضمير الفردي، وما يدعمه من أخلاق الفرد. وبغض النظر عن فكرة التقييم العقلي والمعرفي للرسالة الدينية، فإن للمجتمعات جذورا تظل تحرص على اللجوء إليها، حتى في قلب البنية العلمانية، كما هو في أميركا.
النظام الانتخابي الأميركي لا يضمن نزاهة تصويت ولا تحييد المال، بما فيه مال السلاح ورأس المال الرأسمالي وكتل الشركات التي تشمل "السوشيال ميديا"
ثانيا، لكنه أيضاً إنجيل غربي لا مسيحي مطلق، كيف؟ لن يسعنا هنا أن نسرد تراث هذه الإنجيلية الغربية في تشكل المدنية الحديثة، وفي استخدام النص الإنجيلي في أميركا الشمالية، وفي أميركا الجنوبية، وفي أميركا اللاتينية، ضد الشعوب، بما فيها بعض الاتجاهات المسيحية، وهذا فضلاً عن رحلة الغرب المسيحي في الشرق وفي أفريقيا.
ثالثا، إذن، نحن أمام حالة تاريخية، عادت إلى الظهور، بعد أن توارت نسبياً، وهي اليوم لا تمثل كل من صوّت لترامب الذي اختلف معه أعضاء جمهوريون، بعد تداعي المشهد، وإنما في التذكير بأن ترامب استثمر، ولم يخلق، صعود هذه الحالة في بعدها اليميني والإنجيلي الغربي، ورفع لها الإنجيل يوم قمع المظاهرات التي تعرّضت لها حركة حياة السود مهمة، وكُرر المشهد نفسه أمام إحدى بوابات الكونغرس من أحد المتظاهرين.
رابعا، القول إن استدعاء البعد الإنجيلي كان طارئاً غير صحيح. وإذن، ماذا عن تلك المؤسسات والدعاة التبشيريين للداخل الأميركي، والذين وَظفت دعوتهم عشرات الملايين، كما وُظفت دعوات التمذهب الديني في الشرق المسلم نفسه، ولم يكن ذلك النموذج مفرداً، بل مسبوق. .. إذن، لتوظيف الإنجيلية الغربية جذور ممتدة، الجديد هو عودته إلى الحالة السياسية اليوم، بعد أن خاض معه قادة الحركة المدنية، مارتن لوثر كينج ومالكوم إكس وغيرهما، معركة صعبة. وهذه الخلاصات في تداخل الإنجيلية الغربية، مع المشهد السياسي الأميركي الراهن، لا يمكن أن تَعبر من دون تفكيك فلسفي اجتماعي أخلاقي.
فلننطلق الآن إلى البعد الآخر، إنه المشهد الإيجابي، حيث المؤسسات تطوق الفرد المستبد، وهو ترامب، وهذا مشهد ناجح وإيجابي وملهم في فكرة أن المؤسسات التي ينتخبها الشعب عادت لتحاصر الرئيس الفرد المستبد، ومع التسليم بذلك، نطرح الآتي:
أولا، يجب هنا أولاً أن نشير إلى أن النظام الانتخابي الأميركي، لا يضمن نزاهة تصويت ولا تحييد المال، بما فيه مال السلاح ورأس المال الرأسمالي وكتل الشركات التي تشمل "السوشيال ميديا". بل العكس، فالصوت الأميركي مطوّق بهذه الصناعة، هذا ليس نقداً لإطفاء حيوية التجربة، ولكنه واقع مرصود، فالصوت الذي لا تحاصره الرأسمالية، ولا التوظيف الأيديولوجي أو القمعي كما هو أزمة الشرق، لا يقارن بنموذج الصوت الحر نسبياً، الذي قد تعكسه تجربة بريطانيا بصورة أفضل.
إجراءات تحييد نفوذ ترامب، بما فيها خطوات عزله عن قرار الحروب، المضرّة بمصالح الأمن القومي الأميركي، لم تتم إلا قبل أيام من نهاية ولايته
ثانيا، .. لكن المؤسسات حسمت بعد ذلك، فدعونا ننظر الآن، أولاً، إلى ما ردّدته رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، وعدد من الشيوخ والأعضاء، عن إرث الآباء المؤسسين، وهو في محله من حيث تحويل التجربة الوطنية إلى مواد دستورية ميثاقية للشعب. ولكن بعض أولئك الآباء المؤسسين كانوا من أبرز تجار العبيد، وكانت لهم سياسات توحش وعنصرية رأسمالية في الحياة الأميركية الجديدة، وتأثير فكرة الإبادة للسكان الأصليين، استمر في سياسات واشنطن، عالميا، وبالذات في أميركا اللاتينية.
ثالثا، .. فهل نحن هنا نشير إلى نجاح تقني لقوة المحافظة على المؤسسة الديمقراطية المنحازة، أم لمنظومة ديمقراطية أخلاقية؟ فلنتذكّر هنا مسألة مهمة، أن إجراءات تحييد نفوذ ترامب، بما فيها خطوات عزله عن قرار الحروب، المضرّة بمصالح الأمن القومي الأميركي، لم تتم إلا قبل أيام من نهاية ولايته.
ماذا يعني ذلك: يعني أن قرارات ترامب، بما فيها القبول بالغزو العسكري لقطر عند الأزمة، والتي نأمل أن تُتجاوز كوارثها، وغير ذلك من قراراتٍ كان في اللحظة الأخيرة، فماذا عن شعوب العالم وقضاياهم؟ حسناً، هل الأمر متعلق بترامب؟ نستذكر هنا أكاذيب إدارة بوش الابن، خصوصا كولن باول في مجلس الأمن، عن المفاعل النووي، لتبرير غزو العراق الذي لا يزال، منذ تلك الحملة المجرمة، في وضع بائس، انسحب على المنطقة، فيما كان الدعم السياسي للشعوب، ووقف دعمهم الاستبداد العربي، كفيلا بإسقاط نظام صدّام حسين، حينها ننظر إلى مصداقية الديمقراطية الأميركية.
إذ نعرض هنا لكلا الجانبين، لا نُغفل قيمة تجربة الدولة المدنية وتعضيد الدستور والحقوق الشعبية، بالمؤسسات والأدوات التشريعية، غير أن ذلك لن يكون معياراً حقيقياً، من دون اعتبار البعد الأخلاقي والشفافية التي يُنظر عبرها، للنجاح الفعلي لحرية الشعوب والكرامة الفردية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق