يناير: بالونات العيد الخادعة
وائل قنديل
بالفعل، الاحتفال بثورة يناير هذا العام مختلف، ليس فقط لأن أهلها جعلوه عيدًا، وليس ذكرى، ولا لأن عدوّها الرئيس قرّر تغيير خطابه بشأنها، من مؤامرة إلى "ثورة قادها شباب مخلصون متطلعون للمستقبل".
الاحتفال مختلفٌ هذه المرة، كونه تجاوز حالة النوستالجيا إلى الاستشراف والتوثب، خروجًا من ماضوية كربلائية، في الغالب، إلى طرْق على أبواب المستقبل، بيقين أنه لا بد أن يفتح مجدّدًا لاستكمال ما توقف، ووصل ما انقطع، واستئناف ما استسلم إلى العجز والكسل وقلة الحيلة. يلفت النظر، كذلك، هذا الاعتزاز بما جرى قبل عشر سنوات، والثقة في القدرة على إحياء الحلم، والإيمان بأن اللحظة الراهنة تستوجب استدعاء "يناير" ليس بتفاصيله الكاملة بالطبع، وإنما بجوهره الأخلاقي، وأسسه الاجتماعية والإنسانية.
غير أنه في زحمة "مهرجان التذكّر" الفردي والجماعة، يتم القفز على محطاتٍ، وإسقاط أخرى من الذاكرة، عمدًا أو كسلًا أو إهمالًا، في مقابل محاولات صناعة أساطير على نحو فيه كثير من المبالغات الفجّة.
على أن الأخطر هو النزوع إلى اختراع سرديةٍ جديدة، تبدو معها ثورة يناير مقطوعة الصلة بما قبلها من محطاتٍ عديدة في مسيرة النضال الوطني، وكأنها على قطيعة مع ما سبقها، بشكل يشي ببعض الخيلاء، وربما الاستعلاء الذي كان أحد أسباب فقدان الأمل في أن تكون الثورة قاطرةً لمشروع تغيير حقيقي وجذري، الأمر الذي منح الثورة المضادّة فرصة الانقضاض والانتقام.
الثابت أن ثورة يناير 2011 كانت متمّمة لمسيرة نضال طويلة جدًا طلبًا للحرية والكرامة والعدل، فيها من رائحة نضال الطلاب والعمال والفلاحين بامتداد القرن العشرين كله، من تظاهرات الطلبة في الأربعينات، مرورًا بانتفاضة الطلاب في العام 1968 وانتفاضة جماهير الشعب ، عمالًا وفلاحين وطلبة، في يناير 1977، وما تلاها من محاولاتٍ فرديةٍ وجماعيةٍ لصناعة التغيير، قادها مناضلون عظام من جيل الآباء، في مقدمتهم الراحل المثقف الموسوعي والسياسي النظيف الدكتور عبد الوهاب المسيري، الذي أسس حركة "كفاية" صاحبة الدور المشهود في وضع التغيير، مفهومًا ومطلبًا، على موائد الكلام في الشارع والبيت والمقهى، بالقرية والمدينة، وصولًا إلى انتفاضة عمّال المحلة الكبرى في العام 2008 وظهور حركات جديدة مثل السادس من أبريل، وصولًا إلى حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات والجمعية الوطنية للتغيير، وظهور محمد البرادعي.
ولا يمكن بالطبع إغفال نضالاتٍ أخرى اتخذت شكل تحدّي النظام القائم في معارك انتخابات نيابية، أظهرت عورات السلطة واستبدادها على الجميع، لتكون المحصلة في نهاية المطاف يقينًا ساطعًا لدي الغالبية بأنه حانت ساعة التغيير بقوة الجماهير، بعد انسداد كل قنوات السياسة، إثر التصلب الذي أصاب شرايين منظومة الحكم الأوليغارشية، لتأتي فاجعة مقتل الشاب خالد سعيد، تعذيبًا على يد الشرطة، لتكون الشرارة التي أشعلت وقود الغضب المتراكم على امتداد عقود طويلة، أو بحسب تعبير قديم لهيكل "كل القدور غلت فوق كل المواقد".
المعنى، أن ثورة يناير لم تكن وجبة سريعة جهزت وطبخت بمقادير معينة، ولا قهوة سريعة التحضير، مستوردةً من الخارج، ولا تجربة معملية نفذها محترفون، بل كانت تتويجًا لكفاح الشعب المصري كله، سعيًا إلى العدل الاجتماعي والكرامة الإنسانية والوطنية، فلا هي ثورة الشباب وحدهم، ولا الكبار وحدهم.
صحيحٌ كان الشباب في طليعتها، لكن المؤكّد أن الشعب احتضنها فصارت ثورة مصر كلها. وأتذكر جيدًا أن كثيرين، كنت منهم، حذّروا، في وقت مبكر مما وضعت له عنوان "حرب استنزاف الثورة"، وأشرت إلى الثغرة التي يحاول أعداء الثورة إحداثها للنفاذ إليها وتدميرها بها، فقلت، بعد نحو شهر من خلع حسني مبارك، إنه "ليس بعيدا عن ذلك الإلحاح على أن هذه الثورة ليست إلا انتفاضة شبابية، بحيث يوضع الشباب في مواجهة مع باقي شرائح المجتمع، بما يفضي إلى أن "شوية عيال بيولعوا البلد"، وذلك كله من سقط القول و"حصرم" الخطاب الإعلامي الذي لا يصل تأثيره إلى أبعد من استوديوهات العار التي تمارس ألوانا جديدة ومبتكرة من الدعارة الفكرية".
وبما أنها ثورة مصر كلها، فإن التأريخ لها ينبغي أن يكون منصفًا وأخلاقيًا، وفي ذلك أظن أن أي توثيقٍ لأيام الحلم الجميل الثمانية عشر لا يضع يوم الثاني من فبراير/ شباط باعتباره يوم الفصل بين الانكسار والانتصار، أو يوم بعث الثورة من جديد، أو ما سمي "يوم موقعة الجمل" هو تأريخ مخلّ وتوثيق منحرف عن الحقيقة، أو يمكنك تصنيفه نوعًا من الكذب على الذاكرة، بإهمال الأهم وإبراز وجوه وأسماء، وإطلاقها في سماء الاحتفال بعيد الثورة مثل بالوناتٍ مملوءة بالوهم.
إن المرور السريع على اسم المناضل والثائر، قبل الثورة بسنوات، محمد البلتاجي، أو تناول ملحمة الصمود التي قادها مع حشود من شباب الإخوان المسلمين، يوم موقعة الجمل، في جملة اعتراضية عابرة، مقابل فبركة أساطير وبطولات وأيقونات مزيفة، هو نوع من الخداع الإعلامي الرخيص. كما أن تجاهل تعريف ثورة يناير بأنها الثورة التي اقتادها رموزها إلى الخدمة في معسكرات أعدائها، والغدر بالرئيس الذي جاءت به إلى الحكم، هو أيضًا من الأعمال المشينة التي كانت تمارس في استوديوهات الكذب بعد خلع حسني مبارك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق