على هامش العلا .. في قلب الحضيض
لم تحضر مصر إلى "قمة العلا"، على الرغم من الإعلان الرسمي عن وصول وزير خارجيتها، سامح شكري، مقر انعقاد القمة الخليجية.
الجميع بحث عن مشهد واحد فيه وزير الخارجية المصري .. أي دور، أي لقطة، أي دليل على أن مصر موجودة، لكنه لم يظهر، لا في استقبالات الوفود في المطار، ولا في قاعة الانعقاد، لحظة التوقيع على البيان الختامي، عقب الكلمات السريعة.
لم يظهر سامح شكري وزير خارجية مصر الكبيرة، وظهر الصغير جاريد كوشنر، زوج بنت الساقط دونالد ترامب.
لم تكن مصر في "العلا"، لأنها كانت هناك عند"السفح" تتردّى في حضيض الجنون والهستيريا والبحث عن خصوم جدد، وأعداء جدد، فهي تتقن صناعة الخصومة، وزراعة العداوة .. هي بالأساس متخاصمة مع ذاتها في الداخل، وعلى خلاف عميق مع تاريخها ومحتواها الحضاري، فكيف تكون معنية بالتصالح مع الخارج، أو بين أطراف في الخارج؟.
لو أن مصر هي مصر الحقيقية التي في خاطر العرب، لكانت هي الراعي الأول والوحيد لمصالحاتٍ عربية، بل أنه لو كانت هي مصر، وليست نسخة زائفة ورخيصة منها، لما تخاصمت شقيقاتها العربيات من الأساس.لكن الحقيقة المؤلمة أنها كانت السبب في القطيعة بين بلدان الخليج، أو بالحد الأدنى أكبر أسباب القطيعة، والمؤلم أكثر أنها حين انطلقت دعوة المصالحة كانت متلمظة، تخبط الأرض بقدميها في نزقٍ لا يليق بالكبار، اعتراضًا على إنهاء القطيعة.
دعني استدرك، قبل التفصيل، وأقول لك إني أتحدّث هنا عن مصر الرسمية، أو النظام السياسي الذي اختطف الحكم فيها، وأذكّرك بما قلته قبل ثلاث سنوات مع بداية الأزمة الخليجية، إن ما نتحدّث عنه ونرصده، ونشير إليه، ونتخفى خجلاً منه، ليس هو مصر الحقيقية التي يعرفها كل مدركٍ في العالم، بل هو طور منعدم القيمة، منخفض القدر، حد الوضاعة، منها، وهو طور لا علاقة له من بعيد أو قريب بما يعرفه العارفون عنها، ويحفظونه له.
توقعت مع أجواء مصالحة العلا، والتي لعبت الدور الأكبر فيها دولة الكويت، أن يتعلم نظام عبد الفتاح السيسي من أخطائه وخطاياه في صيف 2017 مع بداية الأزمة، وفرض الحصار والمقاطعة على قطر، وتخيّلت أن الدبلوماسية المصرية، ممثلة في خارجيتها، ستحضر هذه المرّة، وأن عاقلًا أو عقلاء سوف لا يسمحون بأن يكون نعيق استوديوهات اللوثة الإعلامية، هو المعبر عن الموقف الرسمي .. تصوّرت أنهم سينتهزون الفرصة التاريخية لإصلاح ما أفسده السفهاء والغوغاء.
كان المنتظر، أو المأمول، أن يستيقظ العقل السياسي، ويأخذ مكان الهوس الإعلامي، لإدارة هذه المسألة، لتحضر القاهرة لاعبًا أساسيًا، أو حتى حكمًا عادلًا، يُصلح بين الأشقاء، غير أنها تشبثت بما وصفتها مع بداية القطيعة في 2017 : حالة المشجّع الهتّيف، بأجر، في الملاعب الخارجية، فيرتحل حيثما تساقطت المكاسب الصغيرة، لينحني يلتقطها برشاقة، ويمارس أدوار مطلقي الشعارات البذيئة وقاذفي الطوب، من خارج الخطوط، يفعل ذلك بكل همّة ونشاط واندماج في الحالة، حتى يصل إلى مرحلة الوحدة مع اللاعبين، وهو ما يفضي إلى نوعٍ خطيرٍ من الهستيريا، إذا ما استشعر انفضاض الموقعة فيصيبه الغمّ والهم، ويصرخ مذعوراً من شبح التهدئة بين الخصوم.
شخصيًا، ومع اختلافي الجذري مع نظام السيسي، الذي هو تعبير عن سلطة الأمر الواقع التي جاءت بانقلابٍ مقترنٍ بجرائم ضد الإنسانية، تمنّيت لو أنهم استثمروا الفرصة ليُظهروا بعضًا من ملامح مصر الأصيلة، تلك التي ارتسمت بفعل التاريخ والجغرافيا .. لكنهم، وكالعادة، لم يخيّبوا الظن فيهم، وأداروا الأمر عن طريق سائمة الإعلام السفيه، لا عن طريق الدبلوماسية العريقة، فكانت النتيجة أن دخلت مصر في موقفٍ يُضحك ويبكي في آن واحد.
كان الشعب العربي يرنو بالأمل إلى مقر القمة، متعجلًا الأخبار السارّة التي تنهي التشققات والتصدّعات التي أصابت الجميع بالضرر، من الغرب إلى الشرق، بينما كانت مصر الرسمية مستغرقةً في أوهامها الفاشية، تخاصم شعبها، وتظن أنها من الممكن أن تنتصر على الجائحة، وهي على هذه الحالة من التشظّي والانقسام المجتمعي.
كان الكل يحلم بتلك اللحظة التي تنتهي فيها الخصومة بين الأشقاء، أو على الأقل تأخذ شكلًا إنسانيًا وعقلانيًا، وكان المصريون الحقيقيون يمنّون النفس بالخروج من هذه الدائرة العبثية، بشكلٍ محترمٍ يحفظ الكرامة، تبادر فيه القاهرة بالحضور، باختيارها وإرادتها، لا تحت ضغط أو إجبار من هذا الطرف أو ذاك، لكنهم للأسف اختاروا أسوأ السيناريوهات وأكثرها إهانة: تصعيد طوال الليل ضد المصالحة وهجوم على المتصالحين، وأيْمان مغلظة بأن مصر لن تحضر ولن تشارك ولن توقع على الصلح، ثم في الصباح تبخّر كل ذلك السخام، وذهب وزير الخارجية، ووقع على البيان.
أسفي على مصر التي كانت، في أزمنة أخرى، عنوانًا لا يخطئه أي باحثِ عن مفاتيح تخصّ استقرار المنطقة، أو حتى فوضاها .. لكنها قرّرت أن تُقصي نفسها إلى الهامش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق