القرآن والإنسان وأخلاق المستبدّين
مهنا الحبيل
تقوم الأسس الإيمانية للرسالة الإسلامية على يقينيات إدراكٍ كُليّة. وحين نقول يقينيات فهي تجمع بين ما يسمّى، منذ الفلسفة القديمة، عالم الشهود، أي ما يشهده الإنسان ببصيرته، خلقٌ منتظم الدقة يستحيل تكوّنه مصادفة، وجسم الإنسان المتسق مع الخلق العام، وما يسخّر له في هذه الأرض، وهو عالم متصلٌ بكلّ اكتشافات العالم التجريبية الحسيّة، القائمة على قطعيةٍ علمية، لا نظريات جدلية.
كصفات التطور، على سبيل المثال، ما هي في الأصل وكيف انتهت إليه، في حين أنّ التطور في معالم الجسم الأساسي لم تتغير منذ بدأ الخلق في أصل المكونات، وفي نشأتها الأولى التي نصّ عليها القرآن: "أمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ"، وفي الآية الأخرى: "أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ".
فلا يوجد على الإطلاق في عمر الحياة الإنسانية ما ينقضُ دلائل الخلق المادي التي وردت في الكتاب العزيز، وهي تُستشرف في كلّ مراحل الخلق وتُعلم يقيناً. أما الثاني فهو إيجاد الروح التي تربط بين كتلة المادة المنسجمة في ذات الإنسان، وما بينه والعوالم الأخرى المتعدّدة حوله، ويُستبصر الانسجام الكوني المعجر فيها، كما في تسخير الطبيعة للإنسان، وهو ما يعزّز دوماً هذه القاعدة اليقينية.
المعادلة الحياتية للإنسان أثبتت التجربة المعاصرة أنّ ما أُسمي الإنسان - الإله الذي خلقته الحداثة المادية قد أفسد الطبيعة في ذاتها
ونجد هنا عالم الغيب الذي يتحدث عنه الله عز وجل، موجدُ النشأة والروح، وهو عالمٌ لا يُدرك بالحسيّة المباشرة اليوم قطعاً، ولكنه بُلّغ للبشرية عبر الرسل والرسالات التي من المستحيل أن تتواطأ عليها، وهي موثّقةٌ في ميراث الشعوب وفي العالم القديم، وفي آثار تلك النبوات، القرآن فصل لنا فيها. وهي متطابقة مع ما يصحّ من تاريخ الأمم القديمة ودلائل وجودها على الأرض، وبالذات في الشرق، كونه مهبط تلك الرسل، وموقع الصراع بينه وبين المستبدّين المتألّهين الذين اضطهدوا العالم القديم، وأرهبوا الأبرياء، وهذا التأله الذي حاربه القرآن يتكرّر اليوم، في مستبدّين بعضهم يزعم أنّه مسلم، وهو يمارس "ألوهية" إرهابية، عظّم جرمها القرآن.
هنا يتبيّن لنا هذا المسار المتناسق، ويبقى الوعد الإلهي أو التوعد لحمل الذات على تجنّب الضلال، كونها تحتاج إلى دافع ترغيب وترهيب، ثم تؤول إلى ما بعد نهاية التاريخ التي لا يمكن للعقل البشري أن يستوعبها، ولكنّ دلائل القرآن التي وضحت الحياة أعطت تصوّراً واضحاً عنها.
وأما المعادلة الحياتية للإنسان، في فطرة الله وصلاح الأرض والانسجام مع بقية الخلق والأرحام، والإحسان بين كلّ بني الإنسان، فقد أثبتت التجربة المعاصرة أنّ ما أُسمي الإنسان - الإله، الذي خلقته الحداثة المادية قد أفسد هذه الطبيعة في ذاتها، وفي ذات الإنسان وشركائه، في حين كانت في فطرتها الأولى تمثل مسلكاً أخلاقياً للوجود المشترك.
لكون الظلم أبشع صور السوء الأخلاقي، فقد كان متواتراً في القرآن الكريم، معزّزاً بالشواهد، يوجّه تقريعه دوماً لذوي النفوذ، لا المستضعفين
هنا نفهم لماذا تَردُ آيات الوعد والوعيد، لقمع الروح المتطرّفة في تحويل ذاتها إلى ظالم نفسه ينكر حق ربه وحق الآخرين. ولكي يظلّ هذا العالم، وبالذات إنسانه، يراعي عودته الأخروية لله عزّ وجل، فيُحْسن إدارة ذاته، ويضبط أخلاقه مع الآخرين، ومع الحيوان والمادة والجسم الكوني الشامل في الناموس الذي يعيشه ويستشعره.
هذا المدار الكامل للحياة نفهم منه البعد الأخلاقي المركزي لحياة المسلمين، في الندب الأول القديم لهم حتى آخر لحظات الحياة. والمسلمون هنا هم من انطبق عليه معنى الفهم والتسليم، ثم التعبد بالجوهر الأخلاقي مع الله ومع الناس، في كلّ دورات التاريخ البشري، والله أعلم بمدار الإنسان وأحواله، وما يُقبل منه في كلّ ظرفٍ وعالم زمني، والرحمة المؤسّسة على العدل، أو القائمة بذاتها هي قاعدة البلاغ القرآني.
ولكون الظلم أبشع صور السوء الأخلاقي، فقد كان متواتراً في القرآن الكريم، معزّزاً بالشواهد، يوجّه تقريعه دوماً لذوي النفوذ، لا المستضعفين، إلا من تابع أو دعم المستبد في ظلمه، بل إنّ المستضعفين والمظلومين والمضطهدين وذوي الحاجات دائماً في مركز الدفاع القرآني، والحثّ على نجدتهم ورعايتهم. وهم دوماً في مسؤولية الدفاع النبوي على مدار التاريخ القديم، منذ أول رسالة إلى مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، في حين كان الطغاة والظلمة في مركز هجوم القرآن وتعريته لهم، بل والسخرية من دعاوى إيمانهم "فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ".
جاء النص عن أنّ قتل نفسٍ واحدةٍ بغير حق، أيّ نفس، مؤمنة أو غير مؤمنة، فكأنّما قتل الناس جميعاً فيها، لأنّ إباحة قتل نفسٍ تعني إجازة التشريع بذلك والتهوين منه
تجلية هذا الأمر اليوم قضية مهمة، لوضع الإطار التصوّري الصحيح، عن دعاوى الوعّاظ أو خطاب المستبدّين بذاتهم، عن صفتهم الدينية، أو صلاحيات التشريع المزعومة لهم، وإعطاء ذواتهم غطاءَ تزكية، وقد قطع الله بتوعّدهم يوم العرض الأكبر.
إنّ هذا السياق لا يَدمج بالطبع كل مستويات الظلم في إطار واحد. لكن، لأنّ مفردة الظلم دلالة، وممارسته قائمة وإن كانت ضدّ نفس واحدة، فقد جاء النص "من قتل نفساً بغير نفسٍ فكأنما قتل الناس جميعا"، ليُعلن للتاريخ البشري أنّ قتل نفسٍ واحدةٍ بغير حق، أيّ نفس، مؤمنة أو غير مؤمنة، فكأنّما قتل الناس جميعاً فيها، لماذا؟ لأنّ إباحة قتل نفسٍ تعني إجازة التشريع بذلك والتهوين منه، فلننتبه هنا إلى دقّة التحذير القرآني، ثم لنعد إلى معنى قول النبي، صلى الله عليه وسلم "لأن تُهدم الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من أن يراق دم امرئٍ مسلم"، وهنا ربط البيت العتيق بدم المسلم، لأنّه أقرب عند المستبدّين الاحتجاج بالرموز الدينية في قتل المسلم، فجُعلت حياته أهم من حرمة البيت العتيق المتّصلة بالله عز وجل، في بلاغ مقدس لا مثيل له.
ثم ننظر في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم، هو بذاته يعلن أنّه من سيُحاجج يوم القيامة عن غير المسلمين الذين ظلموا من مسلمين، يترافع عنهم في محكمة العدل الإلهية، لصالح مظلوم غير مسلم في مقابل المسلمين الظالمين، فما أكثر الظلم اليوم في دين المستبدّين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق