ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان، لا عند الصهاينة، ولا عند غيرهم من المراقبين.
ظن المقدسيون بعد تمادي العدو ووحشيته أنهم لوحدهم في الميدان. فمن جانب، وجدوا الرئيس وقد بلغ من العمر عتيا، مشغولاً بكيفية الاستمرار والاحتفاظ بكرسيه المهزوز، وكيفية المحافظة على وعوده في التنسيق الأمني مع عدو يحتقره. وفي جانب آخر، يرون غزة مشغولة بنفسها، وهي تواصل الصمود ضد حصار ظالم جائر أمام مرأى ومسمع العالم كله. في حين بقية الشعب الفلسطيني متناثر ومنقسم هنا وهناك.. هذا كله دفع الصهاينة وقطعان المستوطنين إلى مزيد من الحماقات. فلا رادع أمامهم يمكن أن يردعهم، وبالتالي لما لا يستمر مسلسل الاستفزاز وارتكاب الحماقة تلو الأخرى، ظنا منهم أنها ستكسبهم مكاسب جديدة إلى مكاسبهم القديمة.
في غمرة ذلك الشعور عند المقدسيين، واقترابهم من اليأس من أي دعم أو مساندة عربية مأمولة، تدخل غزة العزة على الخط، لتبشر المقدسيين، وتعلن لهم وللعالم كله أنهم رغم ظروفهم موجودون وعلى أتم الاستعداد لمزيد من التضحيات، وأن الهدف الآن ليس الدفاع عن غزة، بل القدس وعموم فلسطين. وحين تدخل القدس بما تحتويه من مقدسات، فالمسألة تختلف كلية، وهذا ما كان العدو المحتل يحرص عليه أو يعمل سنوات على إبعاد القدس كهدف إستراتيجي يمكن أن يجتمع عليه الفلسطينيون، فما بالك وقد أثار العالم الإسلامي كله -على الأقل شعبيا- وهذا الذي جعل غزة تدخل الميدان بعزة وثقة، لتعلن أن الوقت حان لتغيير قواعد اللعبة أو قواعد الاشتباك، وأنها -أي حماس- هي من ستفرض من الآن فصاعدا تلك القواعد، بعد أن بلغ السيل الزبى، أو هكذا بدا الوضع في عموم فلسطين خلال الأسابيع الماضية.
معركة سيف القدس
تسخن الأجواء بدخول غزة في رفع الظلم الذي وقع على المقدسيين، وتبدأ كتائب القسام في إرسال رسائلها إلى الصهاينة، الواحدة بعد الأخرى، والمطالبة برفع ظلمهم عن المدينة المقدسة وأهلها سلميا قبل اللجوء إلى حلول أخرى قد يندم الصهاينة كثيرا بتجاهلها. ووقع التجاهل فعلاً، ورأى الصهاينة جدّية رسائل غزة عبر صواريخ أضاءت سماء مدنهم، القريبة من القطاع والبعيدة، بل دخلت المعركة صواريخ جديدة إستراتيجية، أجبرت على إغلاق مطار بن غوريون الدولي، مع ما ينتج عن ذلك من خسائر اقتصادية كبيرة، وأجبرت صواريخ القسام أكثر من 70% من سكان دولة الاحتلال على العيش في الملاجئ، مما يعني تعطل الحياة الاجتماعية والاقتصادية هناك، وما يثيره ذلك من مضاعفات على الحالة المعنوية والنفسية للسكان ومنهم العسكريون أيضا.
الجديد في معركة سيف القدس أن غزة دخلتها بثقة، كما لو تبدو استشرفت هذه الحرب، وأنها واقعة لا محالة، وبالتالي هذا الاستشراف دفعهم لإعداد العدد والعُدة اللازمة لحرب قد تكون فاصلة أو حاسمة ومسببة لتغييرات كثيرة في المنطقة، ستجعل على وجه أخص دول الجوار في حرج بالغ، لا سيما الأردن ومصر، مع ما لذلك من تأثير على الداخل الأردني والمصري، قد لا تظهر نتائجه سريعا، لكنها ستؤثر بصورة وأخرى على شكل الأنظمة واستقرارها.
إن عدتم عدنا
إن غارة جوية صهيونية واحدة على غزة تدفع بزخات ومئات الصواريخ القسامية تجاه مدن العدو. ولسان حال القطاع يقول: إن عدتم عدنا. هذا مؤشر مهم يدل على تحول كبير ميدانيا. صار العدو يخشى جيش غزة أكثر من كل الجيوش العربية باعتراف الرسميين منهم والإعلاميين، بعد أن تحول هذا الجيش إلى جيش نظامي صاحب عقيدة قتالية واضحة، وبناء تنظيمي متماسك، وتأثير ثقيل على أرض الواقع. أضف إلى ذلك ميزة أخرى بالغة الأهمية هي القدرة على التصنيع العسكري والقدرة على المناورة وتحريك العدد والعتاد سريعا من نقطة إلى أخرى.
وفوق هذا كله، امتلكت حماس القدرة على فرض قرارها على العدو، فهي تختار الوقت والمكان لبدء الهجوم، وما على الطرف الآخر إلا الاستجابة، وهذا ما دفع بكثير من الإسرائيليين للقول إن محمد ضيف هو من يتحكم بملايين الإسرائيليين، متى الدخول إلى الملاجئ ومتى الخروج منها لأمور إنسانية، في تطور لافت ومشهود.
من المشاهد الملحوظة في الأحداث الجارية الآن في غزة، أن أهالي القطاع ومجاهديها لا يسألون الناس إلحافا خارج فلسطين، سلاحا أو مالا أو طعاما أو حتى دواء، بل الدعاء بظهر الغيب أن يثبت الله أقدامهم، ويزلزل الأرض من تحت أقدام عدوهم، وبالدعم الإعلامي بكافة أشكاله.
ولعل الحرب الإعلامية بدأت نتائجها تظهر سريعا حتى ضاق الأمر بالعدو أن يستنهض كل من معه ويستغل أوراقه للوقوف أمام مد إعلامي عربي وإسلامي ودولي يستنكر أفعال جيشه، حتى تكونت صورة ذهنية جديدة غاية في البشاعة عن دولة الاحتلال. وإن صناعة الصور الذهنية لتأخذ من المال والوقت الشيء الكثير، لكن بفضل الله، ثم حماقة العدو ومن يدافع عنه من صهاينة العالم، ومنهم صهاينة عرب، أن نشأت صورة ذهنية له سيحتاج سنوات وسنوات لمحوها من أذهان العالم.
أين المطبعون الجدد؟
مشهد آخر وليس أخيرا هو موقف المطبعين العرب الجدد من الأحداث، وكأنما لسان حالهم بعد كل الذي يجري الآن يقول: وددنا لو لم نهرول نحو التطبيع، وتريثنا بعض الشيء. ها هي دولة العدو تواجه مشكلات وانقسامات ودعوات ترجو الحكومة التفاهم مع حماس وليس غيرها لوقف البؤس الذي انتشر بينهم في أيام معدودات. بل إن دعوات أخرى بدأت تتصاعد وتدعو للهجرة العكسية في ظل فقدان الأمن والأمان، وهما سبب هجرة اليهود إلى فلسطين فيما مضى من وقت. ألا وإن غيابهما الآن صار واقعا، فلا شيء يدعو للبقاء، خاصة وأن غالبية المهاجرين اليهود أصحاب جنسيات مزدوجة. إذ قليل ما تجد إسرائيليا لا يحمل جنسية أخرى، لأن عنصري الأمان والثقة غائبان، رغم كل دعايات حكومة الاحتلال. فما حاجة المطبعين العرب إلى دولة هذه حالها في أول مواجهة واختبار حقيقي لها؟
إن مثل هذا الوضع لم يكن ليحدث لولا ما يحدث الآن على الأرض من ظلم واضح بيّن. وضعٌ لم يسع إليه الفلسطينيون بهذه السرعة، على عكس العدو ولحاجات في نفسه. وهذا ما عجّل الله بظهورها وكشفها لتتحقق الآية الكريمة تارة أخرى، من بعد أن كانت الأولى في معركة بدر الفاصلة حين قال سبحانه (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم) (الأنفال: 42).
إنه الله سبحانه يدير هذه المعركة ليكشف حقيقة العدو، ويكشف المنافقين من الداخل والخارج، ويكشف حقيقة المجاهدين والمرابطين. ها هم أولاء وقد انكشفوا جميعا. عدو متغطرس لا يفقه قوانين وسنن الكون، ومنافقون منتفعون لا يتعلمون دروس التاريخ، ومجاهدون عرفوا المعنى العميق للتوكل على الله والجهاد في سبيله لا غيره، رغم أن الأجواء حولهم مليئة بغربان تنعق، وأصوات باطلة تصرخ وتدعوهم ليل نهار (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (آل عمران: 137). نعم، قالها أهل غزة: حسبنا الله ونعم الوكيل، وإن وقف العالم كله ضدنا، فالله أكبر وأعظم، ولن يخذلنا أبدا.. فاللهم ثبت أقدامهم واربط على قلوبهم، وزلزل الأرض من تحت أقدام الصهاينة الغاصبين، ومن معهم من الحاقدين والمنافقين، إنك سميع عليم مجيب الدعوات، يا رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق