بين سرقة حُلْمين عربيين 1920 و2011
أحمد موفق زيدان
وثّقت الكاتبة الأميركية إليزابيث تامبسون -في كتاب لم يُسبق إلى فكرته ومضمونه- رحلة سرقة حلم عربي عام 1920، يوم نشرت كتابها العام الماضي بعنوان "كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب"، وغاصت الكاتبة في حوليات تلك السنوات، وما سبقها عبر تقصّيها كل ما نشر، وما لم يُنشر عن تلك المرحلة من وثائق عثرت عليها، بلغات فرنسية وعربية وإنجليزية، لترسم لنا صورة متماسكة واضحة، لا لُبس فيها ولا غموض، عن مسؤولية الاحتلالين الفرنسي والبريطاني في سرقة الحلم العربي في سوريا يوم خذل الحلفاءُ الشريفَ حسين وأبناءه بإقامة خلافة عربية بديلة عن العثمانية، برئاسة الشريف حسين نفسه، ويتم الخذلان ثانية بطرد فيصل من سوريا، وتفكيك الجيش العربي الفيصلي، لا لشيء سوى لأنه يضم نخبا عربية سنية عريقة، استمدت خبراتها من تاريخ طويل أيام الحكم العثماني، حيث كان معظم حاشية الملك فيصل من المقربين للسلطان عبد الحميد، كمحمد علي العابد الذي كان مستشاره وسفيره في واشنطن، والذي غدا فيما بعد رئيسًا لسوريا، ونوري السعيد وياسين الهاشمي وفوزي القاوقجي وغيرهم كثير.
تخلُص الكاتبة والمؤرخة الأميركية إلى تحميل الغرب -وتحديدًا فرنسا- مسؤولية مباشرة عن سرقة حلم السوريين بتأسيس مملكة أساسها الديمقراطية، تستوعب الأقليات، وتؤسس لدستور عريق. ولم يدم حكم هذه المملكة العريقة سوى عامين فقط، ولم تكتفِ فرنسا بسرقة حلم الدستور يومها، بل سرقت حتى نصوصه التي غابت عن السوريين والمؤرخين إلى فترة ليست قريبة، وأسست من ثم لحكم الأقلية، وبذرت بذور حكم البعث الذي ظهر بعد عقود، من خلال نشرها أجهزة مخابراتها في كل مفاصل الخدمات العامة، حتى الصحية منها.
كما تبسط الكاتبة في كتابها، بالإضافة إلى استخدام الاحتلال الفرنسي القصف والإرهاب الجوي ضد القرى والبلدات السورية، بحجة ملاحقة المتمردين عليها، وهو ما رأيناه لاحقًا في ظل حكم البعث، وتحديدًا حكم السلالة الأسدية من الأب إلى الابن، ولا يزال السوريون يتذكرون بعد هلاك باسل الأسد، ونزوع حافظ الأسد إلى تحضير بشار للخلافة؛ كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك أول المستقبلين له، بصفة غير رسمية على درج قصر الإليزيه، مما يؤكد النزعة الفرنسية المتأصلة في الجينات لدعم الأقلية العلوية الطائفية في الحكم، ممثلة في آل الأسد.
اليوم يتضح لنا تمامًا مدى الدعم والتأييد الغربي والشرقي، والتواطؤ الرهيب في خذلان الثورة السورية 2011 وغيرها من ثورات الربيع العربي، ذلك أنها لو انتصرت فالحق سيعود لأصحابه وهو الشعب، إذ يخشى الغرب أن تنقلب حينها الشعوب عليه وعلى سياساته، وهو العارف بحجم الخذلان والتآمر الذي اقترفه بحقها على مدى عقود.
فرنسا كانت -كما وصفها أحد السياسيين الغربيين قبل عقود- أذكى من البريطانيين في استغلال الأقليات وتوظيفهم لمصالحها، بعد أن مكنت لحكم الأقلية في سوريا، عبر تأسيس جيش المشرق الرديف لاحتلالها، الذي تكون من الأقليات يومها، فغدا لاحقًا نواة الجيش السوري. وحرصت باريس منذ احتلالها على زرع بذور الانقلابات، ولعل ما يؤكد ذلك حصول انقلاب حسني الزعيم بعد 3 سنوات فقط من الخروج الفرنسي من سوريا، شكلًا لا مضمونًا، مما يؤكد حجم التركة الثقيلة والألغام الخطيرة التي خلفها الاحتلال وانفجرت سريعا في وجه المجتمع السوري، عبر تغلغل جيش الشبيحة الفرنسي تحت مسمى الجيش السوري، في مفاصل الحياة السياسية السورية، بعيدًا عن كذبه ودجله في وظيفته المعلنة بحماية الحدود وتحرير فلسطين.
فرنسا في المقدمة، والغرب من ورائها ومعهم روسيا اليوم، يؤكدون أمرا واحدا؛ هو الإصرار على بقاء المؤسسة العسكرية والأمنية، نظرًا لنجاح الأقلية العلوية الحاكمة في تدجين الشعب السوري، طوال نصف قرن من مواجهة الصهاينة، ولذا لم يسمحوا بتفكيك الجيش الأسدي، وهم الذين دعموا تهجير 14 مليون سني، وسمحوا به وصمتوا عنه، وقتل مليون، فضلاً عن تعذيب مئات الآلاف وجرحهم، وتدمير أكثر من 70% من المدن السنية العريقة.
وفي العراق سعوا -بتأييد بريطانيا، لخلفيتها الاستعمارية في معرفة العراق- إلى تفكيك الجيش العراقي لتصحيح خطأ تاريخي يرون أنهم اقترفوه يوم سلّموا الجيش لأغلبية سنية لها خبرات بيروقراطية عريقة في الحكم منذ العهد العباسي إلى العهد العثماني، ليأتوا عام 2003 ليصححوه -حسب نظرهم- ويسلموه إلى أقلية شيعية ليست لديها خبرة بيروقراطية، فتقع رهينة للاحتلال والتدخلات الغربية، تمامًا كما حصل مع الحكم الفرنسي لسوريا في تمكين الأقلية العلوية، ومن ثم يحصل الشق الكبير بين الشعوب، ويلعب الاحتلال على وتر تناقضات زرعها وسقاها ورعاها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق