ماذا أعد السلطان محمد الفاتح لفتح القسطنطينية؟
د. علي الصلابي
هو السلطان محمد الثاني (833-886 هـ/1429-1481 م)، ويعتبر السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان ويلقب بـ"الفاتح"، و"أبي الخيرات"، حكم ما يقارب 30 عاما كانت خيرا وعزة للمسلمين، تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده في 16 محرم 855 هجري الموافق 18 فبراير/شباط 1451 ميلادي، وكان عمره آنذاك 22 سنة.
امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل، كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء، خاصة معرفته لكثير من لغات عصره، وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ، مما ساعده في ما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال، حتى أنه اشتهر أخيرا في التاريخ بلقب "محمد الفاتح" لفتحه القسطنطينية.
انتهج محمد الفاتح المنهج الذي سار عليه والده وأجداده في الفتوحات، وبرز بعد توليه السلطة في الدولة العثمانية بقيامه بإعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيرا بالأمور المالية، فعمل على تحديد موارد الدولة، وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ، وكذلك ركز على تطوير كتائب الجيش، فأعاد تنظيمها، ووضع سجلات خاصة بالجند وزاد مرتباتهم وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوافرة في ذلك العصر.
وعمل على تطوير إدارة الأقاليم، وأقر بعض الولاة السابقين في أقاليمهم، وعزل من ظهر منه تقصير أو إهمال، وطور البلاط السلطاني، وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة، مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم إلى الأمام.
وبعد أن قطع أشواطا مثمرة في الإصلاح الداخلي تطلع إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر الإسلام فيها، وقد ساعدته عوامل عدة في تحقيق أهدافه، منها: الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب المنازعات مع الدول الأوروبية الأخرى، وكذلك بسبب الخلافات الداخلية التي عمت جميع مناطقها ومدنها.
ولم يكتف السلطان محمد بذلك، بل عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية والمعقل الإستراتيجي المهم للتحركات الصليبية ضد العالم الإسلامي لفترة طويلة من الزمن والتي طالما اعتزت بها الإمبراطورية البيزنطية بصورة خاصة، والمسيحية بصورة عامة، وجعلها عاصمة للدولة العثمانية، وتحقيق ما عجز عن تحقيقه أسلافه من قادة الجيوش الإسلامية.
أولا: مكانة القسطنطينية في التاريخ
تعد القسطنطينية من أهم المدن العالمية، وقد أسست في عام 330 ميلادي على يد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأول، وكان لها موقع عالمي فريد، حتى قيل عنها "لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها"، ومنذ تأسيسها اتخذها البيزنطيون عاصمة لهم، وهي من أكبر المدن في العالم وأهمها.
عندما دخل المسلمون في جهاد مع الدولة البيزنطية كانت لهذه المدينة مكانتها الخاصة في ذلك الصراع، ولذلك فقد بشر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بفتحها في عدة مواقف، من ذلك ما حدث أثناء غزوة الخندق، ولهذا فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة طمعا في أن يتحقق فيهم حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- "لتفتحن القسطنطينية على يد رجل، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش!".
لذلك، فقد امتدت إليها يد القوات المسلمة المجاهدة منذ أيام معاوية بن أبي سفيان في أولى الحملات الإسلامية عليها سنة 44 هجرية ولم تنجح هذه الحملة، وقد تكررت حملات أخرى في عهده حظيت بنفس النتيجة.
كما قامت الدولة الأموية بمحاولة أخرى لفتح القسطنطينية، وتعد هذه الحملة أقوى الحملات الأموية عليها، وهي تلك الحملة التي تمت في أيام سليمان بن عبد الملك سنة 98 هجرية.
واستمرت المحاولات لفتح القسطنطينية، حيث شهد العصر العباسي الأول حملات جهادية مكثفة ضد الدولة البيزنطية، ولكنها لم تتمكن من الوصول إلى القسطنطينية نفسها وتهديدها، مع أنها هزتها وأثرت على الأحداث داخلها، خاصة تلك الحملة التي تمت في أيام هارون الرشيد سنة 190 هجرية.
وفي مطلع القرن الثامن الهجري (الـ14 الميلادي) تجددت المحاولات الإسلامية لفتح القسطنطينية، وكانت البداية حين جرت محاولة لفتحها في أيام السلطان بايزيد "الصاعقة" الذي تمكنت قواته من محاصرتها بقوة سنة (796هجرية/1393 ميلادية)، وفي الوقت نفسه وصلت جيوش المغول يقودها تيمورلنك إلى داخل الأراضي العثمانية، حيث هزمت القوات العثمانية وأسر بايزيد "الصاعقة" ثم مات بعد ذلك في الأسر سنة (1402 ميلادية)، ثم تلت ذلك مرحلة تفكك الدولة العثمانية، وقد تناولنا هاتين المرحلتين في مقالات سابقة.
وما إن استقرت الأحوال في الدولة حتى عادت روح الجهاد من جديد، ففي أيام السلطان مراد الثاني -الذي تولى الحكم في الفترة (824-863 هجرية/ 1421-1451 ميلادية)- جرت عدة محاولات لفتح القسطنطينية، وتمكنت جيوش العثمانيين في أيامه من محاصرتها أكثر من مرة، وكان الإمبراطور البيزنطي أثناء تلك المحاولات يعمل على إيقاع الفتنة في صفوف العثمانيين بدعم الخارجين على السلطان، وبهذه الطريقة نجح في إشغاله عن هدفه الذي حرص عليه، فلم يتمكن العثمانيون من تحقيق ما كانوا يطمحون إليه إلا في زمن ابنه محمد الفاتح في ما بعد.
ثانيا: الإعداد المبكر لفتح القسطنطينية
لقد ساهمت تربية العلماء على تنشئة محمد الفاتح على حب الإسلام، والإيمان، والعمل بالقرآن، وسنة سيد الأنام، ولذلك نشأ على حب الالتزام بالشريعة الإسلامية، واتصف بالتقى والورع وحب العلم والعلماء وتشجيع نشر العلوم.
ويعود تدينه الرفيع للتربية الإسلامية الرشيدة التي تلقاها منذ الصغر بتوجيهات من والده، وجهود الشخصيات العلمية القوية التي أشرفت على تربيته، وصفاء أولئك الأساتذة الكبار ممن أشرفوا على رعايته، وعزوفهم عن الدنيا وابتعادهم عن الغرور ومجاهدتهم لأنفسهم.
لقد تأثر محمد الفاتح بالعلماء الربانيين منذ طفولته، ومن أخصهم العالم الرباني أحمد بن إسماعيل الكوراني المشهود له بالفضيلة التامة، وكان مدرسه في عهد السلطان مراد الثاني والد الفاتح، وفي ذلك الوقت كان محمد الثاني "الفاتح" أميرا في بلدة مغنيسيا، وقد أرسل إليه والده عددا من المعلمين، ولم يمتثل أمرهم، ولم يقرأ شيئا حتى أنه لم يختم القرآن الكريم، فطلب السلطان المذكور رجلا له مهابة وحدّة، فذكروا له المولى "الكوراني" فجعله معلما لولده.
هذه التربية الإسلامية الصادقة وهؤلاء المربون الأفاضل ممن كان منهم بالأخص هذا العالم الفاضل ممن يمزق الأمر السلطاني إذا وجد فيه مخالفة للشرع، أو لا ينحني للسلطان ويخاطبه باسمه، ويصافحه ولا يقبّل يده، بل السلطان يقبّل يده من الطبيعي أن يتخرج من بين جنباتها أناس عظماء كمحمد الفاتح، وأن يكون مسلما مؤمنا ملتزما بحدود الشريعة، مقيدا بالأوامر والنواهي، معظما لها، ومدافعا عن إجراءات تطبيقها على نفسه أولا، ثم على رعيته، تقيا صالحا يطلب الدعاء من العلماء العاملين الصالحين.
وبرز دور الشيخ آق شمس الدين في تكوين شخصية محمد الفاتح، وبث فيه منذ صغره أمرين هما:
- *مضاعفة حركة الجهاد العثمانية.
- *الإيحاء دوما لمحمد منذ صغره بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش!"، لذلك كان الفاتح يطمع أن ينطبق عليه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المذكور.
ثالثا: التخطيط للفتح
بذل السلطان محمد الثاني جهوده المختلفة للتخطيط والترتيب لفتح القسطنطينية، وبذل في ذلك جهودا كبيرة في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده إلى قرابة ربع مليون مجاهد، وهذا عدد كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة، كما عني عناية خاصة بتدريب تلك الجموع على فنون القتال المختلفة، وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهلهم للعملية الجهادية المنتظرة، كما اعتنى الفاتح بإعدادهم إعدادا معنويا قويا، وغرس روح الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الجيش الذي يفتح القسطنطينية، وعسى أن يكونوا هم الجيش المقصود بذلك، مما أعطاهم قوة معنوية وشجاعة منقطعة النظير، كما كان لانتشار العلماء بين الجنود أثر كبير في تقوية عزائم الجنود، وربطهم بالجهاد الحقيقي وفق أوامر الله.
وقد اعتنى السلطان بإقامة قلعة "روملي حصار" في الجانب الأوروبي على مضيق البوسفور في أضيق نقطة منه مقابل القلعة التي أسست في عهد السلطان بايزيد في البر الآسيوي، وقد حاول الإمبراطور البيزنطي ثني السلطان الفاتح عن بناء القلعة مقابل التزامات مالية تعهد بها إلا أن الفاتح أصر على البناء، لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع حتى اكتملت قلعة عالية ومحصنة، وصل ارتفاعها إلى 82 مترا، وأصبحت القلعتان متقابلتين ولا يفصل بينهما سوى 660 مترا، تتحكمان في عبور السفن من شرقي البوسفور إلى غربيه، وتستطيع نيران مدافعهما منع أي سفينة من الوصول إلى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها مثل مملكة طرابزون وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة.
- أ/ اهتمام السلطان بجمع الأسلحة اللازمة:
اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع الأسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية، ومن أهمها المدافع التي أخذت اهتماما خاصا منه، حيث أحضر مهندسا مجريا يدعى "أوربان" كان بارعا في صناعة المدافع، فأحسن استقباله، ووفر له جميع الإمكانيات المالية والبشرية، وقد تمكن هذا المهندس من تصميم وتنفيذ العديد من المدافع الضخمة، كان على رأسها المدفع السلطاني المشهور الذي ذكر أن وزنه كان يصل إلى مئات الأطنان، وأنه يحتاج إلى مئات الثيران القوية لتحريكه، وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها.
- ب/ الاهتمام بالأسطول:
يضاف إلى هذا الاستعداد ما بذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني، حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة، ليكون مؤهلا للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لا يكمل حصارها دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة، وقد ذكر أن السفن التي أعدت لهذا الأمر بلغت أكثر من 400 سفينة.
وسنتناول في مقالات لاحقة بداية الهجوم على القسطنطينية، وما تخلله من مراحل حتى الوصول إلى الفتح العظيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق