ذكريات نصف قرنية!
مايو 29, 2021
أبتعد عنكم قليلا كي أقترب كثيرا،يبدو ما ستقرؤونه اليوم منفصلا لكنه متصل!كان ذلك منذ أربعين عاما،وكنت أدلي بشهادة وطلب مني تقرير عن مؤسسة ما،أحد المتهمين كان مدير شركة طبية كبيرة.
كان دائما فخورا بجده الصوفي حيث يوجد مسجد باسمه فيه مقبرته في حي راق في القاهرة.
كان في القضية متهمون كبار.أثبت جرائم كثيرة ليس فيها شك، بالأدلة وشهادة الشهود ومنهم العاملون في شركة الرجل ولأماكن التي ورد فيها أجهزته، وأساتذة الجامعة الذين كانوا مسئولين عن هذه الأجهزة. كانت الأدلة يقينية وكان الناس واثقون من الحكم.
جاء المتهمون بأكبر المحامين في مصر آنذاك ومن أذكرهما الآن هو الأستاذ أحمد الخواجة والأستاذ محمد كمال عبد العزيز الذي كان مرشحا ليكون مرشدا للإخوان. حاول المحامون تجريح شهادتي فرددت عليهم بعنف ووجهت حديثي لرئيس المحكمة (وكان قاضيا شهيرا هو الذي حاكم عصمت السادات) قائلا أن واجب المحكمة حماية الشاهد(فيما بعد، سيقول أشرف السعد معلومات صادمة عنه،وعلى الهواء).
قلت لرئيس المحكمة أن هذه القضية فيها ملابسات عجيبة، وأخرجت له بعض المستندات التي حصلت عليها أثناء الفحص، قرأها باهتمام هو والعضوين، ثم نهرني فجأة قائلا: الشاهد يتكلم ولا يقدم مستندات فلا تمسك أوراقا. رئيس النيابة فقط هو الذي يمسك المستندات. قلت له أن هذه القضية لها جانب جنائي وجانب سياسي وجانب ديني لذلك فإن أحداثها غريبة.
ومن أغرب ما فيها ما نشرته الصحف من أن أحد المتهمين استضاف في بيته ثلة من كبار القوم منهم رجل عدالة كبير وهو الذي كان مسئولا عن القضية كلها، وكان ضيف الشرف في الحفل فضيلة الشيخ شعراوي (وكان قد سمع مني تفاصيل القضية، خاصة أن مدير الشركة وآخرين كانوا من محبيه) وبعد المأدبة رفعوا أيديهم إلى السماء ضارعين إلى الله أن تحكم أنت بالبراءة في هذه القضية! صرخ رئيس المحكمة غاضبا منذرا: ما تقوله كلام خطير جدا عليك ما لم تثبته. قلت له أنا لست رئيس نيابة ولا ضابط شرطة كي أقدم أدلة رسمية، لكنني أقول لك ما نشرته الصحف، صرخ في دهشة: هل نشرت الصحف هذا؟ قلت أجل. قال: هل معك الصحيفة التي نشرته؟ ونظر إلى الملف الذي أمرني بتنحيته جانبا، آمرا: هات تلك الصحيفة. وأعطيتها له. فأخذ يطالع المنشور باهتمام شديد ثم عرضه على عضوي اليمين والشمال فطالعوه بنفس الاهتمام، وفجأة قال الرئيس وهو يعطيني الصحيفة: ألم أقل لك أن الشاهد لا يمسك أوراقا. كانت مرافعة النيابة بليغة جدا وأذكر أن رئيس النيابة بدأ مرافعته بقوله: الآن حصحص الحق... وكان ثمة يقين من أن أحدا من المتهمين لن ينجو، لكن حكم المحكمة كان البراءة للجميع من جميع التهم.
وكان للقضية شق إداري أيضا، وفيه توثقت علاقتي كثيرا بالمستشار الدكتور أحمد رفعت خفاجي، ولكم كان عظيما هذا الرجل. وعندما أردت لقاءه للمرة الأولى سألت مساعديه بعد محاولات فاشلة، فهو غير موجود دائما. وكان مرؤوسوه ضائقين من صرامته. قال لي أحدهم: تريد أن تضمن لقاءه تعال بعد صلاة الصبح ستجده سحب كرسيا وجلس على السلم يراقب حضور الموظفين من أصغر الخدم حتى المستشارين. ظننت الرجل يسخر مني لكنه أكده وكانت بداية لعلاقة وثيقة مع هذا المستشار العظيم، وتبنى القضية التي أسفرت عن فصل المتهمين. هناك تفصيل صغير كنت أود ألا أقوله، لكنها شهادة أمام الله، والإسلام حجة علينا ونحن لسنا حجة عليه،والواقعة مازالت تؤلمني وتدهشني. فالمستشار محمد كمال عبد العزيز كان يدافع عن أحد المتهمين لنفترض أنه "س" وهو مدير كبير في أحد الأقسام، لكنه يقوم بعمل فني غير الإدارة في نفس المكان ولنطلق عليه "ص" علما بأن "س" هو بنفسه "ص". كان س كمدير قد كلف ص كخبير بعمل فلم يقم به واختلس أمواله. فوقف المستشار الكبير يدافع عنه قائلا أن القانون لا ينظر إلى الأسماء بل إلى التهم،وبغض النظر عن أن س هو بنفسه ص فإن ذلك لايهم المحكمة، مايهمنا نص القانون. س كمدير يقع تحت ولاية المحكمة. و"س" هذا لم يختلس، لكنه كلف "ص" وهو الذي اختلس، ولأن المحكمة لاولاية لها على "ص" فلا سبيل أمام المحكمة إلا أن توصي "س" الذي لم يرتكب ذنبا ولم يختلس يفسخ التعاقد مع "ص" الذي اختلس. كان المستشار رفعت خفاجي ثائرا وغاصبا من لي عنق المنطق بهذه الصورة الصارخة، فكتب حيثيات عنيفة جدا يهاجم فيها المحامي ويسخر منه ومن سلوكه المدمر في الدفاع، ويقول أنه يرى عكس ما ذهب إليه المحامي فيوصي بفصل المدير "ص" "س" وأن يستمر "ص" في الوظيفة إذا شاء المحامي. وهذا ما حكمت به المحكمة فعلا.
***
***
لم أرو لكم هذه الأحداث فضفضة ولا قضاء على الوقت، لكن لأبين لكم اصطدام اليقينيات، وكيف يضل سعيك في الحياة الدنيا وأنت تظن أنك تحسن صنعا.
هذه هي الخلفية الفكرية التي شاركت في تكوين اقتناعاتي، وفصلى الحق عن الباطل، والدفاع عن الحق، وعبور أساليب الخداع واكتاف الصدق من الكذب والحق من الباطل والشر من الخير
فإلى حديث قادم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق