المقدسية الأخطر هنادي حلواني في مدينة القدس وإحدى حراس المسجد الأقصى
وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ
د.صلاح الدوبى
جنيف – سويسرا
في بيتٍ مقدسيّ عتيق بمنطقة “وادي الجوز” بالقرب من المسجد الأقصى، شيّدته الجَدّة “أم بدر” قبل النكبة الفلسطينية بيديها المجعدتين طوبة طوبة، ولدت هنادي حلواني “40 عام” لأبوين مقدسيين، وجدّة تنام في حضنها وقد أخذت كلٍ منهما قطعة من قلبِ الأخرى، ربت على أحاديث الحرب وقصص التشريد والقهر، وكبرت كياسمينة في باحات الأقصى تُعرّش على أبوابه، تحفظ زواياه، وحكايات حجارته وأشجاره عن ظهرِ قلب، إلى أن أصبحت مرابطة في مُصلاه، فيما يعدها الاحتلال الإسرائيلي اليوم المرأة الأخطر في القدس، فلا يكُف عن ملاحقتها ومنعها من دخول المسجد مُستنفذ بشاعة الطرق كافة.
أطلّت هنادي على الدنيا بوجهٌ كالنور ووجنتين متوردتين، وجاء ميلادها سهلًا، تُخبِر قائلة: “تأخر والديّ في الإنجاب خمس سنوات قبل أن يرزقوا بأختي الأولى، كانت سنوات ملؤها القلق والسعي نحو العلاج، وسرعان ما جاء حمل أمي وميلادها لي دون نصبٍ أو تعب”، وهناك استبشروا بالصغيرة الجديدة خيرًا، لاسيما جدّتها التي لعبت دورًا بطوليًا في قصتها، ولمّا أن كانت عائلة هنادي ممتدة، فحظيت هي بالمكانة المُقربة من جدتها.
“حدثتني جدتي مرارًا عن قصص الحرب والمذابح التي حدثت، وأصوات القذائف وكيف فقدت ابنها شهيدًا، وكيف فقدت عمتي عينها وساقها، وكيف اضطر الاحتلال عماتي للجوء في البلدان، وكيف عاش الفلسطينيون في تعاسةٍ وشقاء وخوف وتشريد، وكيف واجهت جدتي كل ذلك وحدها بأبنائها الأيتام”، وقد زرعت هذه الروايات التي سمعتها هنادي من لسان شاهد حيّ، حب التمسك بالوطن ومقدساته، والتفاني في الحفاظ عليه كبؤبؤي عينيها.
ذات يوم في وقت المغرب كانت تدندن الصغيرة التي لم تتجاوز السابعة من عمرها في فناءِ البيت، فما لبثت أن وجدت جدتها تبكي لسماعها، “سألتها، ستي لماذا تبكين؟ قالت: “يا ليت يا ستي أسمع صوتك يصدح بقراءة القرآن في المسجد الأقصى”، هناك شردت بذهني وأطرقت السمع لطنين كلمات جدتي التي بقيت عالقة كأمنية تكبر معي إلى أن تحققت نبوءتها بعد ثلاثين عام، وأصبحت معلمة قرآن في المسجد الأقصى، ووصل صوت تكبيري إلى أقصى العالم، وهذا من فضل الله عليّ”.
شجرة ستي
تقول هنادي: “كانت ستي كبيرة في العمر ولا تستطيع الولوج إلى داخل المسجد، فكنا دائمًا ما نجلس تحت شجرة عريقة، كانت أول ما يقابلنا في مدخله بالقرب من باب الأسباط”.
فيما تُطلِق عليها هنادي اسم “شجرة ستي” حيث كانت تُرافق جِدتها كظِلها”.وبين الفنية والأخرى تسألها: “جدتي، كيف يمكنني خدمة الأقصى؟” فتجيبها: “نظفي ساحاته”.
ليس مسجد فحسب، أو مكان للعبادة، إن الأقصى للمقدسيين، وخاصة السكان الأقرب عليه بمثابة “روح” ومُتنفس وحياة كاملة، يخرجون إليه للتنزه، للإفطار، للعبادة، لممارسة الأنشطة الاجتماعية، ولمّا أن كان بيت عائلة حلواني قريب من الأقصى، كان لهنادي حُصة كبيرة في قضاء جُلّ أوقاتها فيه، تتحدث: “كانت ستي كبيرة في العمر ولا تستطيع الولوج إلى داخل المسجد، فكنا دائمًا ما نجلس تحت شجرة عريقة، كانت أول ما يقابلنا في مدخله بالقرب من باب الأسباط”.
ولطالما أنصتت تلك الشجرة إلى حكايات الجدّة وجاراتها وصديقاتها اللواتي كُن يجتمعن يوميًا للإفطار معها هناك، فيما تُطلِق عليها هنادي اسم “شجرة ستي” حيث كانت تُرافق جِدتها كظِلها، وبين الفنية والأخرى تسألها: “جدتي، كيف يمكنني خدمة الأقصى؟” فتجيبها: “نظفي ساحاته”، وهناك دائمًا ما تراها تحمل كيسًا تجمع فيه الحجارة وأوراق الشجر وبقايا الأوراق في فناءِ المسجد، فتنظفه وترتبه، فكبرت وهي تستشعر أنه سيكون لها شأن في خدمة الأقصى يومًا ما.
أنا إن مُنعتُ أو اعتُقِلتُ فإنَّني
مثـل السَنابلِ أنحني فأجــودُ
إن غبتُ شمساً لا يُعابُ غروبُها
في الصُبحِ أُشرقُ روعةً وأعـودُ
انتفاضة الحجارة
إنَّ لتعلم حلواني في مدرسة دار الطفل العربي بالقدس، أثر عظيم على تشَكُل شخصيتها، ولطالما شعرت بالفخر لانتمائها لهذه المؤسسة التي أسستها هند الحسيني على خلفية مذبحة دير ياسين، وكانت بدأت بمدرسة داخلية لرعاية الأيتام الذين خلّفتهم المذبحة، ثم تطورت وتوسعت إلى مؤسسة تعليمية كبرى لها أفرع وتضم طالبات من غير الأيتام، تقول: “اختلطت في دراستي بالكثير من الزميلات الأيتام اللواتي، وكان لاختلاطي بهن وتعليمي فيها الذي استمر حتى الثانوية العامة تأثير كبير على تنمية فكري الوطني والوجداني”.
تذكُر هنادي بقوة كيف اندّلعت انتفاضة الحجارة وهي في سنوات دراستها الأولى، وانتفضَ الشبان في كل أرجاء فلسطين، وقد كانت شاهد عيان على عمليات الاشتباك ولا تفتأ تذكُر مشاهد الجرحى والمصابين ورمي الحجارة والمولوتوف، لاسيما أن حدثًا أصاب العائلة حينها تخبرنا: “في الانتفاضة ارتقى ابن عم جدتي، محي الدين الشامي، شهيدًا، وشكّل هذا الحدث صدعًا في نفوسنا، وما زالت أصوات بكاء الناس عالقة في رأسي حتى اليوم”.
الجندي المجهول
عندما تزوجتِ في سن السابعة عشر، ماذا كان اختيارك؟ تُجيب السيدة المقدسية: “تزوجت من ياسين مكاوي، وهو نابلسي الأصل، حاصل على شهادة في التاريخ، ويعمل مع والده في محلٍ تجاري بمنطقة باب العامود، أما الاختيار، فكان رجل يعينني على ديني، وألا يكون شخصًا عاديًا، وفي الحقيقة، هو الجندي المجهول الذي لا يعرفه الناس؛ إنهم يرون هنادي في الظاهر ولكن لا يعرفون مَن خلفها، لقد ساندني كثيرًا في مسيرتي التعليمية من بداية عمري، وهو ليس بمثابة زوج؛ إنما مُربي وأب أستظل بظلاله”.
وخلال سنوات الدراسة التي حصدتها هنادي بشهادة امتياز مع مرتبة الشرف في تخصص الخدمة الاجتماعية والأُسرية، أقل ما يُوصف فيها أنها كانت تُكافح لنيل هذا التقدير، تقول: “في تلك الفترة رزقنا الله بابنتي آلاء ومن ثم ابني محمود، وفي يوم تخرجي كنت في حالة ولادة لابني أحمد” تأخذ نفسًا وتُعقب: “كانت فترة صعبة لأنني كنت ألعب ثلاثة أدوار، فكنت زوجة، وأمًا، وطالبة ليست عادية إنما طالبة مجتهدة”.
وفي وصفها تشير هنادي بأصابعها العشرة إلى أن تربيتهم لأبنائهم جاءت على أساس أن الأقصى جزء من العقيدة الإسلامية، “ربيتهم على أن المسجد الأقصى أهم من روحنا، وتأسسوا منذ الصغر على وجوب الدفاع عنه بالغالي والنفيس، وهم يعينوني كثيرًا على مواصلة الطريق”.
بماذا تصفين أسرتك؟ تُجيب دون تردد كأنها جهزت الإجابة منذ زمن: “نحن أسرة أقصاوية”، وفي وصفها تشير هنادي بأصابعها العشرة إلى أن تربيتهم لأبنائهم جاءت على أساس أن الأقصى جزء من العقيدة الإسلامية، توضح: “ربيتهم على أن المسجد الأقصى أهم من روحنا، وتأسسوا منذ الصغر على وجوب الدفاع عنه بالغالي والنفيس، وهم يعينوني كثيرًا على مواصلة الطريق”.
وفي العام 2007 كانت تحمل هنادي في أحشائها آخر العنقود “حمزة”، حينها قررت أن تدخل المسجد الأقصى للتعلّم، وهناك حصلت على الإجازة القرآنية الأولى من دار القرآن الكريم، وظلّ صغيرها رفيقها للمسجد، تقول: “كان عُمر ابني أحمد بالكاد 3 سنوات، وحمزة رضيع، وأنا أذهب يوميًا إلى محل والدهم في منطقة باب العامود أضع أحمد لديه، وأنزل أنا والصغير للتعلم في الأقصى”.
معلمة في الأقصى
ولمّا أن كانت تحلم هنادي دائمًا بأن تصبح معلمة قرآن في المسجد الأقصى، فقد تحقق لها ذلك بطريقة قدرية تروي حكايتها قائلة: “سمعت عن مشروع اسمه مصاطب العلم لتعلم وتعليم القرآن، يُنفذ في المسجد الأقصى، فذهبت لتقديم أوراقي، ولكن رفضت مُركِزة المشروع تقدمي متذرعة بأن لديهم عدد كافٍ من المُدرِسات، وهم بحاجة لدرجة ماجستير على الأقل في العلوم الشرعية، ومع ذلك أصررت عليها أن تُقدِم أوراقي فقط”.
تردف: “بالفعل تسلمت منّي الأوراق، ولكن لم تقدمها للمدير، ومرة أخرى سمعت صدفةً أنّهم أرسلوا رسائل هاتفية للمتقدمات للمقابلة، منهن طالبات وأخريات معلمات، بينما لم يُرسلوا لي، فتركت عملي في البيت وذهبت فورًا للمكان، وجدت المسؤولة مشغولة بعدد النساء الكبير، فساعدتها سريعًا في تنظيم الأوراق وتجهيزهم، وهنا انتبه لوجودي المدير، وسأل عني، فأخبرته المُركِزة أن أوراقي لا تفي بشروطهم، ومع ذلك طلب مقابلتي”.
في المقابلة، كان هناك عدد من المتقدمات لم يحضرن، لكن المسؤولة زكّتهم بقولها “فلانة زوجة شهيد”، “فلانة لديها خبرة دعوية 20 عام” وهكذا؛ لكن هنادي بعدما قابلها مدير المشروع، لم يكن لديها ما تقوله سِوى: “أنا ليّ الله ومحبتي وعشقي للمسجد الأقصى”، فما كان منه إلا أن هاتفها بعد وقتٍ يسير ليخبرها أنها مقبولة في العمل بوظيفة معلمة لتجويد القرآن الكريم وتدريس مادة تربية الأولاد في الإسلام، وهنا بدأ مشوار رباطها داخل الأقصى يوميًا بتاريخ 1/6/2011.
تحدي بالفيديو
بدت كالنحلة بصُحبة رفيقتها خديجة خويص، تُعلم القرآن، وتُدرس المنهاج التربوي، وتعقد الدورات التدريبية، وتحرص على تكريّس الجهود لزيادة التجمعات داخل المسجد؛ بغرض عدم تركه فارغًا للتدنيس والاقتحامات من جنود الاحتلال، وبالتالي، لم يرحمها المحتل أبدًا، فبدأ مشواره معها في التضيق والمُلاحقة والاعتقال والإبعاد والاقتحام، وتجاوزت اقتحاماته لبيتها سبع مرات، اقتحامات مستقلة عن الاعتقالات، تصفها قائلة: “فجأة دون سابق إنذار تدخل البيت قوات مُجندة تقلبه رأسًا على عقب، تفتيش، تدمير، تحطيم، مصادرة أجهزة، ويغادروا تاركيه خراب”.
ولكن هنادي حلواني ليست سيدة عادية لتجلس تبكي وتندب إثر ذلك، إنما تقوم بتوضيب البيت بأقصى سرعة ممكنة، وتُعيدُه أجمل مما كان ثم تُصوره “فيديو” وتنشره في تحدٍ للمحتل الذي يتعقبها عبر مواقع التواصل الاجتماعي كما يتعقبها على الأرض، أما أشدّ هذه الاقتحامات قسوة، فكان الأخير، والسبب؟ “كان أكثرها عنفًا لأنهم أدخلوا كلاب بوليسية، وهم يعرفون نجاستها في ديننا، فكان تلويثًا مقصودًا؛ بغرض إجهادي أكثر في غسل أجزاء البيت وتنظيفه، ومع ذلك، خرجت لهم بالفيديو وتحديتهم صبيحة اليوم الثاني”.
ولم يقتصر الأمر عليها وحدها، فأقحم الاحتلال أسرتها، حيث حرمهم من العلاج جميعًا ومن الاستفادة من التأمين الصحي والوطني وخدماته، تقول: “في هذا تهديد بالإقامة المقدسية باعتبار أن التأمين الصحي مرتبط بالهوية المقدسية التي بموجبها نستطيع العيش والبقاء في القدس”، وهل اكتفى؟ “بالطبع لا، إنّه في كل مرة يقتحم المنزل يقوم بالتدمير، ويصادر حواسيب الأبناء ويحتجز شهاداتهم، وقد اعتقل ابنتي آلاء أثناء اعتقالي عام 2017 وأخضعها للتحقيق في محاولة للضغط عليّ، لكنه لا يعلم أنه مهما فعل لا يثنيني”
عزيمة حديدية
أكثر من 60 مرة جرى اعتقال حلواني حتى إجراء هذا الحوار الصحفي، وذات مرة كانت مُبعدة عن المسجد الأقصى ضمن 50 امرأة، فاعترضوا بالاعتصام، تُوضح: “وقفت أنا والسيدات عند باب المجلس وحملنا شعارات تُشير إلى أننا مُبعدات عن المسجد، وهناك لاحقتني قوات الاحتلال من باب المجلس لباب العامود، وأنا أركض هربًا منهم، حتى وصلت إلى محل زوجي، وهناك اعتقلوني وضربوني ضربًا مبرحًا كالشباب، حتى أصبح لون جسدي أزرقًا وأهانوني بألفاظ بذيئة أمام ابني أحمد وعمه، وكانت هذه أشدّ المرات قسوة على نفسي”.
وللقارئ أن يتخيل عندما يقتحم جنود الاحتلال بيتها في منتصف الليل، فتصحو من نومها فزعةً على أصوات أبواب تتكسر وهي في حالة لا وعي، تُشير: “في كثير من المرات كانوا يقتادوني في سيارة الشرطة، وأنا لا أدري هل أنا في حلمٍ أم علم”، وكم لهذه المشاهد أثر في نفسها ونفوس زوجها وأبنائها الشباب، عندما يُدمر الاحتلال البيت، ويضع الحديد في يديها وقدميها ويقتادها للاعتقال، مُخلِفًا البيت حُطامًا.
لكن كل ذلك لم يجعل هذه العائلة المقدسية أن تتوانى أبدًا عن المُضي قُدمًا في نُصرة الأقصى، رغم أن الاحتلال لم يعدم الوسائل، سواء بحق أو غير حق ليُثني حلواني عن طريقها، تقول: “حتى في سيارتي يلاحقني الاحتلال ويخالفني بشكل غير قانوني مُتذرعًا بأن السيارة لا تصلح للسياقة، وهي حجة واهية، فالمركبة مرخصة من دائرة السير عندهم، وخلال هذا العام أوقعوا عليّ مخالفات تحت بند هذه الحجة وصلت قيمتها لـ 3 آلاف شيكل”.
هبّة الأسباط
ومَن منّا ينسى “هبّة باب الأسباط” عام 2017 وأحداثها المفصلية في تاريخ المدينة المقدسة، عندما هبّ المقدسيون لرفض البوابات الإلكترونية التي عزم الاحتلال على وضعها داخل أبواب المسجد الأقصى، في محاولة للتفرد بالمسجد لتهويده وحصاره وفرض التقسيم المكاني عليه؛ لعزله عن محيطه وبيئته العربية والفلسطينية، وهناك اعتصم المقدسيون 14 يومًا على بوابات الأقصى رفضًا لقرار الاحتلال الإسرائيلي.
بعد هذه الأيام الفارقة في تاريخ القدس قضتها هنادي حلواني في الرباط مع الكل المقدسي، خنع الاحتلال لإرادة الشارع وتوصل لاتفاق مع المرجعيات الدينية بالتنازل عن تركيب البوابات، وفتح المسجد الأقصى من باب الأسباط للمعتصمين (أكثر من 15 ألف شخص)، ولهنادي يوم الفتح قصة ترويها: “كان هناك شيء لا يعرفه معظم الناس، وهو أن الاتفاق مع الاحتلال على فتح أبواب الأقصى لم يشمل فتح باب حطّة حيث كان مغلقًا من قبل حادثة البوابات، وتذرع الاحتلال بفتحه لاحقًا، فيما كان الاتفاق على دخول الأقصى من الأسباط”.
فهل رضخت السيدة المقدسية؟ “كلا! ما كان منّا إلا أننا أخبرنا الناس أن الدخول سيكون من باب حطة ونشرنا الخبر، فاحتشد المقدسيون أمامه، وبقينا أربع ساعات في حالة مخاض، نُكبر ونبكي ونهتف وندعي، وأنا أقول في نفسي، لا يمكن ألا يستجيب الله دعاءنا، لابد أن يستجيب لمخلصٍ فينا.
ماذا كان موقفك؟ “اتصلنا أنا وخديجة بالشيخ عكرمة صبري، وأخبرناه أن القرار غير سليم، والاحتلال مراوغ، ربما يستمر في إغلاق باب حطة ويحصل على مكسبٍ يُسجل له، كما أن اختيار توقيت الظهر في فتح البوابات غير مناسب، ومن غير المنطقي عدم انتظار الشبان المقدسي الذين صنعوا هذا النصر، حتى يعودوا من أعمالهم وأشغالهم، وهم الذين ظلّوا طوال 14 يومًا يرابطوا حتى منتصف الليل، ويتحملوا ضرب الرصاص وقنابل الصوت وهمجية الاحتلال الذي خضع أخيرًا لإرادتهم؛ لكن صبري رفض الاستجابة”.
فهل رضخت السيدة المقدسية؟ “كلا! ما كان منّا إلا أننا أخبرنا الناس أن الدخول سيكون من باب حطة ونشرنا الخبر، فاحتشد المقدسيون أمامه، وبقينا أربع ساعات في حالة مخاض، نُكبر ونبكي ونهتف وندعي، وأنا أقول في نفسي، لا يمكن ألا يستجيب الله دعاءنا، لابد أن يستجيب لمخلصٍ فينا، وهنا جن جُنون الاحتلال وضُغِط لكثرة العدد وشدّة التكبيرات والأصوات التي تصدح، واضطُر لفتح حِطة، ودخلنا الأقصى في هبة الأسباط من بابِ حطة”.
وهناك تلقفهم الاحتلال بالضرب بقنابل الصوت والغاز والرصاص المطاطي، وامتزجت المشاعر والمشاهد في غرابةٍ نادرة، ترى بعض الناس يسجدون فرحًا، وآخرون يسقطون من رائحة الغاز، فيما يتطاير الرصاص والحمام في السماء في آن، الكثيرون يبكون فرحًا وغيرهم يبكون ألمًا، كانت مشاعر جميلة وغريبة غُرست بدواخلهم وما هي إلا أشبه بـ “بروفة” للنصر الأعظم.
المرأة الأخطر
وماذا عن دورك في هبة الرحمة عام 2019؟ تُجيب وفي صوتها حزن: “هبّ الناس لفتح مصلى الرحمة الذي كان مغلقًا لمدة 16 سنة، وفي تلك الأثناء، كنت مبعدة لمدة 6 شهور عن الأقصى ويتبقى لي 4 أيام حتى ينتهي إبعادي، لكني لم أُقهر، وشاركت كل العالم دخول المقدسيين لمصلى الرحمة، حيث صعدت لمطلّة طور وفتحت بث مباشر لمتابعيّ على صفحة فيسبوك الذين يزيد عددهم عن مليون مُتابع من كافة أرجاء العالم، بكينا وكبّرنا معًا، وكُنت أسمع من بعيد أصوات تكبيرات المقدسيين بفتح المصلى”.
“أنتِ المرأة الأخطر في القدس وواحدة مثلك تستحق أن نرسل لها قوات كبيرة يصحبها سائق من المُدربين.
في تلك الأثناء، كان الاحتلال متخوفًا جدًا من دخول حلواني للأقصى، فاقتحمت قوات كبيرة من جنوده بيتها، وكسروا الباب واقتادوها إلى مركز شرطة قشلة، تُعقب: “قلت للضابط لم يكن هناك داع لكل هذه القوات والمجندات والشرطة حتى تعتقلوني، كان يكفي أن تتصلوا بي وتبلغوني بالحضور للمركز”، فما كان ردّه حينها إلا أن قال: “أنتِ المرأة الأخطر في القدس وواحدة مثلك تستحق أن نرسل لها قوات كبيرة يصحبها سائق من المُدربين على السياقة المتهورة، فأنتِ امرأة غير عادية”.
وهناك تسلّمت هنادي قرار بالإبعاد لمدة 6 شهور أخرى عن المسجد الأقصى، قبل أن ينتهي سريان القرار الأول، وفي السنوات الخمس الأخيرة أصبح لا يتوانى عن إبعادها الدائم عن مسجدها الحبيب، فيسلمها قرار الإبعاد بمجرد انتهاء القرار الذي يسبقه، وقد حدث أن استمر إبعادها لسنة وثلاثة أشهر متواصلة لم تدخل فيها الأقصى يومًا واحدًا، فكيف عملت على نصرته وهي ممنوعة من دخوله؟
رسالة عالمية
في كل مرة تُمنع فيها من دخول المسجد الأقصى تسعى لِتعلم شيء جديد يعود بالنفع عليها وعلى طالباتها، تقول: “أنا أعلم أن الاحتلال سيستمر بفرض قرارات الإبعاد على الدوام، ولكني واثقة أنه زائل هو وقراراته عاجلًا غير آجلًا”، ومن هنا، قاومت حلواني هذا الأمر من خلال سفرها خارج البلاد حيث سُمح لها بالسفر لمدة عام، وذلك بعد أن انتهى قرار منعها الذي استمر لثلاثة سنوات.
تقول: “سافرت إلى عدّة دول؛ إلى تركيا، الكويت، البحرين، الأردن مرارًا، إندونيسيا، شرق آسيا، وكل ذلك في سبيل إيصال رسالة القدس والأقصى، وعقدت الكثير من النشاطات والمؤتمرات التي تدعم وتُثبت المقدسيين، وأوصلت رسالة المسجد الأقصى رغم إبعادي عن دخوله لكل العالم وأكثر مما لو كُنت جالسة في باحاته”.
لكن الاحتلال لم يهنأ له بالًا بسفرها، فمنعها من مغادرة البلاد مرة أخرى، وهنا قاومت هنادي الإبعاد عن الأقصى والمنع من السفر بصُنع المقلوبة، توضح: “بدأت بهذه الفكرة منذ عام 2015 حينها جرى إبعادي عن الأقصى، وكان لأول مرة يتم في شهر رمضان المبارك، فأصبحت أرابط أنا وأخواتي المُبعدات على باب السلسلة، وصنعت حلّة مقلوبة وقلبتها هناك”، ولماذا اخترتِ هذا المكان تحديدًا؟
تُجيب المقدسية الهُمامة: “اخترنا باب السلسلة كونه الباب الذي يخرج منه المستوطنين والسياح والأجانب، وارتدينا ملابس خاصة كُتِب عليها بالعربي والإنجليزي (أنا مُبعدة عن المسجد الأقصى)، وكنا نتحدث مع الأجانب ونخبرهم أن دولة الاحتلال التي تدّعي الديمقراطية والحفاظ على حقوق الإنسان تمنعنا نحن المسلمين من دخول المسجد، وتسمح لكم كأجانب وتسمح للمقتحمين، فأوصلنا رسالة قوية جدًا”.
ومن هُنا كان اختيار حلواني لتقلب أول أكلة مقلوبة على بابه، ومن ثم تلتها العديد من المرات، حتى اُتُهِمت في محاكم الاحتلال الإسرائيلية بأنّها تُحرّض الناس بدعوتهم لتناول المقلوبة في المسجد الأقصى، تقول: “يحلو لي وأنا مُبعدة عن الأقصى أن أصنع المقلوبة وأقلبها في أقرب نقطة منه، وعندما سافرت طبختها في إندونيسيا وتركيا والأردن، وأصبحت المقلوبة رمزًا للنصر والتحدي لقرارات الاحتلال وقلب قرارته على رأسه، وأنا أعتبر مكوناتها صمود وتحدٍ وتجذر في هذه الأرض، وكما نقلبها سيُقلب الاحتلال بإذن الله ويزول”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق