هل نعتذر عن الربيع العربي؟
31 مايو 2021
وائل قنديل
في هذه اللحظة المثيرة، وعلى بعد عشر سنوات وستة أشهر من ميلاد الربيع العربي، تبدو كل الأنظمة التي ناصبت هذا الربيع العداء، وحاربته بكل أنواع الأسلحة، وقد استتبّ لها الأمر، ودانت لها الأمور، وخصوصًا مع تنامي حالات الانسحاب الهادر، والصامت لمن اعتبروا أنفسهم "أصدقاء الربيع" واحدًا تلو الآخر.
المشهد يقول بوضوح الآن إن كل الأطراف التي كانت تباهي بالقرب من الربيع العربي وثوراته، وتتغنّى به، وتكتب فيه الملاحم والمعلقات، ضجّت منه، وقرّرت أن تسرع الخطى، في الاتجاه المضاد، وتبحث عن مصالحها في تلك المساحات المشتركة بينها وبين الحكومات التي قامت على أنقاض هذا الربيع، إذعانًا لمعطيات الأمر الواقع التي تنطق بأن الربيع العربي لم يبق منه إلا حطام تحته ذكريات مشتعلة.
معلوم أنه كان ربيع شعوب عربية، تبحث عن الخلاص من الاستسلام للطغيان، والإذعان للسلام على الطريقة الأميركية، ولم يكن ربيع حكومات ضد حكومات، مهما افترى المفترون وصنع الكاذبون من أكاذيب تطعن في نقاء الفكرة وعفويتها، واستجابتها البسيطة لأحلام وأوجاع جماهير قرّرت أن تنتفض ضد الخمول والجمود والانهيار الفادح في قيمة الفرد/المواطن العربي.
بل إن جزءًا من أسباب نجاح هذا الربيع في لحظاته الأولى أنه لم يكن تابعًا لأحد، ولا مستسلمًا لوصاية من طرف، هنا أو هناك، إذ لم يكن يصح لانتفاضة من أجل انتزاع الحرية من أنظمة مستبدة، أن تسلم نفسها وقرارها وحريتها لأنظمة أخرى قد تكون أقل استبدادًا.. بل إن الانهيارات السريعة التي أصابت ثورات الربيع وقعت حين تعجلت هذه الثورات الارتباط بحكومات وأنظمة، حتى وإن كانت هذه الحكومات على تناقضات وخلافات مع النظم التي ثارت ضدها الشعوب.
في ذلك تأتي سيرورة الثورة السورية حالة صارخة، إذ حين اندلعت كانت مثل طفلة جميلة يتسابق الجميع على رعايتها واحتضانها، بل إن بعض الذين يتربصون بالثورة في مصر وتونس واليمن كانوا الأكثر ادعاءً للمحبة والمودة تجاه الثورة السورية، إلى الحد الذي كانوا يتحدثون فيه عن تجهيز الجيوش للتدخل العسكري لإنقاذ الثورة وشعبها السوري من بين براثن بشار الأسد.
مبكرًا جدًا قلت إنه من السذاجة أن نصدق أن أحدًا يحارب الربيع في منطقة، ويدافع عنه في منطقة أخرى، لأن هذا ضد المنطق وضد طبيعة تكوين السلطة العربية، وأذكر في هذا الصدد أن بعض الأصدقاء العرب المتعاطفين مع ثورات الشعوب اختلفوا معي، لدرجة الغضب، حين سخرت من الإعلان عن تنسيق سعودي تركي للتدخل العسكري ضد بشار الأسد، في إطار مشروع أميركي في عهد أوباما، وقد سجلت وقتها إن قليلين جداً من اللاعبين في المأساة السورية يحبون الربيع العربي، فيما جلّهم كاره له، وإن استخدمه ورقةً في اللعبة الإقليمية أحياناً.. وهكذا، تتحول الثورات إلى مجرد ورقة في لعبة البوكر السياسي في المنطقة، بعناصرها الطائفية، والمذهبية، لتتحقق بوضوح نظرية الأواني المستطرقة. خذ في الشام، واترك في اليمن، والعكس أيضاً صحيح، فيما ينشط اللاعبون في تقديم كمياتٍ إضافيةٍ من مظاهر التعاطف مع الضحايا، مساحات لجوء، وحسابات تبرع، ليهنأ السفاحون بالاستمرار.
اليوم، ها هو بشار الأسد بعد كل هذه المذابح والجرائم يحتفل بانتصاره (الديمقراطي جدًا) وفوزه بالرئاسة لفترة جديدة، وهذا خليفة حفتر يلقي خطبة في استعراض عسكري يتحدى به العالم بأسره، ويخرج لسانه لكل الذين أعلنوا أنهم رعاة الاستقرار في ليبيا، وداعمو نظامها السياسي صاحب الشرعية الوليدة..وها هو عبد الفتاح السيسي يتأهب قضاؤه وبرلمانه لتعديل دستوري يتيح له الترشح مرات بلا عدد، في الوقت الذي تستعد فيه العواصم التي صادقت الربيع العربي لمد البساط الأحمر لاستقباله.
اليوم، تبدو مقولات معلبة مثل "الجريمة لا تفيد" محض نكتة تفجر شلالات من الضحك، في ظل واقع تبحث فيه الدول والحكومات عن مصالحها، وتسعى إليها بكل الطرق، حتى بالتصالح مع ما كان قبل أسابيع قليلة قبحًا.
والحال كذلك، من العبث أن يحاول أحد تقييم أداء حكومة أو سلطة بمعايير الثورية، ومن المنطقي أن تضع الحكومات مصالحها المرحلية فوق كل اعتبار.
من حق أي أحد أن يقرر أن يتصالح مع من يشاء في الوقت الذي يحدده، حتى لو تصالح مع القبح نفسه، غير أن ذلك كله لن يجعل من القبح جمالًا، أو يفرضه على أحد.. أو يقتلع الحلم والمعنى والمبدأ من أعماق الذاكرة.. أو يجعلنا نعتذر عن ربيع كان الكل يطلب القرب منه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق