المساومة بالمقاومة: السيسي مناضلاً
وائل قنديل
ما يسمّى "الموقف التاريخي" للنظام المصري الداعم للمقاومة الفلسطينية ضد العدوان الصهيوني، سواء كان تعبيرًا عن عقيدة واستراتيجية، أم مجرّد استثمار براغماتي للحظة لتحقيق مصلحة لمصر، ولفلسطين، معًا، فإنه يستحق الحفاوة والترحيب.
لكن السؤال الجوهري هنا: هل هناك بالفعل موقف مصري جديد تجاه القضية الفلسطينية يستجيب لمقتضيات التاريخ والجغرافيا والأخلاق والقيم الإنسانية؟ أم أن الأمر لا يتعدّى كونه استخدامًا للمقاومة، ورقة للمساومة، وسلاحًا في معارك أخرى، تخصّ نظام عبد الفتاح السيسي؟
الشاهد أن سحبًا كثيفةً من دخان الإشادة، وموجاتٍ عاتيةً من ذبذبات الطبل والزمر لهذا الموقف الرسمي الجديد تغطي السماء والأرض على مدار الأسبوع الماضي الذي أعادت فيه المقاومة الفلسطينية إعادة كتابة تاريخ القضية الفلسطينية، وأوجدت معادلاتٍ غير مسبوقة في الصراع، نسفت بها كل الأوهام المتراكمة منذ أكثر من أربعة عقود، هي عمر السلام الوهمي بين النظام العربي والاحتلال الصهيوني.
طوال تلك العقود الأربعة، كانت السلطة الحاكمة في مصر تتعيّش من وظيفتها ضابط إيقاع للصراع، ومسؤول قاعة التفاوض العبثي، القسري، بين القاتل والضحية، مع انحياز واضح ضد الضحية، بلغ حد أن حسني مبارك سبّ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، حين تباطأ في التوقيع على واحدة من الاتفاقية الكارثية التي أحكم بها الكيان الصهيوني الخناق على مشروع التحرّر الفلسطيني.
غني عن البيان هنا أن الحاكم المصري الوحيد الذي صدرت منه إشارات تمرّد على إرث التطبيع، الرئيس محمد مرسي، تمّت إزاحته من منصبه، ثم قتله في السجن، على يد ذلك التحالف الشرير بين الصهاينة الأقحاح والأعراب المتصهينين في العام 2013 ليحل مكانه من اعتبره الصهيوني أهم مكاسبه الاستراتيجية في تاريخ الصراع، والذي لم يكذب خبرًا وأعلن العداء الصريح للمقاومة الفلسطينية.
هنا، لا مفر من التذكير بأنه في العام الأول لتولي عبد الفتاح السيسي الحكم، بانقلاب مدعوم إسرائيليًا، شن الاحتلال عدوانًا همجيًا على غزة في يوليو/ تموز 2014، باركته قطاعات كبيرة من النخب المصرية المرتبطة بسلطة الانقلاب، من اليسار والقوميين والناصريين وبعض الإسلاميين من السلفيين، بلغ بهم الجنون حد اعتبار المقاومة الفلسطينية إرهابية، أو امتدادًا وظهيرًا لما وصفوها بالجماعة الإرهابية في مصر.
وما هي إلا شهور حتى استجاب القضاء المصري لمطالب الناعقين بأن حركة حماس إرهابية، فصنفتها محكمة القاهرة للأمور المستعجلة إرهابية في نهاية يناير/كانون الثاني 2015 قبل أن تعود محكمة أخرى، وتصدر قرارًا بإلغاء الحكم بعد شهور من صدوره، غير أنه بين الحكم وإلغائه ثم عار تاريخي، غير مسبوق، لحق بالأمة المصرية، حين صنفت، ولو بشكل مؤقت وعابر، الكفاح الفلسطيني إرهابًا، زلفى للمحتل الصهيوني.
أكثر من ذلك، دعني أعدّ عليك ما تحدث به معلق صهيوني شهير في العام 2016 عن موقف السيسي من الحرب على غزة، وهو ما نقله عن العبرية المترجم الفلسطيني، صالح النعامي، كالتالي "المعلق الصهيوني بن كسبت: السيسي استمتع عندما كانت إسرائيل تدمر بيت كل قائد في حماس أثناء الحرب الأخيرة وهذا ما جعله يرفض التوسط لوقف الحرب".
الآن، بعد سبع سنوات من العدوان الصهيوني السابق على غزة، مطلوب مني، ومنك ومن الجميع، أن نصدّق ونبصم بالعشرة على أن الشخص الذي كان يستمتع بتدمير المقاومة الفلسطينية، هو نفسه الذي يقول الطبّالون والزمارون، اليوم، إنه يتخذ موقفًا مبدئيًا واستراتيجيًا وتاريخيًا وغير مسبوق لنصرة الشعب الفلسطيني ومقاومته ضد العدوان الصهيوني.
لقد استبدّ بهم الصخب إلى الحد الذي توقعت معه أن أقرأ في شريط الأخبار "الدكتور عبد الفتاح السيسي : لن نترك غزة وحدها".
وعلى الرغم من ذلك، يتمنى كاتب هذه السطور، مثل عموم المصريين، أن يكون هذا "الموقف" صادقًا، والأخبار عنه صحيحة، غير أنه بالبحث عن تجليات هذا "الموقف" لم أجد سوى إشارتين، الأولى على قناة الجزيرة التي صارت تحتفي بما يصدر عن نظام السيسي، حيث كانت مداخلة للمتحدّث باسم الخارجية المصرية عن جهود القاهرة للتوصل إلى التهدئة، وهي مداخلة كشفت أن غاية النظام المصري من هذا التحرّك إيقاف الحرب، واستعادة "عملية السلام" بما يعني العودة إلى متاهة كامب ديفيد وأوسلو وأخواتهما، أي باختصار استرداد نظام السيسي "عدّة الشغل" التي كان يتعيش بها حسني مبارك.
الإشارة الثانية: خبر عاجل (أمس الأحد) السلطات المصرية تعلن عن فتح معبر رفح في اتجاه واحد لنقل الجرحى الفلسطينيين.. وأظن أن هذه أول خطوة عملية بعد أسبوع كامل من الطبل والزمر لما يسمّى "الموقف التاريخي".
مرة أخرى لا يوجد مصري لا يتمنى أن يكون هناك موقف وتاريخي، لكن الأسئلة لا تزال تحوم حول الأدمغة: مثلًا، لماذا لم تحتج خارجية الاحتلال على ما يصفه بعضهم بالتحوّل الهائل في العلاقات السيسية الإسرائيلية، واتخاذ مواقف داعمة بالمطلق للمقاومة الفلسطينية ومضادة على نحو كبير للممارسات الصهيونية؟
لماذا، مثلًا، لم نسمع تصريحًا صهيونيًا يعترض على قيام القاهرة بالدور الأكبر في عملية التهدئة الجارية، على اعتبار أنها ليست وسيطًا محايدًا، بل منحاز للجانب الفلسطيني؟
المنطق البسيط يقول إن ما يسعد الشارع الفلسطيني والعربي هو بالضرورة يغضب الكيان الصهيوني ويثير احتجاجه.. والعكس كذلك صحيح، لكننا بصدد حالة غريبة جدًا هنا: احتفالات واسعة بما يطلق عليه "الموقف المصري التاريخي" أو "الانقلاب في الموقف المصري الرسمي من الصراع" تجدها بين لجان السيسي الإلكترونية، وبين قطاع من الناشطين والسياسيين ممن يمنون النفس بنظرة وابتسامة من النظام. وفي مقابل ذلك ليس ثمة ما يشير إلى وجود أي تعبير عن غضب إسرائيلي معلن أو مخفي من هذا الذي تفعله الدبلوماسية المصرية..كما أنه ليس هناك ردّات فعل فلسطينية شعبية مرحبة بهذا "الانحياز" للحق الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني، بل يمضي الفلسطيني في درب كفاحه المقاوم غير مبال بكل هذا الصخب.
أيضًا، الإدارة الأميركية الجديدة، والمتصهينة كما سابقاتها من الإدارات، لم تتوقف عن الكلام عن أهمية دور القاهرة في إنجاز ما تم من خطواتٍ على طريق التهدئة أو الهدنة، ولم يصدر منها ما يشي بأن ثمة انزعاجًا من العصيان المصري لتلمود كامب ديفيد المقدّس.
الحقيقة أنني كنت على استعداد لتصديق "زفّة الموقف المصري" لو أن الصحافيين المصريين استعادوا حق الوقوف السلمي بالأعلام الفلسطينية على سلالم نقابتهم المقيدة بالسقالات والسلاسل والأغلال، أو أن المواطن الذي صلى الجمعة في مسجد عمر مكرم ثم خرج يرفع علم فلسطين بميدان التحرير، عاد إلى منزله ولم يتم إخفاؤه قسريًا، أو أن المواطنتين اللتين حاولتا رفع العلم في الميدان لم يتم توقيفهما وسؤالهما عن مصدر العلم.. أو أن السفير الصهيوني غادر، أو أن السفير المصري عاد للتشاور.. أو أن وتيرة الجنون والهمجية الصهيونية قد انخفضت.
من الواضح أننا نحتاج إلى معرفة معنى كلمة "الموقف"، ونحتاج أكثر إلى معرفة الفرق بين تعزيز المقاومة وتسويق المساومة، لكي نفهم طبيعة تحركات نظام السيسي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق