إنما الآمال يُسْرج رواحلَها ذوو عزم، والأحلام في كل عصر لها يوسُفها يأتي ليعْبَرها، وعندما تُبسَط سبابةُ قويٍّ أمينٍ فأرْعِ موضعَ الإشارة انتباهَك.
قبل 28 عاما، وقف رئيس بلدية إسطنبول فوق أعلى أبنيتها، يُعبِّر عن حِلم صباه، فأشار إلى ساحة «تقسيم» قائلا: هنا سوف أبني مسجدا.
قالها أردوغان في وقت كان الكلام فيه عن بناء مسجد في تلك المنطقة ضربا من الخيال، الذي استبد بصاحبه حتى قطع العنان، فأنّى لهذه البقعة أن تحتضن مسجداً، وهي التي ترمز إلى القيم العلمانية التي أُسست عليها تركيا منذ فترة ما بعد سقوط الخلافة العثمانية؟ وكيف يتمكن ذلك الرجل من بعث هذا المشروع القديم، الذي لا تزال المؤسسة العسكرية الأتاتوركية واقفة له بالمرصاد، تعمل باستمرار على إفشاله؟ كيف يُقام مسجد في ذلك المكان الذي كان مأوى مظاهرات المثلية والإلحاد؟
ومما عزز من فكرة استحالة إمضاء هذا المشروع، أن الذي تبناه (أردوغان) قد حُكم عليه بالسجن، لترديده أشعارا ذات صبغة إسلامية في أحد المؤتمرات، وهو لا يزال بعد في منصبه كرئيس بلدية إسطنبول.
28 عاما من رعاية المشروع والصبر عليه في أروقة المحاكم، ورغم المعارضة الشرسة للأحزاب والكيانات والشخصيات العلمانية، افتتح أردوغان الصلاة في ذلك المسجد في أول صلاة جمعة تؤدى فيه، وتم اختيار هذا اليوم، ليوافق مناسبتين مهمتين، أولاهما: أنه اليوم ذاته الذي شهد فيه الميدان اندلاع احتجاجات ضخمة ضد حكومة أردوغان، في حديقة «غيزي» التي تبعد مئة متر فقط عام 2013، وكادت تزلزل كيان الحكومة.
بناء مسجد في ساحة تقسيم خطوة ومقياس دقيق لمدى نجاح حزب العدالة والتنمية الحاكم، في المعركة البيضاء على الهوية
والثانية: ان افتتاح المسجد يسبق بيوم واحد الذكرى رقم 568 لفتح هذه المدينة العريقة على يد السلطان محمد الفاتح، ما حدا بأردوغان إلى أن يعتبر هذا المسجد هدية لأهالي إسطنبول في ذكرى الفتح.
لم يكن مسجد تقسيم هو البناء الإسلامي الوحيد الذي أحدث ضجة داخل تركيا، فقبل أقل من عام افتتح أردوغان مسجد آيا صوفيا، الذي تحول قبل حوالي تسعة عقود إلى متحف، واضعا بذلك حدا حاسما للغط الثائر حول هذه القضية، وكان حدثا عالميا تناولته الأوساط السياسية والثقافية والدينية كافة، وكان رمضان المنقضي هو أول رمضان يشهده المصلون في ذلك المسجد بعد انقطاع قرابة 90 عاما، وقد حرص أردوغان في ظل مناسبتي: افتتاح مسجد ساحة تقسيم وذكرى فتح القسطنطينية، على حضور حفل تخريج 136 حافظا لكتاب الله في مسجد آيا صوفيا، كان من بينهم حفيده.
هذا الشغف الأردوغاني ببناء المساجد، خاصة إعادة تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد وبناء آخر في ساحة تقسيم، وكما قوبل بحفاوة وابتهاج من قبل البعض، أثار سخط البعض الآخر داخل تركيا وخارجها، وكانت كلتا القضيتين معركة طاحنة دارت على مدى عقود، واستفزت المعارضة التركية، ومؤسسات دولية وحكومات عالمية، فهل خاض أردوغان هذه المعارك لمجرد بناء صروح إسلامية للعبادة؟ بالنظر إلى معركة استعادة آيا صوفيا للصلاة فيه كمسجد، يتعلق الأمر بتعاظم النفوذ التركي إقليميا وعالميا، والقفزة التي حققتها تركيا في الجوانب العسكرية والتقنية والاقتصادية، فآيا صوفيا كان يمثل رمزا دينيا ومعلما حضاريا للبيزنطيين، الذين فتح العثمانيون عاصمتهم ومدينتهم الدينية والتاريخية، القسطنطينية، التي تحولت إلى إسطنبول، وتحولت معها كنيستهم إلى المسجد المعروف، الذي حوّله أتاتورك إلى متحف. إن استعادة مسجد آيا صوفيا جولة عالمية، لها رمزية السيادة العثمانية القديمة، ولم تخطُ تركيا الجديدة هذه الخطوة إلا بعد أن تموضعت على خريطة الكبار، كما أن فيها تحديا كبيرا للاتحاد الأوروبي، الذي يتحفظ حتى اليوم على إدراج تركيا ضمن أعضائه. هذه الخطوة تُعلي من شأن الأمة التركية التي تسابق الزمن باتجاه الدخول في مصاف الدول العظمى، ولذا كان من اللافت أن هذا القرار قد التف حوله حتى المعارضون لحزب أردوغان، وحتى أشرس المعارضين، لم يبد اعتراضه على هذه الخطوة. وبالنظر إلى بناء مسجد في ساحة تقسيم بعد طول صبر ومثابرة، فهي خطوة تعد مقياسا دقيقا لمدى نجاح حزب العدالة والتنمية الحاكم، في المعركة البيضاء على الهوية، بين الهوية الإسلامية العثمانية التي صبغت الحياة التركية على مدى أكثر من ستة قرون، وتجمدت بعد سقوط الخلافة العثمانية في الربع الأول من القرن العشرين، والهوية العلمانية التي فُرضت بالقوة على الشعب التركي، وغزت مؤسساته وأثّرت في المزاج الشعبي.
هذه الخلطة من الأسلمة والعَثْمَنة التي يرعاها أردوغان، لم تأخذ طريق العسف والإرغام، ولا القفز فوق القضاء والقانون بقوة السلطة، لكنها تمت على المدى البعيد، مرتكزة على مبدأ التدرج، وتجلّت عبقرية أردوغان ذي الجذور الإسلامية، أو المحافظة، في أنه لم يُقيد العلمانية، وإنما أطلق يد التدين، وترك رجحان إحدى الكفتين للتفاعل المجتمعي، من دون الصدام أو تجاوز قوانين الدولة، فكان هذا الإحياء الإسلامي الذي نرى مظاهره واضحة جلية، وليد ذلك التفاعل، بعد أن تساوت مساحات الحرية المتاحة للتدين والعلمانية معاً، فمال الشعب تجاه تراثه وهويته الثقافية الأصلية.
وحتى نضع أيدينا على صيغة أكثر دقة لوصف أردوغان، بعيدا عن المغالين فيه، الذين يعتبرونه خليفة المسلمين، وبعيدا عن المجحفين المتشددين الذين يشغبون على الرجل لأن بلاده تقنن بيع الخمور وترخص دور البغاء، بعيدا عن كل هؤلاء نستطيع القول إن الرجل يحب بلاده ويسعى لرقيها ونهضتها، مؤمنا بضرورة استعادة هويتها الثقافية الأم كفكرة مركزية لهذه النهضة، ويعمل كأي زعيم مخلص لوطنه في تطهيره من الفساد، وتقوية نفوذه إقليميا وعالميا، من دون الحاجة إلى التوسع الجغرافي المزعوم، الذي يطنطن حوله خصومه ليلا ونهارا محذرين من عودة الإمبراطورية العثمانية.
لعل أكثر ما يخشاه بعض قومنا المستائين مما يسمونه سعي أردوغان لأسلمة تركيا، أن الأمر يتعلق بهوية دولة قوية متقدمة كتركيا، وفي أسلمتها فضحٌ لأكذوبة التلازم بين التدين والتخلف التي أوهموا بها الناس، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق