الأحد، 28 أغسطس 2022

نهايات مملوكية.. ضاقت الأحوال فضاعت الأخلاق

 نهايات مملوكية.. ضاقت الأحوال فضاعت الأخلاق



علي أبو هميلة

عبارة صغيرة كانت تنهي المراحل التاريخية في كتاب التاريخ الذي كنا ندرسه في مدارسنا في مراحل التعليم المختلفة، عبارة موجزة، ولكنها تعكس حياة شعوب مجتمعة أو شعب دولة في سنوات طويلة تمتد إلى 10 سنوات أو أكثر، تقلبات سياسية أو اقتصادية واجتماعية، ودائمًا كان هذا المجهول ما يشدني إلى معرفة معنى هذه الكلمة الموجزة “ومرت البلاد بسنوات من الفساد والاضمحلال.. وسقطت الدولة”.

تمثلت ملامح الفساد في انتشار الضرائب والجباية، صراعات الأمراء والمماليك وكبار رجال الدولة، تزايد الجرائم والسرقات بين طبقات الشعب، زيادة التفكك العائلي والحوادث القبلية وجرائم الثأر، ثم انتشار التعصب والطائفية.

في سنوات ما قبل سقوط حسني مبارك ومع صراعات الفئات الحاكمة بين مجموعات رجال الأعمال ونفوذ الجيل القديم من رجال الحزب الوطني مع الأجيال الجديدة متمثلة في جمال مبارك ورجال أعماله الذين كانوا يحاولون السيطرة على مقاليد الحكم في مصر، مع صراع الأجهزة الأمنية الذي وصل لصراعات علنية بين أجهزة تعمل في مجال واحد هو أمن مصر الداخلي والقومي على السلطة.

ثم انتشرت نوعية جديدة من الجرائم بين أبناء الطبقة الحاكمة مع انتشار واسع لظواهر اجتماعية جديدة على المجتمع المصري كنت دائمًا أردد المقولة التي أحفظها من كتب التاريخ، وأشعر أننا أمام هذه الحقبة التي كتب عنها المؤرخون، لكن يبدو أن تلك السنوات امتدت طويلًا علينا حتى أننا صرنا لا نعرف لها نهاية.

الشدة المستنصرية

دائمًا يصبح الواقع أكثر مرارة من خيال الروائي، بعضنا لا يتخيل أن في فترة من فترات التاريخ المصري أكل الناس بعضهم بعضًا، ولكنه حدث في العصر الفاطمي في فترة حكم المستنصر بالله ولمدة 7 سنوات في عهده الذي امتد ما يقرب من 60 عامًا في القرن الخامس الهجري فيما عرف بالشدة المستنصرية.

وشهدت السنوات السبع انتشارًا واسعًا للجريمة، كان الناس يصطادون الحيوانات في البداية، ثم تحولوا إلى قتل الحمير والكلاب يأكلونها، ثم ظهرت مجموعات تصطاد البشر بسهام من فوق المنازل ثم يسحبونها ويتناولونها، إن بشاعة الواقع في هذه السنوات فاقت كل خيال.

عندما كتب نجيب محفوظ روايته الجوع، وهي إحدى رواياته عن الحرافيش، وصور مشاهد قتال الناس على رغيف العيش لم يصل خياله إلى ما حدث واقعيًا، وفي فترة حكم المستنصر بالله من عام 1036 حتى 1094، شهدت مصر ثورات شعبية متعددة رصدها بعض المؤرخين، ولكن هذه الثورات كانت هبات شعبية لم تؤثر في حكم الصبي الذي حكم البلاد في السابعة من عمره واستمر حتى وفاته.

أحوال الناس وأخلاقهم

عندما تسوء أحوال الناس الاقتصادية تسوء أخلاقهم، وتنتشر ظواهر اجتماعية غريبة على المجتمع، ففي البداية تحاول السلطات دائمًا أن تعوّض خراب الخزانة وخواءها بفرض ضرائب ورسوم على الخدمات كلها المقدمة منها للشعب، وتفرض الضرائب الباهظة على الجميع فيشكو الكبار من الضرائب والرسوم، ويفكّر التجار في البحث عن وسائل تعويضية لهم عن تلك الضرائب والرسوم فيرفعون الأسعار.

في العصور الحديثة جدًا ظهرت فكرة الوسطاء بين كبار رجال الأعمال والدولة، كان هؤلاء الوسطاء في عصر مبارك وزراء وكبار رجال الدولة، ثم تحول الاقتصاد إلى اقتصاد أحادي المصدر فيما بعد 2013، فظهر وسطاء من نوع مختلف، سيطروا على المجالات كافة، وصار المرور إلى عالم الأموال والمكاسب يمر عبرهم.

بينما يشكو كبار رجال الأعمال، ويئن الشعب من ارتفاع الأسعار الذي صار يوميًا، وزيادة الرسوم والضرائب، وتبدأ سلوكيات جديدة على الشعب، وتنتشر حوادث الانتحار، في الأعوام الثلاثة الأخيرة صار الانتحار على الهواء مباشرة، تختل الأخلاقيات بين الشباب فتنتشر ظاهرة مثل الإلحاد في مجتمع كانت هذه الظاهرة فردية بحتة لا تتعدى الأفراد في كل السنوات الطويلة، تكثر حالات الطلاق في الأسر التي يعجز رجالها عن الوفاء بما تتطلب الحياة.

سجلت حالات الطلاق في العامين المنصرمين أعلى نسبة طلاق في مصر، ترتفع نسب العنوسة بين الفتيات ولا يستطيع الشباب الإقبال على هذا المشروع مع ارتفاع تكاليفه، حتى ظهرت دعوات أخيرًا تطالب الأسر بخفض طلباتهم حتى لا تزداد النسبة إلى أعلى من ذلك فتتحول المشكلة الصعبة إلى جرائم تهدد سلامة المجتمع.

مع تنامي المشكلات الاقتصادية والضغوط على الجميع وعدم قدرة الشعب على مواجهة صعوبة الأحوال تنتشر ظواهر جديدة لا نستطيع المرور عليها مرور العابرين، فظاهرة القتل داخل الأسرة الواحدة تتكرر مما يجعلها أقرب للحالة التي تحتاج وقفة من المجتمع بكافة فئاته الواعية، فهذه أم تقتل أبناءها فلذات الكبد كما نشأنا وتربينا، وهذا رجل يقتل زوجته في لحظة يأس من الحياة.

ثم هناك جرائم الميراث تلك الجرائم التي ما إن تفتّش وراءها حتى تجد الميراث لا شيء قليل جدًا في مقابل جرائم بشعة ومريرة، حتى نصل إلى جرائم الأبناء وأمهاتهم وتلك أم الكوارث الإنسانية، كل هذا نتاج لأحوال اقتصادية ضاقت على الناس فضاقت أخلاقهم وتغيرت سلوكيات لم تظهر في أشد الأيام من قبل.

مفارقة عجيبة

في ظل أوضاع كهذه التي نمر بها تثيرك دائمًا بعض الظواهر الاجتماعية مثلما حدث من أبناء المنطقة المحيطة بكنسية أبي سفين منذ أيام مضت، ولكنك قد تستغرب أكثر إذا بحثت مثلًا عن معدل الجريمة بعد هزيمة يونيو 1967 وحتى نصر أكتوبر 1973، ستجد أن معدل الجريمة يكاد يصل إلى الصفر ولم تسجل جرائم في هذه الفترة إلا أعداد محدودة.

إن عدت إلى 18 يومًا هو عمر ثورة يناير ستلاحظ الملاحظة نفسها لا جرائم لا سرقات لا أخلاقيات اجتماعية شاذة، بل على العكس سلوكيات تضامن رفيعة المستوى الأخلاقي والاقتصادي، وهكذا حينما يشعر الشعب أنه امتلك مقدراته يسمو بسلوكياته إلى مستوى الإحساس، وعندما يشعر أن الوطن بحاجة إليه يبقى في موقع المسؤولية متحديًا ظروفه حتى وإن كانت شديدة القسوة عليه.

أخيرًا غيبوبة النخبة

أكثر ظاهرة يعاني منها الشعب في كل زمان ومكان هي غيبوبة نخبته ومثقفيه وطليعته الفكرية والثقافية، ففي مثل هذه الأحوال يتطلع الناس إلى من يأخذ بيده إلى الطريق الصحيح، فإذا راحت هذه الصفوف إلى حالة الغيبوبة بافتعال معارك هامشية، وزاد تعصبها في معاركها الوهمية فقد الشعب بوصلته إلى المستقبل.

وهذا حال كثير من النخبة صراع على أوهام حياتية، انشغال بموضوعات هامشية، فقدان الأمل والشغف للمستقبل، تلك الظاهرة ازدادت أخيرًا، فبعض منهم يذهب إلى اعتزال المجتمع والانسحاب منه، هذا الهروب من الأدوار قد يؤدي إلى مزيد من الكوارث والأزمات، ولا حل لها سوى أن يحاول الجميع العودة لصياغة أمل نستعيد به قوة الشعب وقدرته على رسم المستقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق