حديث في ليلة قمراء
د. موفق السباعي
هذا مقالٌ هادفٌ وجادٌ، وليس للمزاح، ولا للتسلية، وليس لمدحِ الكاتبِ، وتمجيدهِ..
فهو أسمى، وأكبرُ من المدحِ، وأزهدُ الناس بذلك، فهو يكفيه ثناءُ اللهِ وحده، وكفى بالله شهيداً، وكفى بالله حسيباً!
ولكن غايتَه، تشجيعُ الناس، وحثُهم، على أن يكونوا أقوياءَ، وشجعانَ، لا يخافون في الله لومة لائم، ويطالبون بحقوقهم بكل قوةٍ وجرأةٍ، من خلالِ عرضِ أحداثٍ حقيقيةٍ وواقعيةٍ، حصلت مع الكاتب في خلال حياته.
وفي ليلةٍ قمراءَ، وقد كان بدرُ الدجى، يتوسطُ كبدَ السماء، ويرسلُ بأشعته الفضيةِ، البيضاءِ، اللامعةِ.. فيغسلُ أدرانَ الناس، وأوساخَهم، ويبددُ جيوشَ الظلامِ، فيُحيلُ الليلَ، إلى نهارٍ، مُضيءٍ..
أطل عليَّ من النافذة، شيخي، وأستاذي، ومربيَّ، ومعلمي.. بطلعته البهية، ووجهِهِ المتألق المشرق، بأنوارِ الإيمان، ولحيتِه البيضاءِ الفضيةِ، التي تنبئُ عن عمر مديدٍ في التربيةِ، والخبرةِ، والتجربةِ، والحكمةِ، وقد عركَتهُ السنونَ عركاً.
استأنستُ به، واستبشرتُ به خيراً..
فبادَرَني بابتسامة عذبةٍ، حلوةٍ، لم أرَ في حياتي مثلها..
وقال: ما لي أراك يا بنيَّ سهرانَ إلى هذا الوقت المتأخرِ من الليل، والناسُ قد هجعُوا، وناموا، وغطَّوا في سباتٍ عميق، يشخرونَ، ويفسونَ؟!
قلت: يا شيخي، وأستاذي، ومعلمي.. كيف أنامُ؟!
وهَمُّ الأمة يؤرقني، وأتراحُ شعبي، تكسرُ أضلعي، ونواحُ الثكالى، وبكاءُ السجيناتِ، وعويلُ الأطفالِ في السجون، وفي المخيماتِ، يُفتتُ كبدي، ويُمزِّقُ احشائي؟!
كيف يهدأُ لي بالٌ، وكيف يَغمضُ لي جَفنٌ، والنساءُ المؤمناتُ، المغتصباتُ؛ مُسهَّداتٌ، مؤرقاتٌ، وأولادُ الحرام يمارسون معهن الرذيلة، ليلاً ونهاراً، وعنوةً، وكرهاً.. ولا يعرفن للراحة طعماً، ولا يرقى لهن دمعٌ، ويَنُحنَ، ويَبكينَ، ويَذرِفنَ الدموعَ أنهاراً، وبحاراً؟!
هل -يا مربيَّ الأجيال- يَطيبُ للرجال أولي النُهى، وذوي المروءة والشهامة، أن يناموا على هذا الضيم، ويَخلُدوا إلى الراحة، والسكينة؟!
لا نامتْ أعينُ الجبناءِ..
ولا نامَت أعينُ التافهين، وعديمي الدين، والضمير، والأخلاق، وأتباع الشيطان، والشهوات، والملذات الرخيصة، وأتباع الأهواء، والنزوات
ولا نامت أعينُ المنافقين، والمتذبذبين، والمتقلبين بين اليمين واليسار، والمتأرجحين بين الحق والباطل، والأفاكين، وعبيدِ الأوثان والأصنام، وعديمي المبادئ والقِيَم.
ولا نامَت أعينُ المتاجرين بالدماءِ الزكية الطاهرة، لأجل حفنةٍ من تراب!
ولا نامت أعينُ الخونة، والعملاء، الذين يطعنون أقرب المقربين إليهم، بخنجرٍ مسمومٍ في ظهورهم؛ لأجل المحافظة على المنصب، والكرسي.
ولا نَامت أعينُ الذين يريدون لهذا الشعب المكلوم، البائس، الفقير، المجروح الذي قدَّمَ ملايين الضحايا.. أن يرجع إلى بيت الطاعة، لدى حظيرة الأسد.
ولا نامت أعينُ الذين يؤثرون مصلحة التراب، على مصلحة الإنسان، ويضحون بالإنسان، للحفاظ على التراب..
ما رأيك -يا شيخي- بهذه الكائنات البشرية التعيسة، البئيسة، الغريبة، الخاوية من المثل العليا، ومن الإيمان بالآخرة، والمتشربة حتى أعماق أعماقها بحب المادة الجامدة، الغليظة، المهينة، الذليلة؟!
نظرتُ إليه لأسمعَ منه الجواب الشافي.. وإذا به يجهشُ بالبكاء -كالطفل الصغير- وتتقاطرُ دموعُه على لحيته، كقطر الندى المدرار، وتتساقطُ على جبته البيضاء، كالمطر الهتون، فبللها كلها – إلا قليلاً منها -.
فقلت له مندهشاً، ومتعجباً، ومتسائلاً: ما الذي حدث يا معلمي؟ هل آذيتك بسؤالي؟!
قال: وهو يكفكف دموعه!!
لا، يا ولدي..
بل هَيَّجت شجوني، وأثرتَ لواعجَ نفسي، ونكأتَ جراحاتي، بكلماتك الجريئة، القوية، الحزينة، المؤثرة، ذات الإيقاع الموسيقي الطارق، والثاقب، والمهيِّجِ للعواطف، ونبشتَ ذكريات سبعين سنة من عمري، في التربية، والتعليم، والتوجيه، والإرشاد، لمئات الألوف من الشباب المسلم..
منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، ومنهم من بدَّلَ، وتغيَّرَ، وانحرف عن الطريق المستقيم، ومنهم من مالَ مع المائلين، وسار في درب الغواية، والضلال، وآثر الحياة الدنيا، على الآخرة، ومنهم من اصطف مع أعداء الله، وأصبح أشد الأعداء لي، ولديني، وعقيدتي.. ومنهم من أصبح من الفاسدين والمفسدين..
وقليلٌ منهم، من استقاموا على الطريقة الوسطى، وما بدلوا تبديلاً، ولا تغيروا، ولا انحرفوا، غير أن عطاءهم قليلٌ، وإنتاجهم زهيدٌ، ولا يجرؤون على قول الحق.. وكلُ هَمِّهم أن يُحافظوا على أنفسهم، ويثبتوا في مكانهم، فلا يجرفُهم التيارُ الهائجُ الثائرُ، الذي يجرفُ كل من يقفُ في طريقه..
ولكن لو وُضع هؤلاء كلهم – وهم بالمئات، وأعرفهم واحداً واحداً، وأحفظ أسماءهم – في كفةٍ، ووُضعتَ أنت في الكفة الأخرى، لرجحت كفتك!!!
فالتفت إليه مستهجناً، ومستنكراً هذا الحكم الغريب، وقلت له: ما هذا يا شيخي؟!
أتفضلني على ثلة من تلاميذك الأطهار، الأبرار، وأنا أعرفهم كما أنت تعرفهم؟!
قال: وهل تتشكك في كلامي -يا بني-؟! إن الرائدَ لا يكذبُ أهله.
قلت: معاذ الله -يا سيدي- ما جربت عليك كذباً طوال ستين سنة من تربيتك لي، بل أنت عندي أصدقُ من أبي وأمي، ومن الناس أجمعين..
قال: ألم نُربِك فينا وليداً، ولبثتَ فينا من عُمُرك سنينَ؟!
ألم تأتنا وعُمرك لا يزيد عن أربعةِ عشرَ ربيعاً، ولم تبلغ الحُلُمَ بعد؟ وكنتَ منذ ذلك الوقت، تحملُ في جنبك، وفي حناياك ثورةً متأججةً، وتضمر في جوانحك تمرداً وعنفواناً، وكنت الطالبَ، المشاغبَ، والمشاكسَ ضد الباطل.. والمحركَ للدرس فتضفي عليه حيويةً، ونشاطاً، وتألقاً، بكثرة الأسئلة، والاستفسارات، والاعتراض على أية معلومةٍ غامضةٍ، أو مبهمةٍ، أو لا تتوافق مع العقل والمنطق، ولا تنسجم مع منهجِ الله تعالى.
هل نسيت يا بني؟! حينما انتقلتَ إلى ثانوية الزهراوي، بعد انقلاب البعث الأسود في عام 1963 وكانت توجد على حائط الصف، لوحةٌ كانت تسمى (جريدة الطلاب)؟!
وعلَّق أحدُ طلاب اتحاد الطلبة، الذي تشكل حديثاً، في عهد دولة البعث، شعارَ الحزب، الذي تحول إلى شعارِ الدولة، وكان الطلابُ في جميع المدارس، يرددونه يومياً في طابور الصباح (وحدة، حرية، اشتراكية.. أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة) فقمتَ أنتَ بتمزيقه، ورميه في سلة الزبالة، فأهنتَ الحزبَ، والدولةَ معاً، أيما إهانةٍ؟!
وجاءت المخابراتُ، في اليوم الثاني إلى المدرسة، تسعى، وطلبوك للاجتماع بهم، فوقفتَ أمامهم، كالضرغام المتوثب، والمتحفز، والثائر.. فأخذوا يتوددونَ لك، ويتظاهرونَ بأنهم يحبون الدينَ أيضاً مثلك، بل أشدَ منك!!!
وأخذوا يتلون عليك آيات الله (صبغةَ اللهِ ومن أحسنُ من الله صبغةً ونحن له عابدونَ * قلْ أتحاجوننا في اللهِ؟ وهو ربُنا وربُكم، ولنا أعمالُنا ولكم أعمالُكم، ونحنُ له مخلصونَ) البقرة.
وانتهى الاجتماعُ، بانتصارٍ مؤزرٍ لك عليهم، ولم يُرفعْ شعارُ دولة البعث في الصف من بعدها أبداً.
وهل نسيتَ -يا بني-
وهذه الأحداثُ العِظامُ، قد حدثتني بها في وقتها، وهي مسجلةٌ في ذاكرتي، لم أنسها، ولن أنساها إن شاء الله تعالى، ما بقيتُ على قيد الحياة..
حينما كنتَ تصرُ على رفع أذان الظهر بصوت عالٍ، في المدرسة، وتدعو بهمة، ونشاط، لا مثيل له، جميع الطلاب، لأداءِ صلاةِ الظهر أو العصر..
وبالرغم من أن مديرَ المدرسة، كان شيوعياً اسمه (عبد الفتاح عكاش) إلا أنه كان يخاطبُك بكل أدبٍ، واحترامٍ، ولا يرفضُ لك أي طلبٍ، علماً بأن عمرَك أصغرُ من عمر أبنائه، بل كان يخافُ منك، ومن صوتك الجَهْوَري، الذي كان ينطلقُ كالرعدِ الصاعقِ.. واستجابَ لك فوراً، بالموافقة على رفعِ الآذانِ، بصوتٍ عالٍ.
وألا تذكرُ حينما تخرجتَ من طب الأسنان في دمشق عام 1971 وذهبتَ إلى البوكمال في أقصى شرق سورية؛ لتأدية خدمة الريف، المطلوبة من الكادر الطبي جميعاً، وكان حافظ الوحش، قد استولى على الحكم في السنة التي قبلها، وكان دخلُ العيادة غيرَ كافٍ، فطلبت في السنة التالية 1972 من مديرية التعليم، أن تُدرِّس مادة العلوم، لطلاب الثانوية، فوافقت، وعينتك في مدرسة إعدادية البنات.
وحينما اقتربَ موعدُ الاحتفالِ بذكرى انقلاب البعث في 8 آذار، وكانت المديرية تريد إخراج البنات في استعراضات في الشوارع، لهذه المناسبة، فدعوت الطالبات، بكل جرأة، وقوة، إلى عدم المشاركة، وحرضتهم على ذلك، على اعتبار أنهن من عائلات عشائرية، ومحافظة، ومسلمة، تأبى هذا التصرف .
وإذا بالمديرية، ترسل لك في اليوم الثاني، خطابَ فصلٍ من التعليم.
وسأذكِّرك -يا ولدي- بآخر موقفٍ فيه من الشجاعةِ، والبسالةِ، والجرأةِ، والقوةِ، والعزةِ، التي لا يُقدم عليها، إلا القليل النادر جداً جداً، وخاصة في هذا الزمن الخانع، المستكين.
فحينما انطلقت شرارة الثورة الأولى في سورية في عام 1979 وكنتَ يومها تعمل في منطقة عسير، جنوب الجزيرة العربية.. فانطلقتَ ومعك مدرسُ دينٍ من حماة، واسمه يوافقُ اسمَك، ويَكبرك بسنوات عديدة، وكنتَ قائدَه، لتجوبَ القرى، والبلدات التي فيها سوريون، لتجمعَ التبرعات، وكان المفتي ابن باز، قد أصدر بياناً يحث على التبرع.
وفي بداية عام 1400 هج الموافق لأواخر عام 1979 حدثت في مكة، أحداثُ جُهيمانٍ، الذي ادعى أنه مهديٌ، فأخذت المخابراتُ تقبض على كل شخصٍ، كان له نشاطٌ، وحركةٌ.
وكنتَ وصاحبُك من الذين أودعوا السجنَ، وصدرَ قرارٌ من نايف، وزير الداخلية، بترحيلكما إلى سورية! حينها بدأتْ معركتُك بكل قوة، وحزمٍ، مع مدير السجن، ومطالبته بمقابلةِ، أميرَ المنطقة، خالدَ الفيصل، وبعد أخذٍ، وجذبٍ، وإثارةِ شغبٍ في السجن كله، وإزعاجِ الحراس كلِهم، بطلباتك العديدةِ، والقوية.. وبعدَ قيامِ أصحابُك خارج السجن، بالتواصل مع ابن باز، ومع الداخلية، وبعد أن هدأت نفوسُهم، تمَ إلغاءُ قرارِ الترحيلِ، وصدر قرارُ التحررِ من السجنِ.
وحينها كانت فرحةً لحارسِ السجنِ، أكثرَ من فرحتِك، فقال لك: بكلِ انكسارٍ، وتوسلٍ، ورجاءٍ.. لا تأتِ إلى السجن مرة أخرى، فقد شيبتَنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق