الثقب الأسود
. قـلـم الـتحـرير لم تدخل أمريكا في صراع مع الكبار مثل بريطانيا أو فرنسا أو روسيا القيصرية ولا الدولة العثمانية كذلك؛ فقد جرَّبت التحرش بولاياتها وهزمت شر هزيمة في الجزائر وطرابلس الغرب؛ ولذا نجد أنها ركَّزت على التهام ما اصطادته الضباع فبدأت بإسبانيا فدخلت معها في سلسلة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
إذا كان هاجس الأمم والدول المغلوبة على أمرها وهمُّها هو التخلص من التبعية والذل والانضمام إلى نادي الفاعلين في هذا العالم؛ فإن المسيطِر يعيش معضلة الحفاظ على التفوق والسيطرة، ولا شك أنه كلما زاد العلوُّ زاد معه ألم السقوط وتضاعفت آثاره.
ولا يخفى أن أمريكا التي دخلت في مشروع الهيمنة على العالم وقطعت فيه أشواطاً بعيدة على مدى أكثر من قرن ونصف في تدرُّجٍ وخطىً ثابتةٍ تؤكد وجود تخطيطٍ إستراتيجيٍّ عالي المستوى، قائمٍ على استغلال الفرص، مع الاقتصاد في القوة والتصرف مثل ملك الغابة (الأسد)؛ الذي يعتمد على صيد الأسرة التي ينتمي إليها فيأكل منها أولاً أو يستولي على صيد الآخرين من السباع الأضعف.
ففي البداية لم تدخل أمريكا في صراع مع الكبار مثل بريطانيا أو فرنسا أو روسيا القيصرية ولا الدولة العثمانية كذلك؛ فقد جرَّبت التحرش بولاياتها وهزمت شر هزيمة في الجزائر وطرابلس الغرب؛ ولذا نجد أنها ركَّزت على التهام ما اصطادته الضباع فبدأت بإسبانيا فدخلت معها في سلسلة حروب سريعة انتزعت منها الولايات الجنوبية والغربية مثل فلوريدا وكاليفورنيا وكوبا وأمريكا الوسطى، وتمدد نفوذها في كلِّ أمريكا اللاتينية، وأحكمت سيطرتها على الثروات والممرات الإستراتيجية مثل قناة بنما، بل انتزعت من إسبانيا بلاد الفلبين وحلَّت محلها في محاولة استكمال تنصير الجزر الباقية على الإسلام جنوب البلاد.
وكانت الحرب العالمية الأولى ومن بعدها الثانية فرصة للتمدد الثاني ووراثة مستعمرات البلدان الأوروبية خاصة بريطانيا وفرنسا التي خرجت من الحرب الثانية في غاية الإنهاك وأصبحت أمام خيارين أحلاهما مرٌّ:
فإما أن تستولي على ممتلكاتهم البعيدة القوةُ الصاعدة الجديدة وهي الاتحاد السوفييتي وقتها، وإما أن تسمح تلك الدول لأمريكا بالتمدد هذه المرَّة على حسابها.
وهكذا ورثت أمريكا تَرِكة أوروبا الاستعمارية حول العالم؛ بل حط النسر الكبير على كتفي أوروبا الجريحة وقتها وغرز فيهما مخالبه وفقدت دول أوروبا الكبيرة قبل الصغيرة استقلالها، ولم يكن قيام الاتحاد الأوروبي والدعوة لإنشاء جيش أوروبا الموحد إلا محاولة للتخلص من التحكم الأمريكي الذي ردَّ بمحاولة إضعاف الاتحاد الأوروبي وتوسيع حلف الناتو بضم دول شرق أوروبا الأكثر خضوعاً للنفوذ الأمريكي.
ثم أتت حرب أوكرانيا التي سعت أمريكا إلى استدراج الروس إليها لتصبَّ في هدفين أساسيين هما:
الحدُّ من قوة روسيا وزيادة مستوى السيطرة والتحكم في كامل القارة العجوز، ومن ثَمَّ التفرغ للخطر الأكبر على مشروع السيطرة الأمريكي؛ وهو تجاوز التنين الصيني الحدود المتوقعة لمستوى القوة اقتصادياً وعسكرياً ومن ثَمَّ أثَّر ذلك على الخطط المرسومة التي بُنيَت على التقارب مع الصين وإغرائها لتسهيل عملية إسقاط الاتحاد السوفييتي ومعه المنظومة الاشتراكية على مستوى العالم. وهي عملية إستراتيجية نجحت بصورة منقطعة النظير.
ومن المهم أن نعرف أن أحد رموز تلك المرحلة هو هنري كيسنجر اليهودي الألماني الذي وصل إلى منصب وزير خارجية أمريكا، نعم!
هو من فتح الباب للصين وهو من أعاد مصر إلى حضن أمريكا باتفاقية كامب ديفد، ويبدو من تصريحاته النارية حول وجوب التفاهم مع روسيا وإعطائها ما تريد والتضحية بأوكرانيا أنه الآن خارج المطبخ السياسي الأمريكي؛ الذي يعاني من عدم قدرته على التعامل مع كافة الملفات بصورة احترافية تراعي التغيرات على مستوى العالم والتغيرات الحاصلة داخل أمريكا من ناخية البنية الاجتماعية والقاعدة الاقتصادية والصناعية وما يتبعها من تماسك القوة العسكرية.
قبل سنوات قليلة أُعلنَ أن الصين تمثل الخطر الأول على أمريكا، ولذلك تم التركيز على حصار الصين عسكرياً واقتصادياً، وسيطرت على وسائل الإعلام أخبارُ العقوبات الاقتصادية على الصين ومحاولة تركيع حليفتها المدلل كوريا الشمالية.
وعملت أمريكا على نسج تحالفات موجَّهة ضد الصين هذه المرة، أبرزها تحالفات مع اليابان وكوريا الجنوبية والهند وأستراليا، وكذلك كندا وبريطانيا، تحالفات متعددة بأسماء مختلفة...
وتعدَّى الأمر إلى سلسلة انسحابات من أفغانستان والعراق ومنطقة الخليج العربي، وبلغ قيام أمريكا بنقل ثقل وجودها العسكري وأسلحتها النوعية من المنطقة إلى اليونان ومنطقة المحيط الهادي مع الاكتفاء بتطمينات لفظية جوفاء صاحَبَها كثير من الإهانات والتعالي على زعماء المنطقة؛ وهو ما أوجد حالة من الشعور بالفراغ الأمني والخوف مما يدبره الأمريكان للمنطقة، وهو ما كشف عنه بايدن في تصريحاته الأخيرة أمام زعماء المنطقة التي قال فيها: «لن ننسحب ونترك فراغاً تملؤه الصين أو روسيا أو إيران. تستثمر الولايات المتحدة في بناء مستقبل إيجابي في المنطقة بالشراكة معكم جميعاً، والولايات المتحدة لن تذهب إلى أي مكان».
هنا يحق لنا أن نقف مذهولين؛ فهو يصرِّح بأن أمريكا لن تنسحب وتترك فراغاً تملؤه الصين وروسيا، ولكن المحزن أنه لم يجبْ عن سؤال: من هي الجهات التي كانت أمريكا تريدها أن تملأ الفراغ عندما انسحبت؟
وبالنسبة لنا فالأمر أكثر من واضح؛ فقد عشنا سنوات خُيِّرت فيها المنطقة بين احتلال إيراني أو مظلة الاحتلال الصهيوني اللذين يمثلان خيار أمريكا المفضل.
ولكن هذا المشروع تعثَّر باشتعال الصراع مع روسيا بصورة تجاوزت المتوقع؛ فالحرب الشاملة كشفت هشاشة الغرب وأن مصادر الطاقة والغذاء أصبحت بيد روسيا، مع تمادي الغرب في استعمال أدوات الهيمنة المالية بصورة هددت بفقدانه لهذه الأدوات؛ فحقيقة الدولار أنه ورقة خرجت من مطبعة لا تملك أي غطاء إلا قوة أمريكا التي قد تنكشف سوأتها عند أي صراع عام، بالإضافة إلى كون الغرب مركزاً مالياً عالمياً لا يدعم بقاءه الإسرافُ في تجميد الودائع ومنع التحويلات؛ بل سيؤدي ذلك حتماً إلى تكوُّن نظام موازٍ تدعمه الدول المتضررة وفي النهاية مصادرة الودائع والأصول، وخيال الدولار لن يصمدَ أمام الطاقة والغذاء والإنتاج الصناعي الحقيقي، وهو ما بدأت نُذُرُه بتصدُّع الموقف الأوروبي بل احتمال توالي تصدع الحكومات مع سقوط زعماء بريطانيا وإيطاليا وقد يلحق بهم بايدن بأي لحظة وبأي عذر؛ فتراجُع الغرب لن يكونَ إلا بزعماء جدد لم يكن لهم دور بارز في الورطة الإستراتيجية مع روسيا، ولا ندري ما هو هدف أمريكا من استفزاز الصين بإعلان زيارة بيلوسي زعيمة مجلس النواب لتايوان مع محاولة بايدن التنصل من الزيارة بقوله: «الجيش يعتقد أنها ليست فكرة جيدة، لكنني لا أعرف أين نحن»!
وهنا نسأل: إذا كان الجيش لا يرغب والرئيس لا يعرف؛ فمن سيتحمل نتائج زيارة تقوم بها مسؤولة رفيعة في النظام لا تملك سلطة تنفيذية؟ وهل تعيش أمريكا مرحلة البحث المحموم عن حلٍّ لمشكلة الانزلاق بافتعال أزمة مع الصين، مع اعتقادهم أن الصدام مع الصين سيُفقدهم تايوان والتايوانيين الذين يُجْرون تدريبات بائسة لمواجهة الصين، في حين همُّ أمريكا هو مواجهة نتائج فَقْد إنتاج مصانع الرقائق الإلكترونية في تايوان بتدميرها أو استيلاء الصين عليها؛ وذلك بتخصيص مبلغ 52 بليون دولار لتوطين الصناعة في أمريكا.
ومن الغريب عودة أمريكا إلى واجهة الأحداث في ليبيا فَسُمِح بتصدير البترول، وانفجر الصراع المسلح مع استقواء أحد أطرافه (الباش آغا) بتأكيد تفاهمه مع السفير الأمريكي، ولا يعلم أن أمريكا تقترب من حافة دوامة كبيرة أو لِنقُل: إنها تتجه بقوة نحو ثقب أسود قد يبتلع الجميع؛ فقد بلغوا المدى في الطغيان وإبادة الشعوب والتسلط عليها مع إسرافهم في التحلل الخلقي ومحاولة فرضه على العالم، وهي أسباب للزوال وتغيُّر الحال، قال تعالى في سورة الشعراء: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ 128 وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ 129 وَإذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ 130 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 131 وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ 132 أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ 133 وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 134 إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 135 قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ 136 إنْ هَذَا إلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ 137 وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 138 فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 128 - 139]...
وداعاً بايدن.
لم تدخل أمريكا في صراع مع الكبار مثل بريطانيا أو فرنسا أو روسيا القيصرية ولا الدولة العثمانية كذلك؛ فقد جرَّبت التحرش بولاياتها وهزمت شر هزيمة في الجزائر وطرابلس الغرب؛ ولذا نجد أنها ركَّزت على التهام ما اصطادته الضباع فبدأت بإسبانيا فدخلت معها في سلسلة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
إذا كان هاجس الأمم والدول المغلوبة على أمرها وهمُّها هو التخلص من التبعية والذل والانضمام إلى نادي الفاعلين في هذا العالم؛ فإن المسيطِر يعيش معضلة الحفاظ على التفوق والسيطرة، ولا شك أنه كلما زاد العلوُّ زاد معه ألم السقوط وتضاعفت آثاره.
ولا يخفى أن أمريكا التي دخلت في مشروع الهيمنة على العالم وقطعت فيه أشواطاً بعيدة على مدى أكثر من قرن ونصف في تدرُّجٍ وخطىً ثابتةٍ تؤكد وجود تخطيطٍ إستراتيجيٍّ عالي المستوى، قائمٍ على استغلال الفرص، مع الاقتصاد في القوة والتصرف مثل ملك الغابة (الأسد)؛ الذي يعتمد على صيد الأسرة التي ينتمي إليها فيأكل منها أولاً أو يستولي على صيد الآخرين من السباع الأضعف.
ففي البداية لم تدخل أمريكا في صراع مع الكبار مثل بريطانيا أو فرنسا أو روسيا القيصرية ولا الدولة العثمانية كذلك؛ فقد جرَّبت التحرش بولاياتها وهزمت شر هزيمة في الجزائر وطرابلس الغرب؛ ولذا نجد أنها ركَّزت على التهام ما اصطادته الضباع فبدأت بإسبانيا فدخلت معها في سلسلة حروب سريعة انتزعت منها الولايات الجنوبية والغربية مثل فلوريدا وكاليفورنيا وكوبا وأمريكا الوسطى، وتمدد نفوذها في كلِّ أمريكا اللاتينية، وأحكمت سيطرتها على الثروات والممرات الإستراتيجية مثل قناة بنما، بل انتزعت من إسبانيا بلاد الفلبين وحلَّت محلها في محاولة استكمال تنصير الجزر الباقية على الإسلام جنوب البلاد.
وكانت الحرب العالمية الأولى ومن بعدها الثانية فرصة للتمدد الثاني ووراثة مستعمرات البلدان الأوروبية خاصة بريطانيا وفرنسا التي خرجت من الحرب الثانية في غاية الإنهاك وأصبحت أمام خيارين أحلاهما مرٌّ:
فإما أن تستولي على ممتلكاتهم البعيدة القوةُ الصاعدة الجديدة وهي الاتحاد السوفييتي وقتها، وإما أن تسمح تلك الدول لأمريكا بالتمدد هذه المرَّة على حسابها.
وهكذا ورثت أمريكا تَرِكة أوروبا الاستعمارية حول العالم؛ بل حط النسر الكبير على كتفي أوروبا الجريحة وقتها وغرز فيهما مخالبه وفقدت دول أوروبا الكبيرة قبل الصغيرة استقلالها، ولم يكن قيام الاتحاد الأوروبي والدعوة لإنشاء جيش أوروبا الموحد إلا محاولة للتخلص من التحكم الأمريكي الذي ردَّ بمحاولة إضعاف الاتحاد الأوروبي وتوسيع حلف الناتو بضم دول شرق أوروبا الأكثر خضوعاً للنفوذ الأمريكي.
ثم أتت حرب أوكرانيا التي سعت أمريكا إلى استدراج الروس إليها لتصبَّ في هدفين أساسيين هما:
الحدُّ من قوة روسيا وزيادة مستوى السيطرة والتحكم في كامل القارة العجوز، ومن ثَمَّ التفرغ للخطر الأكبر على مشروع السيطرة الأمريكي؛ وهو تجاوز التنين الصيني الحدود المتوقعة لمستوى القوة اقتصادياً وعسكرياً ومن ثَمَّ أثَّر ذلك على الخطط المرسومة التي بُنيَت على التقارب مع الصين وإغرائها لتسهيل عملية إسقاط الاتحاد السوفييتي ومعه المنظومة الاشتراكية على مستوى العالم. وهي عملية إستراتيجية نجحت بصورة منقطعة النظير.
ومن المهم أن نعرف أن أحد رموز تلك المرحلة هو هنري كيسنجر اليهودي الألماني الذي وصل إلى منصب وزير خارجية أمريكا، نعم!
هو من فتح الباب للصين وهو من أعاد مصر إلى حضن أمريكا باتفاقية كامب ديفد، ويبدو من تصريحاته النارية حول وجوب التفاهم مع روسيا وإعطائها ما تريد والتضحية بأوكرانيا أنه الآن خارج المطبخ السياسي الأمريكي؛ الذي يعاني من عدم قدرته على التعامل مع كافة الملفات بصورة احترافية تراعي التغيرات على مستوى العالم والتغيرات الحاصلة داخل أمريكا من ناخية البنية الاجتماعية والقاعدة الاقتصادية والصناعية وما يتبعها من تماسك القوة العسكرية.
قبل سنوات قليلة أُعلنَ أن الصين تمثل الخطر الأول على أمريكا، ولذلك تم التركيز على حصار الصين عسكرياً واقتصادياً، وسيطرت على وسائل الإعلام أخبارُ العقوبات الاقتصادية على الصين ومحاولة تركيع حليفتها المدلل كوريا الشمالية.
وعملت أمريكا على نسج تحالفات موجَّهة ضد الصين هذه المرة، أبرزها تحالفات مع اليابان وكوريا الجنوبية والهند وأستراليا، وكذلك كندا وبريطانيا، تحالفات متعددة بأسماء مختلفة...
وتعدَّى الأمر إلى سلسلة انسحابات من أفغانستان والعراق ومنطقة الخليج العربي، وبلغ قيام أمريكا بنقل ثقل وجودها العسكري وأسلحتها النوعية من المنطقة إلى اليونان ومنطقة المحيط الهادي مع الاكتفاء بتطمينات لفظية جوفاء صاحَبَها كثير من الإهانات والتعالي على زعماء المنطقة؛ وهو ما أوجد حالة من الشعور بالفراغ الأمني والخوف مما يدبره الأمريكان للمنطقة، وهو ما كشف عنه بايدن في تصريحاته الأخيرة أمام زعماء المنطقة التي قال فيها: «لن ننسحب ونترك فراغاً تملؤه الصين أو روسيا أو إيران. تستثمر الولايات المتحدة في بناء مستقبل إيجابي في المنطقة بالشراكة معكم جميعاً، والولايات المتحدة لن تذهب إلى أي مكان».
هنا يحق لنا أن نقف مذهولين؛ فهو يصرِّح بأن أمريكا لن تنسحب وتترك فراغاً تملؤه الصين وروسيا، ولكن المحزن أنه لم يجبْ عن سؤال: من هي الجهات التي كانت أمريكا تريدها أن تملأ الفراغ عندما انسحبت؟
وبالنسبة لنا فالأمر أكثر من واضح؛ فقد عشنا سنوات خُيِّرت فيها المنطقة بين احتلال إيراني أو مظلة الاحتلال الصهيوني اللذين يمثلان خيار أمريكا المفضل.
ولكن هذا المشروع تعثَّر باشتعال الصراع مع روسيا بصورة تجاوزت المتوقع؛ فالحرب الشاملة كشفت هشاشة الغرب وأن مصادر الطاقة والغذاء أصبحت بيد روسيا، مع تمادي الغرب في استعمال أدوات الهيمنة المالية بصورة هددت بفقدانه لهذه الأدوات؛ فحقيقة الدولار أنه ورقة خرجت من مطبعة لا تملك أي غطاء إلا قوة أمريكا التي قد تنكشف سوأتها عند أي صراع عام، بالإضافة إلى كون الغرب مركزاً مالياً عالمياً لا يدعم بقاءه الإسرافُ في تجميد الودائع ومنع التحويلات؛ بل سيؤدي ذلك حتماً إلى تكوُّن نظام موازٍ تدعمه الدول المتضررة وفي النهاية مصادرة الودائع والأصول، وخيال الدولار لن يصمدَ أمام الطاقة والغذاء والإنتاج الصناعي الحقيقي، وهو ما بدأت نُذُرُه بتصدُّع الموقف الأوروبي بل احتمال توالي تصدع الحكومات مع سقوط زعماء بريطانيا وإيطاليا وقد يلحق بهم بايدن بأي لحظة وبأي عذر؛ فتراجُع الغرب لن يكونَ إلا بزعماء جدد لم يكن لهم دور بارز في الورطة الإستراتيجية مع روسيا، ولا ندري ما هو هدف أمريكا من استفزاز الصين بإعلان زيارة بيلوسي زعيمة مجلس النواب لتايوان مع محاولة بايدن التنصل من الزيارة بقوله: «الجيش يعتقد أنها ليست فكرة جيدة، لكنني لا أعرف أين نحن»!
وهنا نسأل: إذا كان الجيش لا يرغب والرئيس لا يعرف؛ فمن سيتحمل نتائج زيارة تقوم بها مسؤولة رفيعة في النظام لا تملك سلطة تنفيذية؟ وهل تعيش أمريكا مرحلة البحث المحموم عن حلٍّ لمشكلة الانزلاق بافتعال أزمة مع الصين، مع اعتقادهم أن الصدام مع الصين سيُفقدهم تايوان والتايوانيين الذين يُجْرون تدريبات بائسة لمواجهة الصين، في حين همُّ أمريكا هو مواجهة نتائج فَقْد إنتاج مصانع الرقائق الإلكترونية في تايوان بتدميرها أو استيلاء الصين عليها؛ وذلك بتخصيص مبلغ 52 بليون دولار لتوطين الصناعة في أمريكا.
ومن الغريب عودة أمريكا إلى واجهة الأحداث في ليبيا فَسُمِح بتصدير البترول، وانفجر الصراع المسلح مع استقواء أحد أطرافه (الباش آغا) بتأكيد تفاهمه مع السفير الأمريكي، ولا يعلم أن أمريكا تقترب من حافة دوامة كبيرة أو لِنقُل: إنها تتجه بقوة نحو ثقب أسود قد يبتلع الجميع؛ فقد بلغوا المدى في الطغيان وإبادة الشعوب والتسلط عليها مع إسرافهم في التحلل الخلقي ومحاولة فرضه على العالم، وهي أسباب للزوال وتغيُّر الحال، قال تعالى في سورة الشعراء: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ 128 وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ 129 وَإذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ 130 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 131 وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ 132 أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ 133 وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 134 إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 135 قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ 136 إنْ هَذَا إلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ 137 وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 138 فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 128 - 139]...
وداعاً بايدن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق