كرت نقاشا قديما دار بيني وبين صديقة، حاولت يومها إقناعي أن كل شيء نسبي، وأن أحدا لا يعلم حقيقة ما حدث في مصر، بالرغم من مشاركتها ودعمها الكامل للانقلاب؛ تبنى هذا التوجه كثير من مؤيدي المنقلب بعد اطمئنانهم لبسط سيطرته، وقيادته جيشه للخلاص من عدوهم النفسي، وقيامه بالنيابة عنهم بالعمل القذر، ثم غسله وتجفيفه الأيدي بمنشفة أكثر اتساخا، نسجت بخيوط خبث أبالسة يصبون في آذانهم المبررات السياسية والدينية لكل ما جرى ليل نهار، حتى وصلوا جميعا إلى حالة من الرضا والقدرة على المواجهة المتبجحة للاتهامات الموجهة ضدهم. مات ضمير صديقتي إثر تناوله جرعة زائدة من المخدر الإعلامي، وركنت هي إلى الاقتناع بأن لكل مبدأ وجهين، فما أراه صوابا قد تراه هي خطأ والعكس، وبذلك صيرت قضية الانقلاب مجرد وجهة نظر.
فهل حقا كل شيء نسبي؟
لنعرف الإجابة عن هذا السؤال لا بد أولا أن ننفذ لجذور النسبية، لنبدأ:
ظهر “المذهب الإنساني”، كحركة فلسفية أدبية بدأت في القرن الرابع عشر بأوروبا، كرد فعل لتجاهل احتياجات وحريات وتساؤلات إنسان العصور الوسطى، التي صنفها الكهنة أموراً مادية شيطانية، فبدأ بإصلاح ديني ليصل إلى إنكار كل ما يمت إلى الدين بصِلة.
نفى “المذهب الإنساني” وجود مرجعية أخرى سوى العقل، فألقى رواده بالعامة في بحر الضياع والفراغ، حيث لا يجد الإنسان برا ليرسي عليه سفينة قناعاته، فقراراته مرهونة بهواه، فإذا ما ارتأى مراده في أمر يقوم العقل بإيجاد مبرراته التي قد لا تقنع الآخر بالضرورة، لكنها تسبب لصاحبها حالة من الراحة الكاذبة والخلاص من الشعور بالذنب.
اعتمادا على الفكر الإنساني، نشأت “السوفسطائية” كمذهب فكري فلسفي إبان نهاية القرن السادس في بلاد الإغريق، وهي فلسفة عملية تقوم على الإقناع لا على البرهان العلمي أو المنطقي، وعلى الإدراك الحسي والظن، وعلى استعمال قوة الخطابة والبيان والبلاغة والحوار الخطابي، والجدل، فأصبحت السوفسطائية رمزا للمغالطة والجدل العقيم واللعب بالألفاظ وإخفاء الحقيقة. استمر الأمر على هذا النحو حتى أوائل القرن العشرين، حيث اكتسبت السوفسطائية صفة “التنوير”.
كفر معتنقو “المذهب الإنساني” بالغيبيات والدين، ومن لم يكفر أخضع كل عقيدة ومبدأ وقيمة لعقله، ونتيجة لذلك، تحولت كل الأفكار التي تدور في محيطه إلى أمور مشكوك في صحتها، بما فيها وجود الإله والرسل، وليبدو إنكاره أكثر رقيا، وليكتسب مكانة مساوية لأصحاب الفكر المطلق، وليتفادى الصراع مع الآخر، وليحفر طريقا له بين الثوابت، لجأ إلى حل يرضي جميع الأطراف، فاخترع “النسبية” كعقيدة جديدة يضرب بها كل العقائد القديمة، ظاهرها احترام الفكر المختلف وباطنها تدميره بالكامل.
من رحم “الإنسانية” و”السوفسطائية” ولد “المذهب النسبي”، الذي يؤكد على رؤية الحقائق في أي مجال من منظور البشر، وتبعا للسياق الذي يقيمون أي قضية من خلاله.
في القرن العشرين، تفرعت نظرية “النسبية الأخلاقية” من مذهبها، وقررت أن جميع الأحكام الأخلاقية ومبرراتها لا ترتكز على حقائق مطلقة، وإنما تتعلق بمعتقدات وتاريخ مجموعة من الأشخاص لديهم معايير مختلفة عن الحق والباطل.
إن “النسبية” تكون مقبولة إذا طبقت على نكهة طعام، أو ذوق في اختيار ديكور منزل، أو فكرة قابلة للتجريب والبحث، لكن تطبيقها على كافة القيم الحياتية يؤسس لمتاهة معقدة متشابكة، سيكون الإنسان هو أول من يضل بين دروبها، وربما يموت ويتحلل بداخلها دون أن يصل إلى مخرج.
إن اعتماد الإنسان على الظن بعيدا عن التفكير المنطقى المبني على إثباتات، يصل به دائما في نهاية المطاف لأن يصبح مناقضا لنفسه، متخبطا، غير قادر على الانحياز لرأي نظرا لجهله وإنكاره حقيقة الأمور، فسيجد نفسه مثلا مؤيدا للانقلاب ومعارضا له، مشجعا على المذابح وثائرا ضدها، مطالبا برأس القاتل وطالبا من أجله الرأفة في نفس الوقت!
يحتاج الإنسان في حياته إلى قواعد راسخة يستند إليها ليصيغ جملا اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية سليمة، إلى مقاييس تحسب عمق وارتفاع ومحيط ومساحة الأحداث والخبرات التي يمر بها، كيف يرفض الإنسان أن تكون أربعة هي حاصل جمع اثنين واثنين، في حين أنه يقبل أن يكون المجرم بطلا في رواية آخرين!
في نظري، لا تعبر نسبية الأخلاق والقيم والمبادئ والإنسانية إلا عن ضمير يتلون بحسب الهوى. وبعد استعراض مسار الفكر النسبي، نعود لمسألتنا، هل يمكن اعتبار قضية الانقلاب وجهة نظر؟
وأجيب، إن إخضاع جريمة إنسانية أو سياسية للنسبية، بغية دفن أحداثها ووقائعها المثبتة بعد الضلوع في ارتكابها، لهو فرع جديد من النسبية أقترح أن يحمل عنوان “النسبية المقززة”.
سيظل ما حدث في 2013 بمصر انقلابا، وستظل رابعة مذبحة، وسيظل إعلام غوبلز قذرا، سيظل الأبيض أبيض، والأسود أسود؛ ستظل الجنة جنة والنار نارا، سيظل الإله موجودا والفطرة واحدة، ستظل في الحياة مسلمات مطلقة لا تقبل المراوغة، سيظل الحق حقا ذا وجه واحد وإن كثرت أوجه الباطل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق