لماذا فشلت أميركا في أفغانستان؟ (1)
في عام 2008، أنشأ الكونغرس الأميركي وكالة "المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان" المعروفة بـ"سيغار" (SIGAR)، بهدف إجراء عمليات التدقيق والتحقيقات المتعلقة ببرامج وعمليات إعادة إعمار أفغانستان والأموال المنفقة عليها، بالإضافة إلى القيادة والتنسيق والتوصيات وتعزيز الاقتصاد والكفاءة والفعالية في إدارة البرامج والعمليات، ومنع وكشف الهدر والاحتيال وسوء الاستخدام في مثل هذه البرامج والعمليات، والتي أنفقت الولايات المتحدة عليها ما يزيد على 146 مليار دولار منذ عام 2002 وحتى عام 2021، لبناء قوات الأمن الوطنية الأفغانية، وتعزيز نظام الحكم، وتقديم المساعدة الإنمائية، والمشاركة في جهود مكافحة المخدرات ومكافحة الفساد.
وبالتزامن مع انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان في أغسطس/آب من العام الماضي، أعدت "سيغار" تقريرا في غاية الأهمية، يعرض للدروس المستفادة من إدارة عملية إعادة الإعمار في أفغانستان على مدار 20 عاما. وهي دروس في غاية الأهمية، ليس فقط للمؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة، بل في أفغانستان أيضا، وللدوائر المعنية ببرامج ومشروعات إعادة الإعمار في الدول التي تعاني من ويلات الحروب والصراعات. فما هذه الدروس؟ وكيف يمكن الاستفادة منها؟
أجبر التدهور الأمني القوات الأميركية على ضخ المزيد من الموارد في المؤسسات الأفغانية. وبعد عقد من التصعيد، بدأت الولايات المتحدة انسحابًا تدريجيًا استمر عقدًا كاملاً، كشف بشكل مطّرد مدى هشاشة الحكومة الأفغانية ومدى اعتمادها على القوات الأميركية.
الدرس الأول: الإستراتيجية
تثير التحديات التي واجهها المسؤولون الأميركيون في إنشاء تحسينات مستدامة وطويلة الأمد أسئلة حول قدرة الوكالات الحكومية الأميركية على وضع إستراتيجيات إعادة الإعمار وتنفيذها وتقويمها، حيث لم يراع توزيع المسؤوليات بين الوكالات دائمًا نقاط القوة والضعف لدى كل وكالة.
وهذا يعني أنه لا توجد وكالة بمفردها لديها العقلية والخبرة والموارد اللازمة لتطوير وإدارة إستراتيجية إعادة بناء أفغانستان. وقد أدى هذا التقسيم للعمل إلى إستراتيجية ضعيفة، فبينما كانت الإستراتيجية مرتبطة في البداية بتدمير القاعدة، نمت بشكل كبير لتشمل هزيمة طالبان، وهي جماعة راسخة بعمق في المجتمعات الأفغانية. ثم توسعت مرة أخرى لتشمل المسؤولين الأفغان الفاسدين الذين قوّضوا الجهود الأميركية في كل منعطف.
في غضون ذلك، أجبر التدهور الأمني البعثة الأميركية على ضخ المزيد من الموارد في المؤسسات الأفغانية. وبعد عقد من التصعيد، بدأت الولايات المتحدة انسحابًا تدريجيًا استمر عقدًا كاملاً، كشف بشكل مطّرد مدى هشاشة الحكومة الأفغانية ومدى اعتمادها على البعثة الأميركية.
الدرس الثاني: الجداول الزمنية
كانت الحكومة الأميركية تقلل باستمرار من تقدير الوقت المطلوب لإعادة بناء أفغانستان، وتضع جداول زمنية وتوقعات غير واقعية، أعطت الأولوية للإنفاق السريع، مما زاد من الفساد وقلل من فعالية برامج إعادة الإعمار.
بحسب الخطط، فإن هذه الجداول الزمنية غالبًا ما تتجاهل الظروف على الأرض، مما أدى إلى اللجوء إلى تسريع الإنفاق والتركيز على أهداف قصيرة الأجل وغير مستدامة، لا يمكنها أن تخلق الظروف للسماح بالانسحاب الأميركي المنتصر.
وبدلاً من الإصلاح والتحسين، وجدت المؤسسات الأفغانية وأصحاب النفوذ طرقًا لاستمالة الأموال لأغراضهم الخاصة، مما أدى إلى تفاقم المشكلات واستمرار المسؤولين الأميركيين في تجاهل الظروف على الأرض، فاستمرت القوات والموارد في الانخفاض على مرأى ومسمع من عجز الحكومة الأفغانية عن معالجة عدم الاستقرار أو منعه من التدهور.
الدرس الثالث: الاستدامة
العديد من المؤسسات ومشاريع البنية التحتية التي أقامتها الولايات المتحدة لم تكن مستدامة، فهي بمثابة أساس لبناء المؤسسات الضرورية للحكومة والمجتمع المدني والتجارة، للحفاظ على البلاد إلى أجل غير مسمى. ومع ذلك، فشلت الحكومة الأميركية في كثير من الأحيان في ضمان استدامة مشاريعها على المدى الطويل، وتم إهدار المليارات من دولارات إعادة الإعمار في مشروعات لم يتم استخدامها أو أصبحت في حالة سيئة، حيث دفعت المطالبات بإحراز تقدم سريع، المسؤولين الأميركيين إلى تحديد وتنفيذ مشاريع قصيرة الأجل، دون اعتبار لضعف قدرة الحكومة الأفغانية، والاستدامة على المدى الطويل.
علاوة على ذلك، فإن الفساد المستشري يعرّض الأموال الأميركية المرسلة إلى الحكومة الأفغانية لخطر التبديد والاحتيال وسوء المعاملة، مما دفع المسؤولين الأميركيين إلى تقديم معظم المساعدة خارج قنوات الحكومة الأفغانية. وهذا يعني أن المسؤولين الأفغان لم يكتسبوا خبرة في إدارة ودعم مشاريع إعادة الإعمار الأميركية على المدى الطويل. ونتيجة لذلك، حتى عندما كانت البرامج قادرة على تحقيق نجاح قصير الأجل، فإنها غالبًا لا تدوم، لأن المسؤولين الأفغان عن هذه البرامج كانوا سيئين من حيث التجهيز والتدريب، ويفتقدون إلى الحافز للقيام بذلك.
فشلت الحكومة الأميركية في كثير من الأحيان في ضمان استدامة مشاريعها على المدى الطويل، وتمَّ إهدار المليارات من دولارات إعادة الإعمار في مشروعات لم يتم استخدامها أو أصبحت في حالة سيئة.
الدرس الرابع: الأفراد
عدم قدرة حكومة الولايات المتحدة على تعيين الأشخاص المناسبين في الوظائف المناسبة في الأوقات المناسبة، كان أحد أهم إخفاقات المهمة، وأحد أهم عوامل صعوبة إصلاحها. فغالبًا ما كان الأفراد الأميركيون في أفغانستان غير مؤهلين وضعيفي التدريب، حيث كان من الصعب الاحتفاظ بالمؤهلين منهم، حيث كانوا يتناوبون باستمرار، مما يترك الخلفاء بعدهم يبدؤون من الصفر ويرتكبون أخطاء مماثلة من جديد، مما كان له تأثيرات مباشرة على ضعف جودة إعادة الإعمار، فلم يكن هناك -في كثير من الأحيان- عدد كافٍ من الموظفين للإشراف على الإنفاق، ولم يكن هناك عدد كافٍ من المؤهلين للقيام بذلك، وخصوصاً بالنسبة للوكالات المدنية، مثل وزارة الخارجية أو الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، مما أجبر وزارة الدفاع على ملء الفراغ، الأمر الذي أدى إلى خلق توترات مع الوكالات المدنية.
الدرس الخامس: انعدام الأمن
قوّض انعدام الأمن بشدة جهود إعادة الإعمار، فقد كان غياب العنف شرطًا مسبقًا حاسمًا لكل ما حاول المسؤولون الأميركيون القيام به في أفغانستان، ومع ذلك كانت جهود الولايات المتحدة لإعادة بناء أفغانستان تتم أثناء تمزيقها. فعلى سبيل المثال، أصبحت مساعدة الأفغان على تطوير عملية انتخابية ذات مصداقية، أكثر صعوبة من أي وقت مضى بسبب تفاقم حالة انعدام الأمن في جميع أنحاء البلاد بشكل مطرد، مما أدى إلى تخويف الناخبين، ومنع تسجيلهم، وإغلاق مراكز الاقتراع في يوم الانتخابات.
في المناطق النائية حيث تنافس طالبان على السيطرة، لم يتمكن المسؤولون الأميركيون من تحقيق مكاسب كافية لإقناع الأفغان القرويين الخائفين بفوائد دعم حكومتهم. وكذلك الحال بالنسبة للتطور الطويل الأمد لقوات الأمن الأفغانية، فقد شهد عددا من التنازلات الضارة، بسبب انعدام الأمن المتزايد، حيث لا يمكن حماية المقاتلين السابقين من الانتقام إذا عادوا إلى مجتمعاتهم.
الدرس السادس: السياق
لم تفهم حكومة الولايات المتحدة السياق الأفغاني، وبالتالي فشلت في تكييف جهودها وفقًا لذلك.
فقد تطلبت إعادة بناء أفغانستان بشكل فعّال فهمًا تفصيليًا للديناميكيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلد. ومع ذلك، كان المسؤولون الأميركيون يعملون باستمرار في الظلام، بسبب صعوبة جمع المعلومات اللازمة. كما فرضت الحكومة الأميركية بطريقة خرقاء النماذج التكنوقراطية الغربية على المؤسسات الاقتصادية الأفغانية، فكان هناك قوات أمن مدربة في أنظمة الأسلحة المتقدمة لم يتمكنوا من فهمها، ناهيك عن الحفاظ عليها، كما تمّ فرض سيادة القانون رسميًا على دولة عالجت 80-90% من نزاعاتها بوسائل غير رسمية.
من دون هذه المعرفة، غالبًا ما قام المسؤولون الأميركيون بتمكين أصحاب النفوذ الذين استغلوا السكان، أو حولوا المساعدة الأميركية بعيدًا عن المستفيدين المقصودين، لإثراء وتمكين أنفسهم وحلفائهم. كان الافتقار إلى المعرفة على المستوى المحلي يعني أن المشاريع التي تهدف إلى التخفيف من حدة الصراع غالبًا ما كانت تؤدي إلى تفاقمه، بما في ذلك، المتمردون الذين تم تمويلهم عن غير قصد.
الدرس السابع: المراقبة والتقويم
نادرًا ما أجرت الوكالات الحكومية الأميركية عمليات رصد وتقويم كافية لفهم تأثير جهودها، من أجل تحديد ما يصلح منها وما لا يصلح، وما الذي يجب تغييره نتيجة لذلك، مما أدى إلى عدم وجود فحوص دورية للواقع، واعتبار المشروع الذي أكمل مهامه المطلوبة مشروعاً "ناجحاً"، سواء حقق أهدافه أم لم يحققها.
لقد تم التقليل من التأكيد على جهود الحكومة الأميركية للرصد والتقييم في أفغانستان، بدلاً من ضمان تصميم البرامج بشكل جيد، وتكييفها بحسب الحاجة. ونتيجة لذلك، أضاعت حكومة الولايات المتحدة العديد من الفرص لتحديد العيوب الجسيمة في تدخلاتها، فعرّضت حياة الأفراد والمدنيين الأميركيين والأفغان وقوات التحالف للخطر، وقوضت التقدم نحو الأهداف الإستراتيجية.
يشرح هذا التقرير أسباب الهزيمة التي منيت بها الولايات المتحدة في أفغانستان، ومدى الفشل الذي منيت به الولايات المتحدة في إدارة أهدافها في أفغانستان على مدى 20 عاماً، أنفقت عليها وزارة الدفاع الأميركية 837 مليار دولار، وقتل فيها 2443 من قواتها و1144 من حلفائها، وأصيب فيها 20 ألفا و666 جنديًا أميركيًا، كما قتل فيها حوالي 66 ألف جندي أفغاني، وأكثر من 48 ألف مدني أفغاني، وأصيب منهم حوالي 75 ألف شخص بحسب التقديرات الأميركية.
فكيف استفادت الولايات المتحدة من هذا التقرير؟ وكيف يمكن لحركة طالبان والشعب الأفغاني الاستفادة منه في بناء مستقبل أفغانستان، وبناء الأمة الأفغانية على أسس أصيلة راسخة؟
(يتبع..)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق